كتب أحمد مغربي
بعد ترسيم جو بايدن رئيساً ارتاحت بعض العقول إلى فكرة أن العالم يتغيّر، لكن، أليس ذلك شأنه دائماً؟ في المقابل، ربما يشكّل الاتحاد الأوروبي المساحة الأساسية للتغيير الاستراتيجي الآتي مع بايدن. يشبه الأمر إنقاذاً وجودياً، لا أقل من ذلك. لقد سعى ترمب بوضوح إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي. ومع ترمب، سعت أميركا إلى أوروبا مفككة، تكون علاقة كل دولة فيها علاقاتها مع الدول الأوروبية أقل استراتيجية من علاقتها مع واشنطن. وكذلك مال ترمب إلى أن تنمو مساهمة أوروبا المفككة المالية في “حلف الأطلسي”، ما يخفف العبء الاقتصادي عن أميركا، ويديم عمل الحلف (تحت قيادة مطلقة لأميركا) كقوة استراتيجية تُوًازن روسيا (أساساً) أو غيرها، وتشارك أميركا في حرب النفوذ في القارة الأفريقية وغيرها. وبذا، يمكن فهم تقريع ترمب للرئيس ماكرون في لقائهما نهاية 2019، بشأن اعتبار فرنسا أن الحلف “ميت سريرياً” بأثر من تقلص المساهمة الأميركية فيه. وبالنسبة لترمب، بدا الحلف آنذاك مناسباً تماماً كونه أضعف من يتحول إطاراً لقوة عسكرية أوروبية مشتركة، وأقوى من أن يكون كياناً عسكرياً شكلياً، بل إن الإنفاق الأوروبي عليه (خصوصاً ألمانيا) يكاد يكون نزيفاً بطيئاً للاقتصاد الأوروبي. واستطراداً، ينفر دعاة القومية الليبرالية الأميركية (ترمب منهم)، من الحروب الخارجية، إلا إذا شُنّت خدمة لمصلحة أميركية مباشرة لم يعد ممكناً حمايتها بطرق اخرى.
أوروبا الاتحاد قد تصبح “دولة”
ربما يجدر تذكر أن ملمح السيطرة القيادية لأميركا في العالم موضع شبه إجماع في المؤسسة السياسية الأميركية، وفي مساحات كثيرة يتقاطع توجه “أميركا أولاً” لترمب مع “أميركا تعود إلى موقع القيادة العالمية” لبايدن.
في أوروبا، التغيير الاستراتيجي أساسي في العلاقة مع أميركا، ما يعني إنه كذلك على الخريطة الاستراتيجية العالمية. إذ يميل بايدن إلى أوروبا غير مفككة، وذلك مكسب أساسي لأوروبا. ولنلاحظ أيضاً أن الاتحاد الأوروبي فكرة أميركية أساساً، استهلتها الولايات المتحدة عبر مشروع “مارشال” واتفاقات “برايتون وودز” الاقتصادية، فكانت أساس السوق الأوروبية المشتركة ثم الاتحاد الأوروبي. وفي خطابه الأول، تحدث بايدن بوضوح عن “الحليف الأوروبي القوي لأميركا القوية عالمياً”، واتبع ذلك بإبقاء القوات الأميركية الأطلسية في ألمانيا. إذاً، الأرجح أن تنمو أوروبا عسكرياً في ظل رعاية أميركية، تتضح مما أعلنه بايدن من مساندة استراتيجية لأوروبا في المتوسط وأفريقيا والشرق الأوسط (يشكّل ذلك أحد أبعاد عودة التنسيق الأميركي الأوروبي في الملف النووي الإيراني).
في بُعد آخر، تقابل أوروبا المتغيّر الأميركي في وضع ملائم لصعودها استراتيجياً. إذ يتصرف الاتحاد الأوروبي للمرّة الأولى في التاريخ الأوروبي، بوصفه أقرب إلى الدولة الكونفيدرالية. برز ذلك قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، في ظل متغيّرات استراتيجية لجائحة كورونا، مع إقرار الاتحاد الأوروبي موازنة مشتركة أولى تاريخياً بـ2.1 تريليون يوريو. وقد فَرَضَتْ ضرورة دعم الشعوب الأوروبية اقتصادياً في مواجهة كورونا، تنسيق موازنات الدول الأوروبية ضمن ذلك الإطار التريليوني، غير المسبوق.
إذاً، جاء بايدن كأنه على موعد مع أوروبا صاعدة صوب كونها قطب عالمي. إن المسألة الاقتصادية أكثر حساسية مما تبدو، لأن التوجهات الأميركية الاستراتيجية المختلفة كلها، تتفق على منع أوروبا من التحول نداً اقتصادياً لأميركا، وترفض أن يضحى اليورو عملة تداول عالمي مساوٍ للدولار.
روسيا وبريطانيا: معضلة متشابكة
ثمة بعد آخر. تحوط أوروبا دولتان كبريان قد تؤديان دوراً حاسماً في مصيرها، وكذلك الخريطة الاستراتيجية العالمية. إنهما روسيا وبريطانيا. (هواة التاريخ سيهزون رؤوسهم، لأن الأمر يذكر بملامح مشابهة في مراحل سابقة ، كما بعد سقوط نابليون واندحار المشروع النازي).
هنالك تجاذب أميركي- أوروبي بشأن روسيا التي استفادت كثيراً من مرحلة ترمب. تعلن أميركا بايدن ميلها إلى لجم القوة الروسية استراتيجياً، من دون أن يصل ذلك إلى سياسة احتواء واسعة. لذا، فلربما تنفر أميركا أيضاً من إمكانية أن تسعى أوروبا إلى اجتذاب روسيا، على غرار ما حاول ماكرون فعله في بداية رئاسته.
وكذلك ربما نشهد استراتيجية “لقاح كورونا” الذي وصفه وزير الشؤون الخارجية الأوروبي بأنه “بارقة آمل”، في التقريب بين أوروبا التي حضرت روسيا في أفقها تاريخياً بشكل دائم، بل إن الدعوة إلى أوروبا تضم روسيا حضرت تكراراً في أفق أوروبا الحديثة (وبعض مراحل من تاريخها أيضاً).
تشكّل بريطانيا إشكالية لأن خروجها مع “بريكست” سدد ضربة استراتيجية مهمة للاتحاد الأوروبي. ثمة تقليد راسخ في الابتعاد عن أوروبا في لندن، لكن وقائع الاقتصاد العالمي المعاصر يتضارب معه. وليس صدفة أن “لندن المالية” المعولمة قاومت “بريكست” ولا زالت تعارضه. في رؤية مبسطة، تستطيع روسيا أن تعوض الغياب البريطاني، خصوصاً استراتيجياً. ولكن ذلك يتطلب أوروبا قوية كي تمنع هيمنة روسية في القارة، خصوصاً في الدول الشرقية، وكذلك أوروبا الوسطى الذي يشهد تجاذباً شبه صدامي مع تركيا.
الأرجح أن تشكل الصين مساحة اخرى لتفاوت الخطى الأميركية الأوروبية، خصوصاً أن أوروبا متقبلة لـ”طريق الحرير الجديد”، وأبدت ميلاً أقل إلى التصادم مع شركة “هواوي” وشبكاتها من الجيل الخامس للخليوي. وثمة مفارقة تتطلب تحليلاً منفصلاً تتمثل في سعي بريطانيا إلى الانضمام لـ”سوق التجارة الحرة الشامل التقدمي”، وهي التسمية الرسيمة لاتفاق وقعته 13 دولة مع الصين، ويعتبر إطاراً استراتيجياً للنفوذ الصيني. هل تميل بريطانيا الخارجة من أوروبا إلى الكتلة الاقتصادية للصين (ربما توقعاً لإهمالها من قبل الحليف الأميركي مع بايدن، عكس الحالة مع ترمب)؟
يبدو التقارب الأوروبي الأميركي أكثر وضوحاً مع تركيا، وهي الهم الأوروبي المتجدد. وتتعقد الصورة مع دخول روسيا عليها. واستطراداً، ربما تشكل سوريا محكاً مهماً في المتغيرات الاستراتيجية. وقد يتعقد المشهد أكثر إذا تزايد التقارب (أو التضارب) بين طهران (خصوصاً إذا حلت مشكلتها مع الاتفاق النووي) وأنقرة. وبالطبع سيكون المشهد نفسه أشد تعقيداً إذا حدثت متغيرات قوية في الشرق الأوسط، على غرار ما يلوح في أفق الوضع في اليمن. يقتضي الشرق الأوسط والوضع العربي حديثاً آخر.
Leave a Comment