ثقافة صحف وآراء

الأخوين رحباني والغناء للناس والمدن

 *جهاد يوسف شاهين

حدث هذا في متتصف الستينات من القرن المنصرم، وتحديدا عام ١٩٦٧ ..

مباني بيروت الجميلة مزينة بالأعلام اللبنانية والتونسية، وأقواس النصر مرفوعة على طول طريق المطار المحيطة به أشجار الصنوبر ..الأعلام ممتدة من على المشارف وأعمدة الكهرباء وصولا الى القصر الجمهوري المضاءة مصابيحه تهيباً لاستقبال الزائر الكبير.

وفي شارع من أبهى شوارع العاصمة الجميلة كان الأخوان رحباني يعرضان أول عمل لهما على مسرح اختزن ذكريات كل أعمالهم فيما بعد. وعَنَيْتُ بالشارع “الحمرا” وبالمسرح “البيكادللي” وبالعمل : “هالة والملك”.

الزائر الكبير هبطت طائرته على المدرج .. وعيون من كانوا متحلقين ببدلاتهم الأنيقة مسمرة باتجاه الطائرة المقتربة ببهاء وهيبة. وعلى طرف السجاد الأحمر المفروش ليمشي عليه الضيف الكبير نصبت منصة ذهبية الأطراف ليتم الترحيب فيها بالضيف.

فُتِحَ باب الطائرة، وأطلَّ الحبيب بورقيبة يلوِّح بيديه مسلِّماً على حشد البدلات الأنيقة التي بالكاد يرى وجوهها الباشة، أو بالكاد يعرفها.

في مسرح البيكادللي عيد واستقبال من نوع آخر .. عاصي الرحباني تسعده وجوه الناس الآتية لمهرجان الحقيقة والحب .. الوجوه ترتدي الإبتسام والرضى .. هنا ليس بعلبك أو الأرز .. هنا المدينة وعجقة الناس، وأصوات الباعة المتداخل بأبواق السيارات العابرة .. هنا عيد الوج التاني الحقيقي والصادق .. عيد الملك داجور التائق الى الحب، لا عيد الإبتسامات الدبلوماسية الخادعة، الواقعة في الفراغ ..

عاصي الرحباني يقول لأخيه منصور وسط همس الناس المنتظرين، العالية على وجوههم الإبتسامات : شو يا خي، إنت فزعان؟ يجيب منصور بصوته الجهوري : متهيِّب، الموضوع غريب، وجديد عالناس. يقول عاصي ووجهه يطفح بملائكيَّة عجيبة : اتطلَّع بوجوه الناس قديش بتشبه أبطال المسرحية .. قديش بتشبه وج هالة الحامل الصدق، ليك هالرِّجال شو بيشبه الملك داجور المستوحش، أو هيدا يلي بيشبه هب الريح الي شايف وجو بالقنينة. هالمسرحية رح تنجع لإنها حاملة الصدق.

صباحا، يرن جرس الهاتف في غرفة المكتب، يرفع عاصي الرحباني سماعة الهاتف، يقول: “ألو..” من الجهة الأخرى يقول صوت مألوف وغير مألوف : “معك شارل الحلو، يا عاصي، الزعيم الحبيب بو رقيبة في ضيافتنا، ونحن نود أن نحي له سهرة يتعرَّف فيها على الفن اللبناني، وأنا اقترح عليك بأن تأتي الى القصر الجمهوري بصحبة فيروز وبعض العناصر الموسيقية ..” عاصي لَمْ يدع الرئيس شارل الحلو يكمل حديثه، فقال مقاطعا بغضب مكتوم : نحن يا فخامة الرئيس لا نغني بقصور ولا لزعماء” صَمْتٌ مطبق حلَّ على الجهة الأخرى من الخط ثم بعد ذلك أصدر الهاتف إشارة انقطاع الإتصال.

في اليوم التالي، بمرسوم جمهوري مُنِعَتْ أعمال الأخوين رحباني من البثٌ عبر إذاعة لبنان الرسمية والتلفزيون، لكنها بقيت تصدح من إذاعة دمشق وتلفزيونها.

عاصي الرحباني .. تقول في مسرحية هالة والملك : بنت بسيطة ما معها إلا الصِّدق غلبت مدينة عايمة عالكذب. لقد كنتَ بسيطا لدرجة أنك لم تحمل إلا صدقٍ غلبت به ممالك عائمة على الدبلوماسية والخداع والرياء والكذب .. هم رحلوا بكذبهم وخداعهم إلى النسيان وبقيت انت حقيقة جميلة ساطعة رغم الغياب ..

عاصي الرحباني، في ذكرى غيابك الثمانية والثلاثون التاريخ يشهد أنك لم تنحني لزعيم أو لملك، غنَّيتَ مكة والشام وبيروت والاسكندرية، والكويت والجزائر والقدس وبغداد وعمان، غنيت الفقراء وباعة الخضار وماسحي الأحذية .. غنيتَ كناسي الشوارع وعاملات المصانع، ذهبتَ إلى أطراف القرى الحدودية النائية لتضوّي على همومها، وهَّجت الأحلام. كل المدن، وكل القلوب شُرِّعت لك .. لتسكُبَ فيها آيات الصدق والجمال …

عاصي الرحباني، في ذكرى غيابك الثمانية والثلاثين .. غنَّيتَ الشعوب لا الحكام…

* الشياح الغبيري في ٢٠٢٤/٦/٢١

Leave a Comment