زاهي البقاعي
أعلنت هيئة الانتخابات الحكومية التي عيّنها الرئيس التونسي قيس سعيد نفسه عن مشاركة 27.5 بالمائة فقط من الناخبين في الاستفتاء على الدستور الذي جرى في 25 تموز/ يوليو. وأن 92 % من المقترعين صوتوا لصالح الدستور الذي أعده سعيد على مقاسه. وفي ما تعتبر المعارضة التونسية أن هذه الارقام مضخمة، بالنظر إلى ما رافق العملية الانتخابية من إضافة مليونين من التونسيين بشكل آلي إلى سجلات الناخبين، وتمديد وقت التصويت 6 ساعات كاملة بعد أن ظهر ضعف الاقبال على هذه المراكز سواء في العاصمة أو المحافظات، وتيسير الوصول إلى مكاتب الاقتراع. فضلاً عما تخلل العملية الانتخابية من مخالفات في استعمال العازل واجهزة الدولة الاعلامية الرسمية وبث الدعايات للتصويت بنعم، وتجييش مؤسساتها لهذه المناسبة التي ستنقل البلاد من حال الفوضى إلى الانتظام والدينامية، وكسر الصمت الانتخابي وغيرها. لذا لم يكن من قبيل الصدف مع بدء ظهور النتائج نزول أعداد صغيرة للاحتفاء سرعان ما التحق بهم الرئيس نفسه، من أجل إيهام الرأي العام بأن البلاد دخلت في مرحلة جديدة تتطلب إعداد قانون انتخابي وإنشاء المحكمة الدستورية وقرارات جديدة تدفع بها إلى الأمام.
وفي كل الحالات، فقد بقي أكثر من 70 بالمائة من الناخبين المسجلين في بيوتهم، ولم يشاركوا في الاستفتاء، ولدى النظر إلى المشاركة ونتائج التصويت في الداخل والخارج ( التونسيون متواجدون في أكثر من 46 دولة ) ترتفع نسبة الاحجام عن المشاركة إلى 75% وأكثر. وفي تحليله للأرقام والتقديرات، يقول مدير مؤسسة سيغما لسبر الآراء حسن الزرقوني، إن 21 بالمائة من الناخبين الذين لم يشاركوا في الاستفتاء امتنعوا عن المشاركة فيه عمداً وقاطعوه، و3 بالمائة شاركوا وصوّتوا بـ “لا”، ما يعني أن مجموع المعارضين يصل إلى 24 بالمائة، ويؤكد في الوقت نفسه أن نسبة المشاركة في الاستفتاء كانت في حدود الـ 25 بالمائة فقط، وليس 27 كما تقول الهيئة.
ومرد عدم المشاركة أو المقاطعة تختلف بين معارضة للمسار الذي يختطه الرئيس برمته، أو عدم الاقتناع بعدد من فصول مشروع الدستور، أو التخوف من الديكتاتورية والحكم الاستبدادي، واعتبار أن المنحى المعتمد في الدستور من شأنه تعميق المآزق السياسية والاقتصادية التي تعيشها تونس منذ أكثر من عقد والتي ستتصاعد في المقبل من الايام تبعاً لتوقعاتهم.
وتحذر العديد من القراءات من أنه ينبغي التفريق بين انتخابات تشريعية أو رئاسية، وبين استفتاء على دستور يفترض أنه يكتب لأجيال قادمة، ويؤسس لعقد اجتماعي مستقبلي لشعب على مدى عقود من الزمن. ما يتطلب أن يرافقه خوض نقاشات مجتمعية وسياسية وقانونية ونقابية عامة على امتداد أشهر أو سنوات، تتوج بحيازة أغلبية واسعة، ما يعبر عن قبول أكثري بما يتضمنه. وهو قبول يمكن ترجمته بالموافقة على ما يتضمنه من مواد وأحكام. كما حصل في دستور العام 2014 الذي حصل على موافقة 200 نائب من مشارب فكرية وسياسية متعارضة من بين 217 نائباً من أعضاء المجلس التأسيسي، واستمر النقاش حوله قرابة 3 سنوات.
ومع بروز النتائج وظهور مختلف المواقف والردود السياسية تطرح تساؤلات عن مرحلة ما بعد الاستفتاء، وكيف سيدير سعيد البلاد، وكيف ستتعامل المعارضة مع سياسته وخياراته الفردية وفرضه الأمر الواقع على مؤسسات البلاد التشريعية والتنفيذية والنقابية. وهي معارضة تجمع طيفاً واسعاً من التمثيل السياسي والاجتماعي، ولا تقتصر كما يردد سعيد واعلامه على جمعية النهضة بجذورها الأخوانية الاسلامية، التي قادت في غضون السنوات المنصرمة البلاد إلى الفوضى والعجز عن الخروج من الأزمات.
وقد ظهر أن “نسبة المشاركة في الاستفتاء ضعيفة جداً على المستوى السياسي والتمثيلي، لأنها عملياً نقلت الرئيس قيس سعيد نفسه في آخر عملية انتخابية رسمية حدثت في العام 2019، من حيازة ما نسبته 72 بالمائة، أي قرابة ثلثي الجسم الانتخابي في الدور الثاني، إلى 25 بالمائة فقط من الجسم الانتخابي راهناً، أي أنه فقد في غضون ثلاثة أعوام نحو ثلثي ناخبيه، وهو مقياس فعلي في العملية السياسية، ويدلل على حجم التراجع الذي أصاب شعبيته وموقعه ودوره”.
ومن المعلوم دولياً أن إضفاء الشرعية على أي نص دستوري، يتوجب أن يحوز على ما يوصف بأنه الحد الأدنى وهو 40 بالمائة من الجسم الانتخابي، فيما ترتفع النسبة إلى أكثر من ذلك في كثير من الدول التي تحرص على نيل أكثرية وازنة وحقيقية بالمقارنة مع سواه من نصوص وقوانين رسمية. ما يعني أن المشروعية السياسية والانتخابية التي حصل عليها سعيد ضعيفة، بل وهزيلة، وهو ما يدفع بالكثيرين إلى رفض الاعتراف بالدستور المفروض و المطالبة بالتمسك بدستور العام 2014. خصوصاً مع تهاوي ما روّج له سعيد وماكنته الانتخابية من أن ما يقوم به يحظى بالمساندة الجماهيرية الحاشدة ويمثل استجابة لإرادة الشعب. فقد أثبتت صناديق الاقتراع العكس، في عملية هو من نظمها وأشرف عليها، وحدد قواعدها بمفرده. والأهم من ذلك كله أنه هو من صاغ الدستور على مقاسه. وعليه، فقد اعتبر كثير من المراقبين على ضوء النتائج التي لم تتجاوز الموافقة على نصوصه ربع الشعب التونسي، أنها أضعفت سعيد أكثر مما زادت في رصيده داخلياً وخارجياً. وتعتبر أوساط تونسية معارضة أنها إزاء وضع على هذا النحو ستنتقل بنضالها من مواجهة الانقلاب على الدستور إلى النضال ضد الديكتاتورية، لأن سعيد رغم هزالة النتائج سيعمل بعدها على تركيز سلطته، ومعه ستنتقل بمختلف أطيافها إلى مرحلة المقاومة المفتوحة بالطرق الديمقراطية.
وكانت تونس تعيش قبل الاستفتاء الاخير على ما جاء في دستور العام 2014، وهو دستور مثير للجدل في بعض فصوله ومواده. أما الدستور الجديد الذي تم الاعلان عنه على الملأ في 30 حزيران الماضي، دون أن يجد نقاشاً معمقاً له في المجلس النيابي الذي سبق وأعلن سعيد عن حله، ومعه هيئة الاشراف العليا على القضاء وغيرها من مؤسسات سياسية وقانونية. كما أن الاستفتاء على دستور بنعم أو لا، على نص من شأنه أن يحكم حياة البلاد السياسية والقانونية إلى سنوات إن لم نقل لعقود، مسألة عفا عليها الزمن، خصوصاً إذا ما راقبنا ما شهدته البلاد قبل الاستفتاء من حملات جرى بموجبها شيطنة المعترضين عليه، وهنا نتحدث عن فئات ذات انتماءات ومشارب ومنابت اجتماعية واسعة. بل بلغ الأمر تهديد كل من يقف ضد تمريره بعظائم العقوبات.
والملفت أنه ما إن أُعلن النص ونُشر حتى انبرى رئيس لجنة إعداده الصادق بلعيد لنفض يده منه، مؤكداً أن هذه ليست النسخة التي توصلت إليها اللجنة التي ناقشته على مدى أسابيع. إذ يتضمن الدستور مواداً ليست من صنع وتوليف اللجنة التي تولت المهمة بناءً على تكليف من سعيد نفسه. ما يعني أنه أضاف وحذف من النص الأصلي ما يتلاءم مع توجهاته. من هنا وفي مواجهة الحملة الرئاسية للتصويت بنعم ، رفعت العديد من الأحزاب والقوى السياسية شعار التصويت بلا، بينما قرر آخرون مقاطعة الاستفتاء أصلاً. أما الاتحاد التونسي للشغل ففي بيان مسهب أصدره قال إن دستور العام 2014 لا يزال نافذاً حتى تاريخه، وهو لا يخوِّل رئيس الجمهورية عرض دستور جديد على الاستفتاء. لكن في موقف لاحق ترك الحرية لأعضائه بالتصويت عليه من عدمه. والدستور الجديد مؤلف من 46 فصلاً تقود جميعاً إلى تكريس حكم رئاسي فردي في البلاد من خلال الصلاحيات الواسعة المعطاة لرئيس الجمهورية. صلاحيات تجعل الوزراء والنواب مجرد موظفين عنده لمساعدته على ممارسة مهامه الفضفاضة، وتنيط به قيادة الجيش وتعيين السلك القضائي والدبلوماسي وغيرها من صلاحيات تجعله خارج اطار المساءلة والمحاكمة. وبالطبع نص على هذا النحو أعجز عن اخراج البلاد من مآزقها الدستورية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتخبط بها، بل يضاعف غرقها. فماذا يتضمن الدستور تحديداً؟
…يتبع حلقة ثانية وأخيرة.
Leave a Comment