سياسة

الإنتخابات ومسار التغيير في لبنان          

الدكتور بول طبر

في خضم التحضير لخوض معركة الإنتخابات النيابية في لبنان في شهر أيار القادم، يتساءل البعض عن مغزى المشاركة في هذه المعركة من قبل القوى الطامحة لإصلاح النظام، إن لم نقل تغييره. وهذا تساؤل لا يطرحه من فقد أي أمل في “تغيير الأوضاع” في لبنان فقط، وإنما أيضاً بعض الأقلام “اليسارية” التى تجد في تلك المعركة هدراً للوقت والموارد لجهة عدم تمكن المطالبين بتغيير النظام من فعل ذلك، نظراً لصلابة النظام والرجحان الواضح لموازين القوى لصالح القوى الممثلة له.

وينبغي أن يضاف لصالح أصحاب هذا الرأي، وقائع أخرى تصب في تكريس ضعف “القوى المعارضة” المواجهة للنظام القائم والقوى التي تتشارك، كل من موقعها، في الدفاع عنه. لغاية الآن، لم تنجح المجموعات المعارضة للنظام، باستثناء حالات وتجارب نادرة (على سبيل المثال، “إئتلاف شمالنا”)، من اجتراح تحالفات فيما بينها على قاعدة برنامج سياسي حد أدنى، يقود معركة الإنتخابات كخطوة ضرورية في مسار التغيير المنشود.

في مقالات سابقة، تناولت بالتحليل بعض الأسباب السياسية والبنيوية وغيرها التي قد تفسر إلى حد كبير الحالة الإنقسامية والمذرَّرة لمجموعات المعارضة. لذلك ما أود نقاشه في هذا المقال هو أصحاب الرأي القائل بأن كسب معركة الإنتخابات النيابية القادمة كفيلة على الأقل ببدء عملية التغيير المطلوب.

أولاً، لا ضمان مطلق بأن مجرد وصول (بعض) التغييريين إلى البرلمان سيؤدي حتماً إلى تغيير النظام، ولو بصورة جزئية. وذلك يعود بداية إلى سلوك هذه القوى المعارضة بعد نجاحها في الإنتخابات النيابية ولمدة أربع سنوات متتالية: هل ستتصرف وتباشر في معركة التغيير كما وعدت قبل وصولها إلى البرلمان؟ فلا ضمانات في ذلك غير الترقب ومراقبة من أوصلهم إلى السلطة لآداءهم كنواب خلال المدة التي انتخبوا من أجلها. هذا التصرف المسؤول من قبل المنتخبين للنواب “التغييريين” يفترض الإبقاء على النظام الديموقراطي الذي يتضمن مبدأ تداول السلطة، ويفترض أيضاً أن الناخب والناخبة يتحملان كامل مسؤلياتهما في مراقبة ومحاسبة النواب الذين أوصلوهم إلى البرلمان.

ثانياً، هناك مسألة أخرى تتعلق ببنية النظام ومؤسساته التي تجعل من مهمة القيام بتغييره أبعد بكثير من مجرد وصول بضعة نواب (التقديرات الأكثر تفاؤلاً تقول بإمكانية وصول 20 من مجموعات ثورة 17 تشرين) أصحاب نوايا “ثورية” إلى تحت قبة البرلمان. التغيير السلمي للسلطة يتوقف، من جملة الأمور التي تسمح بذلك، على عدد النواب “الثوريين” في البرلمان نسبة إلى عددهم الإجمالي، وقدرتهم عبر الوسائل المتاحة على إقرار التغيير ومن ضمنه تأليف حكومة تتبنى سياسة تغيير النظام. ورغم ذلك، قد لا يسمح “حرّاس” النظام والمؤسسات التي تقع تحت سيطرته (مثلاً، قوى الأمن وأجهزته والجيش) بتنفيذ الخطوات المطلوبة لتغيير النظام، وخصوصاً في بلد مثل لبنان حيث مؤسسات المجتمع الأهلي (دينية وطائفية وعسكرية،إلخ) لديها القدرة الكاملة والخبرة إضافة إلى المصلحة، على التحرك للدفاع عن النظام السائد. فلا وصول أكثرية نيابية من “المجموعات الثورية”، ولا وصول أقلية كفيل بأن الطريق الشرعي والديموقراطي لمسار تغيير النظام سيكون مفتوحاً وسهلاً.

وفي مواجهة هكذا إحتمال، لا يكون الحل بالطبع في الدعوة للإنسحاب من خوض معركة الانتخابات البرلمانية، والتخلي عن السعي الدائم لإيصال أكثرية نيابية من “الثوار” إلى البرلمان. ولا في الدعوة إلى الطريق العنفي لتغيير النظام في لبنان، ذلك أن هذه الطريق قد جُربَّت ولم تؤدِ إلّا إلى حروب أهلية سرعان ما تحولت إلى حروب عبثية جلبت في النهاية الخراب على عامة الشعب وأوصلت أمراء الحرب (أي أمراء الطوائف) إلى سدة الحكم. الحل الممكن والذي يحافظ على الطريق السلمي في التغيير في لبنان يكمن في خوض المعركة الإنتخابية إلى جانب الإستناد إلى الكتلة الشعبية (نقابات عمال وعاملات، نقابات مزارعين ومزارعات، نقابات مهنيين ومهنيات، حركات طلابية ونسوية وبيئية وجندرية، إلخ) صاحبة المصلحة في تغيير النظام وإيجاد البديل عنه. فالتواصل مع هذه الكتلة وكشف النواب “الثوريين” للحقائق أمام “الرأي العام”، مع تعيين المسؤوليات في إعاقة تغيير النظام، كفيل بتحفيز هذه الكتلة لمزيد من التحرك مدنياً دعماً للنواب الذين يمثلونها. ولا عجباً في حال انسداد أفق التغيير بسبب أن النواب الطامحين إليه هم الأقلية، في أن ترفع لاحقاً الكتلة الشعبية الطامحة لتحقيق التغيير مطلب إجراء انتخابات نيابية مبكرة لتوصيل المزيد من نواب “الثورة” إلى البرلمان، وصولاً إلى تحولهم لأغلبية نيابية راحجة.

التحلي بهذه الرؤية السياسية، وخوض “المجموعات الثورية” للمعركة الإنتخابية بموجب هذه القناعة، لا يعني بالضرورة حدوثها بالخطوط العريضة المشار إليها. فالجميع يعلم أن تجارب التغيير الثوري الديموقراطي للأنظمة الجائرة هي تجارب لمسارات متعرجة ومعقَّدة، لكنها متشابهة من حيث الخطوط العريضة المذكورة أعلاه، وهذا ما توصلت إليه الباحثة مروة فكري مؤخراً في دراستها لتجارب التغيير الديموقراطي من منظور مقارن في كل من بولندا وتشيلي وإندونيسيا وجنوب أفريقيا (أنظر، دراسة لمروة فكري، “تصميم الدساتير وبناء الثقة: دراسة في تجارب الإنتقال الديموقراطي من منظور مقارن”، مجلة سياسات عربية، عدد 52، أيلول، 2021).

بكلام موجز، خوض القوى السياسية الطامحة في تغيير النظام السياسي في لبنان للمعركة الإنتخابية القادمة في أيار المقبل، لا هي نهاية المطاف ولا يجب أن تنحصر في الأطر الرسمية لمؤسسات الدولة. أنها معركة ينبغي أن تبدأ تشاركياً مع الكتلة التاريخية صاحبة المصلحة في التغيير، وأن تستند إلى هذه الكتلة وصحة تمثيل مصلحتها في عملية التغيير المتدرج والمتعرج للنظام السياسي عبر الوصول ديموقراطياً إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية. وفي جميع مراحل هذا المسار، تبقى الكتلة التاريخية وهيئاتها التمثيلية جاهزة لتحمل مسؤوليتها في مراقبة القوى السياسية المنتخبة لتمثيل مصالحها، ولتقديم الدعم والمساندة عند التأكد من صحة التمثيل والأداء السياسي، وسحب الثقة منها عند انحرافها عن هذه المهمة.

Leave a Comment