صحف وآراء مجتمع

الانتخابات البلدية والاختيارية: نجاحات شكلية وتراجع عن مسار الإصلاح

  * أديب نعمة

أولا، أحيي جميع الأصدقاء وغير الأصدقاء ممن خاضوا الانتخابات البلدية والاختيارية في الجولتين السابقتين من منطلق المواطنة والحقوق ومواجهة مصادرة حق المواطنين في قرارهم السياسي الوطني وفي إدارة شؤون حياتهم المحلية. والتحية والتقدير موصولان لمن سيخوضون التجربة في الجولات القادمة.

ثانيا، اعتذر أيضا عن مخالفتي للآراء التي تبالغ في التقييم الإيجابي لهذه الانتخابات، وبعض التصريحات والأفكار النمطية التي تتكرر في الأحاديث المباشرة او على وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والتي تعدد ما تعتبره نجاحات تحققت او قيد التحقق، وهي في رأيي مبالغات، لا بل أن بعضها مغالطات صريحة.

في تقييمي العام، ومن منظور كلي، فإن الانتخابات البلدية والاختيارية شكلت خطوة الى الوراء في مسار الإصلاح الشامل الذي يحتاج اليه لبنان. إن ما يجري التسويق له من تقدم لا يعدو كونه شكليات بديهية، في حين ان التراجع هيكلي وعميق الدلالة، ويتطلب تغييرا جذريا في النظرة الى الانتخابات البلدية (والنيابية لاحقا) تعيد الاعتبار الى ما هو جوهري، وتضع الثانوي في مقامه المناسب. وحسب رأيي فإن الانتخابات البلدية والاختيارية في جولتيها الأولى والثانية (وهو ما سيتعمق في الجولات اللاحقة في البقاع والجنوب وبيروت)، تساهم في إعادة انتاج الديناميات السياسية والاجتماعية التقليدية التي ترسخ نمطا من بناء السلطة والعلاقات المجتمعية خارج نطاق مفهوم المواطنة وحقوقها، حيث لا يزال موقع أصحاب هذه الرؤية هامشيا، لا بسبب ضعف أصلي (دون استبعاد ذلك) بل بسبب مجمل البيئة السياسية والثقافية المحيطة، وطنيا ومحليا، التي تشجع على إعادة انتاج الاستقطابات والديناميات السياسية والاجتماعية التقليدية نفسها.

نجاح في اجرائها وفشل في مضمونها
أشير أولا الى بداهة الزعم ان حصول الانتخابات البلدية في موعدها هو نجاح للحكومة في احترام المواعيد الدستورية بعد ان كان التأجيل هو سيد الموقف. لكنه نجاح بديهي وبدائي، لا يمكن لنا الاحتفاء به وهو لا يتناسب على الاطلاق مع التفاؤل الإصلاحي الذي عبر عنه خطاب القسم والبيان الوزاري، لا بل تشكيل الحكومة نفسها. فما هو متوقع منهم – من منظور مواطني – هو أكثر من التزام بالمواعيد. ما هو منتظر منهم يجب ان يشمل الشروط التي تتم فيها العملية الانتخابية وصحة التمثيل وغياب المخالفات الفاضحة. وهنا لا يكفي مرة أخرى الاحتفاء بالهدوء وضبط الامن (الذي لم يطل منع إطلاق الرصاص احتفالا)، في حين ان الانتخابات البلدية تمت من دون تفعيل هيئة الرقابة على الانتخابات، وفي ظل غياب أي رقابة على الانفاق الانتخابي، وعلى وسائل الاعلام والخروقات الجوهرية في هذا المجال، والضغوط من كل نوع الى تمارس من اجل حسم نتائج الانتخابات البلدية مسبقا. وهذه كلها ليست خروقات، بل هي القاعدة السائدة في هذه الانتخابات.

فولكلور التنمية المحلية
من جهة أخرى، وعلى سبيل المثل، ما معنى الزعم المتكرر ان الانتخابات البلدية ودور البلديات هو تنموي بامتياز! وما القصد منه؟ هل ان دور الحكومة والمجلس النيابي مؤسسات الدولة الأخرى ليس دورا تنمويا؟ ام المقصود ان البلديات هي هيئات مسؤولية عن القيام بدور كبير في التنمية المحلية بشكل خاص؟ والأرجح ان هذا تكرار نمطي لمحاولة الإيحاء بالطابع غير السياسي (واستطرادا غير العائلي أيضا) للمجالس البلدية، وتأكيد استقلالية نسبية للمجالس البلدية ودورها وانتخاباتها عن المستوى السياسي، وعن الانتخابات النيابية مثلا.

الا ان ما يحصل عكس ذلك تماما. وما شاهدناه على وسائل الاعلام هو ان نواب المنطقة المعنية، ومسؤولي الأحزاب فيها هم الذي يصرحون ويحتفلون بنتائج الفوز الانتخابي. نادرا ما نشاهد تصريحا لرئيس بلدية منتخب مثلا، بل النائب او النائب السابق او الزعيم المحلي هو الذي يصرح ويحلل ويرقص احتفالا، او يطلق أنصاره النار في الهواء. لذلك يحق لنا افتراض ان الانتخابات البلدية لم تكن عن التنمية المحلية بقدر ما كانت صراع زعامات على رسم حدود نفوذهم تحضيرا للانتخابات النيابية اللاحقة، او انتقاما من خسائر سياسية وشعبية لحقت بهم مع التغيرات الكبيرة الأخيرة في لبنان والمنطقة.

العائلية واللامركزية الموسعة: هل يتوافقان؟
زعم اخر يتعلق بالطابع العائلي للانتخابات البلدية، التي يجري الاحتفاء بها أحيانا من قبل الزعماء السياسيين التقليديين والأحزاب التقليدية، لتبرير انكفائهم او انسحابهم من المواجهة المباشرة. ويتم ذلك تحت عنوان التماسك الاجتماعي طورا، ووحدة القرية او البلدة طورا اخر، والتفاهم او التوافق والتقاسم بين العائلات الكبيرة (ونادرا الصغيرة) …الخ. ويمكن ان يحمل هذا التوجه بعض الإيجابية أحيانا في تأكيد المسافة عن الاستقطاب السياسي المباشر، او في التخفيف من حدة المواجهات الداخلية، الا ان السائد أيضا كان الانقسامات العائلية واستقطابها ضمن لوائح متقابلة، مما أدى الى مستوى إضافي من ديناميات الاستقطاب التقليدية التي يمكن توظيفها لاحقا في تكريس الديناميات السياسية التقليدية. هذا عدا عن كون ذلك يرسخ تشوها خطيرا جدا في العمل البلدي ومبادئه التي يجب ان تقوم على مبدأ السكن ضمن النطاق المحلي لا على أساس الانتخاب البلدي حسب مكان القيد في سجل النفوس. وبالتالي فإن الديناميات العائلية والقرابية، معطوفة على الانتخاب المحلي حسب مكان القيد لا السكن، يهمش علاقة المواطنة والانتماء الجغرافي المحلي، وينتهك حقوق السكان الذين لا يتطابق سكنهم مع قيدهم. وسوف يكون لذلك آثار خطيرة جدا ومناقضة لفلسفة اللامركزية التي هي قيد البحث اليوم، حيث انه لا يعقل التفكير في نظام لامركزي مع الإبقاء على حصر الاقتراع للمجالس البلدية (والإقليمية الأخرى) على أساس مكان القيد. ويجب الاعتراف ان هذه الانتخابات تشكل استمراراً في هذا التقليد المخالف لمنظور المواطنة والتنمية المحلية، لا بل انها عززته في عز التصريحات الحكومية والحزبية عن العمل من اجل اللامركزية الموسعة.

إبطال معظم النتائج
نقطة أخرى لا بد من التوقف عندها. مسألة المال الانتخابي والسياسي والانفاق الانتخابي لا يمكن اهمالها. كما لا يمكن مقاربة هذه المسألة بشكل ساذج يقتصر على “الرشوة” الانتخابية التي تضبط بالجرم المشهود، ويحال مرتكبها الى القضاء. هذه تصور تبسيطي وليس الأكثر أهمية. الانفاق السياسي الانتخابي في الانتخابات البلدية كان كبيراً جداً ويفوق أي معدلات منطقية. ولو كان هناك هيئة وطنية تراقب الانتخابات والانفاق لتم حتما ابطال الانتخابات البلدية كلها او في معظم البلدات والمدن على الأقل. هل يجتاح ذلك الى اثبات صالح للاستخدام في القضاء؟ هذه أيضا مقاربة تبسيطية. أينما ذهبت وتجولت بين القرى والبلدان والمدن واحيائها، يتحدث الناس عن إنفاق كبير، وعن دفع مئات او آلاف الدولارات للعائلات، لا بل كلهم يتحدثون عن مبالغ كبيرة جدا تنفق من اجل ضمان النتائج لا على مستوى القرية المحددة فحسب، بل من ضمن حسابات السيطرة على اتحادات البلديات في المناطق. هذا الانفاق واضح وضوح الشمس، وطلب الاثبات عليه يشبه الى حد كبير من يطلب منك اثباتا على ان الشمس تسطع في السماء!

العزوف عن المشاركة
هذه بعض النقاط التي تمس جوهر العملية الانتخابية التي تجري حاليا. ولن اتطرق على الجانب السياسي منها (الضغوط السياسية وائتلافات الأحزاب والسياسيين) وما اذا كان تتشكل خرقا لحرية الاختيار وضغطا جوهريا على تصويت المواطنين، فهذا شأن قد اتطرق اليه في مقال لاحق. ولكن ضمن التقييم المحدود لمسار الأمور، الترجيح هو ان الانتخابات اعادتنا الى الوراء اكثر مما جعلتنا نتقدم. ولعل احجام المواطنين عن المشاركة الكثيفة هو بحد ذاته مؤشر إضافي لا على هامشية اهتمامهم بالشأن العام، بل ربما هو مؤشر ذكاء وتوقع لما سيكون عليه الوضع في المستقبل حيث انهم لا يتوقعون أي تغيير حقيقي، اقتناعا منهم بلا جدوى الخطوات الجزئية. وفي هذه الحال، فإن مشاركتهم في الشأن العام بما في ذلك الانتخابي الوطني والمحلي، بات يتوقف على القيام بخطوات جريئة وجذرية على طريق الإصلاح المواطني والديمقراطي الحقيقي، لا الشكلي والفولكلوري. ففي نهاية المطاف، المطلوب اصلاح النظم الانتخابية – بما في ذلك، بل أولا النيابة – على طريقة رفع السرية المصرفية (على أمل ان لا يجري أيضا إفراغها من مضمونها والالتفاف عليها).

  * نشرت على موقع المدن بتاريخ 13 أيار 2025