كتب جورج الهاشم
حمل اللبنانيون أحزابهم، من جملة ما حملوا معهم من لبنان، الى مغترباتهم. وتابعوا، من هناك، مبايعتهم للزعيم المفدّى الذي، لو دققوا قليلاً لاكتشفوا انه هو أو والده أو جدّه، أحد الأسباب الأساسية في اقتلاعهم من جذورهم ورميهم في مجتمع مختلف تماماً لغةً وعادات وتقاليد وممارسة. وانه هو المسبب الأساسي لمآسي الغربة التي لا يمكن أن تنتهي. تتكلّم مع اللبناني عن أوضاع استراليا فتجده أكثر علمانية وديموقراطية من الاستراليين. تراه يدافع عن مجتمع المواطنة وحقوق الانسان وبلد الضمانات والحريات. وفور ان تنتقل معه الى الأوضاع اللبنانية تراه يقفز الى خندق الطائفية والمذهبية ويدافع عن حزبه أو زعيمه الذي ساهم بمنع لبنان من بناء نظام شبيه بالذي يعيش في ظلِّه ويدافع عنه. هذا حال معظم أفراد الجيل الأول من المغتربين اللبنانيين في استراليا مع التأكيد بوجود كثيرين منسجمين مع قناعاتهم التي لا تتبدّل بتبدّل الساحات.
قبل الحرب الأهلية سنة 1975 لم يكن يشغل المغتربين الا قضية فلسطين. كان هناك شبه اجماع على دعمها. وكان لحركة “أصدقاء فلسطين”، والتي برز فيها الثلاثي الماروني اللبناني: الراحل بطرس عنداري والرائعان انطوان مارون وجان بشارة، الصدارة على الصعيدين العربي والاسترالي. ومع نشوب الحرب الأهلية تراجعت الحركة ليحتلّ الساحة تجمعان: تجمع الأحزاب والقوى الوطنية اللبنانية والذي ضم فروعاً لمعظم أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية، وتجمع أحزاب الجبهة اللبنانية. وانقسمت الساحة على هذا الأساس. مع انقسامات داخلية في كل تجمّع كما حصل بين الحزب السوري القومي الاجتماعي برئاسة (ع. ع.) وبين معظم مكونات تجمع الأحزاب والقوى الوطنية وخاصة الشيوعيين. وصل الى التهديد والضرب والخطف واطلاق الرصاص من جانب العناصرالموالية لرئيس الحزب. حتى ان العنف طال وقتها القوميين السوريين الذين اعترضوا على هذه السياسة. ولما لم تصل التحقيقات الرسمية الى أية نتيجة ازدادت الشبهات حول ارتباط المحرض بالاستخبارات الاسترالية “آزيو”. مع التأكيد ان حوادث العنف كانت شبه معدومة بين مكونات الجبهتين اللتين تقاسمتا ولاء الجالية اللبنانية في استراليا.
بعد الحرب استمرت فروع الأحزاب في العمل بين أوساط الجالية. تركّز النشاط على توزيع منشورات الحزب، اعادة نشر مواقفه وبياناته في الصحف المحلية، جمع الاشتراكات والتبرعات، المشاركة بالتظاهرات الموسمية، الدفاع عن مواقف الحزب حتى لو أتت ضد مصلحتهم كمغتربين، فتح بعضهم مدارس بعد الوقت لتعليم العربية، استقبال وتنظيم زيارات الوفود من الوطن أو التظاهر ضد وفود الأحزاب المعارضة، محاولة بناء علاقات مع المسؤولين الاستراليين لصالح أحزابهم… وفعل مثلهم ممثلو بعض الاقطاع المناطقي أو العائلي من خلال الروابط العائلية أو جمعيات القرى التي كثيراً ما شهدت صراعات لاخضاعها لنفوذ الزعيم المسيطر في القرية الأم.
باختصار اقتصر نشاط فروع الأحزاب كلها على ان تكون بوقاً لأحزابها في الوطن. كانت الصدى دائماً. لم تضف شيئا ذا قيمة لأحزابها. أنا أفهم ان تكون مواقفها نسخة طبق الأصل عن مواقف أحزابها الأم فيما يتعلّق بأوضاع الوطن والمنطقة. ولكن ما لا أفهمه أن تنتظر موقف حزبها فيما يخصها هي كقوى مغتربة. بدل ان تصوغ هي سياسة اغترابية مبنية على تجربة أعضائها وتشكّل اضافة نوعية تضيفها لرصيد حزبها في الوطن الأم. كل هذه الأحزاب، يمينية ويسارية، انطلقت من مبدأ ان المغترب موجود بشكل مؤقت في الاغتراب، وانه عائد لا محالة، لذلك فقضايا الاستقرار في المغتربات لا تعنيها.
وحده فرع منظمة العمل الشيوعي، في عزه وعزها، كان له منذ البداية، مفهوم مختلف: الجالية اللبنانية باقية، وتكبر يوماً بعد يوم، ولو عاد منها بعض الأفراد. ولكسب موقع مميز بينها لا بد له من الدفاع عن مصالحها في الاغتراب. المدخل هو اطار وطني عريض، تيار ديموقراطي مطلبي اجتماعي ينال ثقتها. لم يكن الفرع كله من هذا الاتجاه. أفراد قلائل خاضوا نقاشاَ طويلاً مع الفرع ومع القيادة من خلال مسؤول الخارج في التنظيم. تتوج بانشاء التجمع الثقافي الاجتماعي اللبناني سنة 1979. وترأسه على التوالي جورج الهاشم وبول طبر.
فترة الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي شهد التجمع عصره الذهبي: مدارس مجّانية لتعليم اللغة العربية، فرقة للدبكة، مجلة بأقلام محلية، ندوات فكرية وأدبية متلاحقة، امسيات شعرية، معارض كتب سنوية (أول من أقام معارض للكتاب العربي في استراليا)، مسابقات لتشجيع كتابة القصة القصيرة عن مواضيع تخص الجالية، معارك مطلبية كتعليم اللغة العربية، ومكافحة التمييز وقضايا الهجرة والنقابات العمالية والاعلام العربي في استراليا، اضافة الى الوقوف الدائم مع القضايا الوطنية في لبنان…عمل في التجمع ومعه نخبة من مثقفي الجالية وناشطيها وادبائها ورجال الاعلام فيها. وتمتّع التجمع بوجود وازن في الكثير من مؤسسات الجالية. في منتصف التسعينيات لفظ التجمع أنفاسه الأخيرة بقيادة مجموعة من رفاق المنظمة كانوا أساساً غير مقتنعين بجدوى وأهمية هذا الاتجاه. ولم يلبث فرع المنظمة أن لفظ هو الآخر أنفاسه الرسمية الأخيرة.
لم يتغيّر اداء فروع الأحزاب اللبنانية في استراليا عن السابق. لا زالت الصدى. تردِّد، وهي مغمضة العينين، ما تمليه أحزابها في الوطن الأم، وتنكمش. وآخر هذه المواقف قانون الانتخابات النيابية الأخير. وللموضوع..تتمة.
Leave a Comment