وقعت تركيا بين فكي كماشة، طرفها الأول الولايات المتحدة الاميركية، وطرفها الثاني روسيا. وبين مصالح الدولتين اختارت تركيا أن ترضى بما اُملي عليها، وتخلت بحدود عن مشروع اجتياحها، ومشروع تغييرها الديموغرافي للشمال السوري. ترامب خاطب الرئيس التركي بقوله “لا تكن احمق”، وهو نفسه نقل عن اردوغان قوله “إنه يريد بشدة وقف اطلاق النار أو تحقيق وقف العمليات”، ليتابع فيقول ” بالمثل يريد الاكراد أن ينجح الأمر ويتحقق الحل النهائي”. في موقف معترض يرى الاوروبيون ” فرنسا ـ المانيا ـ انكلترا ” أن الذي حصل ليس وقفاً لاطلاق النار إنه ” مطلب باستسلام الاكراد”. ورأى مكرون أن العملية التركية “ضرب من الجنون” فقد ساد في أيام القتال الأولى أن التفاهمات الاميركية التركية تبدو اقرب إلى تصور أنقرة عن “المنطقة الآمنة” التى بقى تنفيذها مرتبطا بنتائج محادثات اردوغان مع الرئيس الروسي عشية إنتهاء مهلة وقف اطلاق النار. سبقه أنه قد يكون أحد الخيارات اعتماد الطريق السريع ما بين الحسكة وحلب ” خط التماس” الفاصل بين الجيش التركي وفصائل موالية من جهة، “والوحدات” الكردية والجيش السوري من جهة اخرى، على أن تقيم تركيا اثنتي عشرة نقطة مراقبة، وتسيّر روسيا دوريات عسكرية. ذلك أن ما تريده تركيا هومنطقة من جرابلس على نهر الفرات إلى فش خابور على نهر دجلة بطول 444 كلماً وبعمق 32 كلماً، تكون هذه المساحة خالية من “الوحدات” الكردية لأن الخوف خلفيته أن يكون الاكراد في شمال شرق سوريا على تماس مع الاكراد في جنوب تركيا، مما يشكل منطقة اضطراب للاتراك وبداية مشاريع استقلالية هذه المنطقة التى تريدها “منطقة آمنة” تكون بقيادة تركية، وخالية من الوحدات الكردية ومن سلاحها الثقيل، تفتح الباب لإعادة ثلاثة ملايين سوري لاجئين إلى تركيا، ما يحدث تغييراً ديموغرافياً في المنطقة على حساب الكرد. في المفاوضات الاميركية التركية السابقة، حددت واشنطن منطقة تمتد ما بين تل أبيض ورأس العين وبعمق 14 كلماً، ووافقت فقط على آلية امنية وليس “منطقة آمنة”، مع حديث اميركي عن وجود تركي مؤقت، بينما الطلب التركي وجود عسكري دائم. بعد الهدنة توجه وفد اميركي إلى منطقة شرقي الفرات لشرح التفاهمات مع تركيا للوحدات، والمتضمن انسحاب الوحدات وسحب السلاح الثقيل من القطاع الأوسط إلى عمق 30 كلماً قبل لقاء اردوغان وبوتين ما بين تل أبيض ورأس العين، أي ما امتداده 120 كلماً، وتتعهد تركيا بعدم الدخول إلى عين العرب ذات الغالبية الكردية، مع الموافقة على دخول القوات السورية الحكومية إلى منبج. البيان الاميركي التركي فيه تفهم اميركي للمخاوف الأمنية التركية على حدودها الجنوبية.
وسط احتدام هذه الآراء من المفيد أن نلم بمواقف الأطراف المعنية اميركا ـ روسيا ـ تركيا- سوريا- الاكراد في الصراع فوق التراب السوري.
اميركا أولاً يهمها تنفيذ استراتجية الانسحاب من الشرق الاوسط مع ابقاء عدد قليل من قواتها في قاعدة التنف على الحدود السورية الاردنية، وعدم التصادم مع الجيش الروسي والطلب إلى القوات الاوروبية البقاء بعد انسحابها. وهي مهتمة بالبحث في مستقبل السيطرة على الحدود السورية- العراقية ومصير ابار النفط والغاز التى كانت تحت سيطرة حلفائها، ولا تمانع تفاهما بين قوات سوريا الديمقراطية والنظام السوري. أما روسيا فهي تعلن دائماً أن الوجود الاميركي في سوريا هو وجود غير شرعي، وهي حريصة على منع الصدام بين الجيشين الروسي والاميركي ونشر الجيش السوري في النقاط الحدودية ضمن القرار 2254، وتسهيل الاتفاقات بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية وتركيا ضمن رؤية اتفاق اضنة مع تطويره.
اما تركيا فتستعجل البدء باقامة منطقة أمنية بعمق 32 كلماً تبدأ كمرحلة اولى ما بين رأس العين وتل أبيض ثم يتم توسيعها ما بين جرابلس وفش خابور بمسافة 444 كلماً، وإخراج وحدات حماية الشعب الكردية وسلاحها الثقيل، وإعادة نازحين سوريين، بتنسيق مع موسكو ومفاوضات غير مباشرة مع دمشق وطهران للإتفاق على عدم قيام كيان كردي.
دمشق تتمسك بسيادتها كاملة على الاراضي السورية ولو على مراحل بالتفاهم مع روسيا وإستعادة ادلب مع تفاهمات مع قوات سوريا الديمقراطية بضمانات روسية.
الاكراد يضغطون لمنع الانسحاب الاميركي وتوقيع اتفاق مع دمشق والتنسيق معها لمواجهة الجيش التركي وإستعادة عفرين مع إبقاء الإدارة الذاتية على أن يبحث مصيرها النهائي مستقبلا مع بحث حقوق الاكراد ، شرط أن يطال الإتفاق الحدود دون التدخل في أوضاع المدن مع التشدد في رفض تسليم الدواعش لدمشق والمفاوضة على مستقبلهم مع الدول الغربية.
التوافق الاميركي الروسي أخرج إلى العلن وبسلاسة مجموعة توافقات، أولها نجاح وقف اطلاق النار على الحدود التركية السورية، وثانيها تحديد سحب القوات الكردية الى عمق 30 كلماً بعيداً عن الحدود التركية في المنطقة التى تم اجتياحها ما بين تل أبيض ورأس العين، وثالثها صدور مذكرة تحدد طريقة تدخل وحدات الشرطة العسكرية الروسية وحرس الحدود السوري، رابعها أن يبدأ العسكريون الروس والاتراك تسيير دوريات مشتركة في تلك المنطقة، وخامسها تحديد 15 نقطة مراقبة للجيش السوري على الحدود التركية.
الرئيس الاميركي أشاد بالإتفاق المعقود بين تركيا وروسيا لإخراج المقاتلين الاكراد من منطقة الحدود السورية التركية، وأمر برفع عقوباته عن تركيا مع استعداده لإعادة فرضها وتجديدها في حال فشلت تركيا في التزاماتها. اردوغان من جهته، لوّح باتخاذ الإجراءات الضرورية في حال لم يتم احترام الإتفاقين اللذين جرى لتوصل اليهما مع واشنطن وموسكو لإنسحاب القوات الكردية.
روسيا وتركيا ستسيران دوريات مشتركة في عمق 10 كلم شرق وغرب المنطقة التى سيطرت عليها تركيا التي فرض حجم القوى المعنية باللعبة قبول الاتفاق الروسي التركي في سوتشي وتنفيذ إتفاق اضنة معدلاً ووقف اجتياحها للشمال السوري.
هكذا تبقى الارض السورية مسرحا للتلاعب الدولي والاقليمي وملعباً لتحقيق اهدافه واطماعه، ومعها معاناه الكرد والسوريين عامة، فيحرمون من الحياة الهانئة في وطنهم أو العودة الكريمة إليه.
[author title=”محمد حسن” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]