*أدهم مناصرة
لا شك أن قساوة الحرب على غزة المستمرة منذ 7 أكتوبر/تشرين أول الماضي، أكدت للعالَم أن إسرائيل تحارب الديموغرافيا الفلسطينية كلها، أكثر من كونها حرباً على فصيل فلسطيني بعينه، وهي امتداد لحروبها التي خاضتها على مر العقود، ومن بينها جنوب لبنان، حيث فتحت هذا الملف إعلامياً، واعترفت بمجازر ارتكبتها بحق الاطفال والمسنين، قائلة إن هذا الامر “واجب أخلاقي!”.
وجاء تقرير بثته قناة “كان” العبرية، بعنوان “أصوات إسرائيلية ناقدة لأخلاقيات الحرب الواجب اتباعها من الجيش الإسرائيلي”، ليمنح دليلاً آخر على أن الإبادة التي ينفذها الاحتلال في غزة، وقتله للمدنيين في الضفة الغربية ولبنان، ليست تجاوزات فردية، وإنما نتيجة عقيدة عسكرية عدوانية لإسرائيل، وتتم شرعنتها بـ”فتاوى” يصدرها حاخامات الجيش.
قتلُ أطفال لبنانيين قبل 4 عقود
لعل المثير في التقرير، ومدته 6 دقائق و27 ثانية، أنه تضمن اعترافاً واضحاً من حاخام، وجنرالات وضباط احتياط بالجيش الإسرائيلي، بارتكاب جيش الاحتلال جرائم عن قصد ضد مدنيين فلسطينيين ولبنانيين طيلة عقود، بل وقاموا بتسويغها وشرعنتها عسكرياً ودينياً.
وجاء الاعتراف الأكثر استفزازاً على لسان الحاخام أوري شيركي من “معهد مئير”، إذ أقرّ بقتل أطفال لبنانيين عمداً قبل نحو 40 عاماً، وذلك حينما أقام الجيش الإسرائيلي حزاماً أمنياً في جنوب لبنان.. مدعياً أن مَن وصفهم بـ”مخربين خططوا لعمليات ضدنا وضعوا أطفالاً على النوافذ عندما علموا أنهم تحت المراقبة الإسرائيلية”.
وفي سياق سرده للواقعة، طرح الحاخام سؤالاً انتهازياً على معد التقرير: “ماذا كان علينا فعله عندها حسب رأيك؟!”، ثم يجيب على نفسه: “عندما تعلم أن أشخاصاً موجودين في البيت يخططون للقيام بعملية تخريبية، فإنك ستقتل عشرات من النساء والأطفال.. الواجب الأخلاقي كان يقضي بإطلاق النار عليهم”.
والمستفز في اعتراف الحاخام أنه طرح سؤالاً آخر على معد التقرير الإسرائيلي: “وعندها من هو المذنب بموتهم؟”.. وكانت الإجابة التزامنية من المعد والحاخام: “الذين وضعوا الأطفال على النوافذ”.
وعاد الحاخام أوري شيركي بذاكرته إلى ثمانينات القرن الماضي، ليطرح جريمة قتل أطفال ونساء لبنانيين جنوب لبنان، كمثال لشرعنة جرائم ومجازر إسرائيل في حق الفلسطينيين واللبنانيين.
فتوى الحاخام أوري: قتل الجميع “مباح“
وحسب هذا الحاخام، فإن القاعدة التي يستند إليها في تسويغ حرب الإبادة في غزة، تقوم على أن “تعريض جنود للخطر من أجل عدم المس بمواطني العدو، فإنك لا تكون أخلاقياً.. بل مجرماً”، حسب قوله.
وذهب الحاخام أوري إلى أكثر من ذلك في بشاعة “الذرائعية” التي يعتمدها لشرعنة جرائم الاحتلال، حينما اعتبر أن كل أحد من السكان “متورط بالقتال، ففي نهاية الأمر نتحدث عن ثقافة غذّت آيدولوجية القتل والبربرية، وهي تربي أطفالها من سن الرضاعة على ذلك”.
كما اعتبر أن الواجب الأخلاقي يقضي “أحياناً بالتسبب بالمعاناة للآخر إن كانت الحرب بين الخير والشر”.. وهنا، عرّف هذا الحاخام الخير والشر على مقاسه، وضمن فلسفة إرهاب خطيرة تتبناها دولة الاحتلال، تقوم على محاربة السكان الفلسطينيين، وتدمير كل شيء؛ لحماية وجود إسرائيل وبقائها.
من هو الحاخام؟
ووصف التقرير الحاخام أوري شيركي بأنه واحد من الإسرائيليين الذين لا يتفهمون معضلة “أخلاقيات الحرب”، موضحاً أنه يحمل آراءً تستند إلى مصادر دينية لا ترى تهاوناً في الحرب بين “الخير والشر”، وفق مفهومه.
وهذا الحاخام يبلغ من العمر 65 عاماً، ولد في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي، قبل أن تعود عائلته إلى فرنسا، وهاجر بعدها إلى فلسطين عام 1970 بعمر 11 عاماً، ويتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة إضافة إلى العبرية. وأمه ناجية من المحرقة النازية، أما جده عازر شركي، فقد كان رئيس المجلس الصهيوني في الجزائر، ومندوباً عنهم في المؤتمر الصهيوني.
“لو ضربنا برلين بالنووي قبل 8 عقود.. لكان أخلاقياً”
وبالعودة إلى تقرير “كان” العبرية، لم يكن الحاخام أوري الوحيد الذي يشرعن المجازر والإبادة في حق الفلسطينيين واللبنانيين، بل أن الجنرال بالاحتياط غرشون هكوهين، والذي يعمل في معهد “بيغن-السادات”، قد عمل على تبرير جرائم الجيش، عبر إدراجها تحت توصيف “أخلاقية”، بدعوى أن “هناك شراً في العالم، وإن أنقذت أحدهم من الشر، فهذا أمر أخلاقي”.
واللافت أن ما قاله الجنرال غرشون، ومن قبله الحاخام أوري، يشكل اعترافاً صريحاً بان جرائم الاحتلال ومجازره هي منهجية تقوم عليها إسرائيل.. وبينما اتخذ أوري من جريمة إسرائيلية وقعت في لبنان قبل عقود مثالاً لشرعنة المنهجية الإسرائيلية اللاأخلاقية، فإن الجنرال غرشون ضرب سيناريو متخيلاً، ومفاده أن “اليهود لو كانوا يملكون قنبلة ذرية عام 1942، وألقيناها على برلين، ومات كثير من الناس غير المتورطين في الحرب، بينهم مسنون، ولكن مات كذلك هتلر .. أعتقد أن ذلك سيكون أخلاقياً من قبلنا”.
ضابط يبرر إبادة غزة.. بالبكاء على رفاقه!
لم يختلف كثيراً ما قاله ضابط الاحتياط عيناب ليفي في إطار شهادته التي تحدث بها للتقرير، لكنه حاول يائساً إخفاء لا أخلاقية الجيش الإسرائيلي خلف دموعه، مدرجاً سلوك الجنود العدواني في سياق “صراع إنساني داخلي”، وأنهم “يضطرون للقيام بأمور سيئة خلال القتال”.
وذكر الضابط ليفي أنهم صادفوا مسنّين خلال اقتحامهم منازل فلسطينية بالقطاع، مضيفاً أنه في هذه الحالة كان التفكير العملياتي: “هل أفجر البيت.. أم لا”، لكن هذا الضابط يقع في لسانه، وينوه باكياً: “لكن هناك ثمن ندفعه.. رفاقي دفعوا ثمناً”، وكأنه بذلك يعترف ضمناً أن عقلية الانتقام الإسرائيلي قائمة على تدفيع جميع الفلسطينيين الثمن، بلا استثناء.
الحال أن تقرير “كان” جسد طغيان الرأي الإسرائيلي المُّبرر لإبادة غزة، وعدم أخلاقية جيش الاحتلال، لكنه مع ذلك استعرض رأياً آخر بدا هامشياً، صنفه ضمن “أصوات يسارية ناقدة”، تصدرها المحامي ميخائيل سفارد، حيث وصف الحاخام أوري بـ”شخص عنصري”، متسائلاً: “من يقول إن كل سكان غزة شياطين ودمهم مسفوك.. فإنه عنصري”.
وأكد المحامي سفارد أن “منع المساعدات عن سكان غزة كإنجاز عسكري، واقتلاع أكثر من مليون ونصف من بيوتهم، هو جريمة حرب”.
الإعلام العبري لا يستضيف ناقدين
كما رأى سفارد أن المستويين السياسي والعسكري يخفيان المعطيات الخاصة بحرب غزة عن الجمهور الإسرائيلي من أجل دعم الجيش، قائلاً إن الإعلام الإسرائيلي لا يستضيفه في استديوهات الأخبار؛ لكونه يمثل وجهة نظر ناقدة لأفعال الجيش في غزة.
ويتوقف التقرير في النهاية عند جملة أخيرة لضابط الاحتياط، عيناب ليفي، اعتبر فيها أنه ليس مهماً السؤال “هل الانتقام شرعي أم لا.. بل ما هو ثمن الانتقام؟؛ لأنه يمكن أن ينتهي بقرع باب، أو بمسح حي كامل”.
أما الجملة الختامية للحاخام أوري، فقد أكد فيها فتواه بأن قتل إسرائيل للفلسطينيين والعرب “انتقام واجب”، بدعوى أنّ “عدم الانتقام يولد شعوراً بأن الشر ينتصر في العالم”، وأن “الانتقام حينما تمتلك إسرائيل القوة لممارسته، يحقق العدل”!
واختتم الصحافي فيكو أطوان تقريره باستنتاج مفتوح خلص إليه، بقوله إنه وسط انتقادات موجهة للجيش الإسرائيلي في غمرة الإجماع على الحرب ضد حماس، فإن “الصورة الكاملة ستتضح بعد الحرب”.
*نشرت في المدن الالكنرونية يوم الأحد 2024/07/21
Leave a Comment