صحف وآراء مجتمع

استنساب في العدالة بين موقوفي انفجار بيروت و”الموقوفين الإسلاميين” مخالفات قضائية و”صيف وشتاء” تحت سقف واحد

بشير مصطفى *

عاد ملف “الموقوفين الإسلاميين” في لبنان إلى الواجهة مجدداً لسببين، الأول هو الكرم المفرط لدى النيابات العامة التي أصدرت قرارات إخلاء سبيل بالجملة في ملف انفجار مرفأ بيروت، إضافة إلى ملف الفساد في مصلحة تسجيل السيارات، والثاني يرتبط بما أشيع عن قيام الأمن اللبناني بإلقاء القبض على “خلية إرهابية” في “منطقة المنكوبين” (حي في طرابلس شمال لبنان)، كانت تنوي بحسب التسريبات استعمال “الدرون” لاستهداف مواقع مدنية ودينية في مناطق مختلفة في أكثر من منطقة. ففي المسألة الأولى، تحرك الأهالي للمطالبة بإنصاف أبنائهم الموقوفين أحياناً من دون محاكمة لنحو عقدين من الزمن، على غرار ما جرى في ملفات أخرى، والثانية، مبادرة الفرق القانونية للحديث عن “فبركة” ملفات لحرف الأنظار عن الفساد القضائي في قضايا عدة. فشلت كل المحاولات السابقة لحل هذه المعضلة، إما بسبب سقوط التوافق السياسي في شأن قانون العفو العام وإما لعدم تحقيق الوعود بتعجيل المحاكمات.

خلية “المنكوبين

خلال الفترة القريبة الماضية انتشرت أخبار عن تحرك الأمن اللبناني على خط ضبط خلايا جديدة لمتشددين إسلاميين، وأوقف الأمن العام خمسة أشخاص في “منطقة المنكوبين”. واتهم (ف. ر) بالتحضير لعمل تخريبي بعد التخابر عبر التواصل الاجتماعي مع مجموعات إرهابية. لم يصدر أي بيان رسمي عن الجهاز الأمني يوضح ملابسات العملية، إلا أن إحدى الصحف المحلية نشرت أخيراً محاضر التحقيقات المسربة، والنية بارتكاب أفعال مخلة بالأمن واستهداف مرافق مدنية كمستشفى الرسول الأعظم وكنائس ومواقع في منطقة “جبل محسن” (شمال لبنان).

يشكك الأهالي بصدقية الرواية الأمنية، وبانتساب الشبان المشتبه فيهم إلى الفكر الإسلامي. يقول محمد إبراهيم (لجنة الموقوفين الإسلاميين) إنه على معرفة مباشرة بالشاب المتهم بتكوين خلية إرهابية، وهو ابن وحيد، و”مضطرب” نفسياً، لكنه لا يمتلك أي ميول إسلامية، “فهو ربما لا يجيد الصلاة”، كما أن بعض الموقوفين ضمن الخلية معروف بتعاطي المخدرات والحبوب. ويعتبر إبراهيم أن تحرك الأجهزة الأمنية هدفه “فبركة ملفات” لأنهم اعتادوا استهداف هذه البيئة التي “ليس لها ظهر يحميها”، كما أن “شماعة الإسلاميين مغرية لإثارة الرأي العام، وتمرير الصفقات المشبوهة”، متحدثاً عن مظلومية تطاول الموقوفين الإسلاميين سواء لناحية معاناتهم ظروف السجون، وسوء الوضع الصحي والاجتماعي، وتأخير البت بالملفات القضائية وتركهم لفترات طويلة من دون محاكمة أو إدانة، مضيفاً “نحن لسنا ضد إدانة المرتكب، ولكن يجب أن يحاكموا، ويقضوا محكوميتهم”.

الدولة والإجراءات التمييزية

يعبر المحامي محمد صبلوح (وكيل أحد الموقوفين) عن صدمته لنشر محاضر التحقيق وهي ما زالت لدى قاضي التحقيق فادي صوان، ولم تختم لأنها في مرحلة المطالعة لدى النيابة العامة، و”هذه جريمة يعاقب عليها القانون”، مشككاً بتوقيت تسريبها، إذ جاءت بعد “قنبلة” استدعاءات المحقق العدلي في ملف مرفأ بيروت لشخصيات سياسية وأمنية، وما تلاها من عملية إطلاق سراح جماعية خلاف القانون. ويرى في هذا النشر امتداداً لـ”فبركة الملفات”، مضيفاً “عندما يكون هناك شخص مشتبه فيه يستدعى لسماع أقواله. إلا أن ما جرى كان سيناريو مداهمة كبيرة شاركت بها قوة مؤلفة من خمس شاحنات لاعتقال (ف. ر) قبل شهرين ونصف الشهر، وأثارت هلع الأطفال والنساء”.

يشكو صبلوح رفض الجهاز تطبيق المادة 47 من قانون أصول المحاكمات التي توجب حضور المحامي أثناء التحقيقات الأولية، ناهيك باستخدام العنف والقوة لانتزاع الاعترافات. يستند المحامي إلى تقرير طبي يثبت حالة المرض النفسي لدى (ف. ر) البالغ 20 سنة. وبحسب تقرير اطلعت عليه “اندبندنت عربية” فإن الشاب يعاني حال عدم التركيز وإفراطاً في الحركة

ADHD، وعدم السيطرة على ردود الفعل والتهور في القرارات والسلوك، نتيجة تشخيص حالة فجورية فوبيائية  Explosive Disorder، وقد ازدادت أخيراً بسبب عدم العلاج والدواء.

يشير صبلوح إلى أن نقطة انطلاق الملف محادثة عبر “إنستغرام” مع (ي. ي)، حين بدأ بتحريضه على الجو العام وخطاب المظلومية، ووعده بتقديم المال. ويضيف أنه عند مثوله أمام قاضي التحقيق بدأ بالبكاء لأنه “تكهرب برجليه لتقديم أسماء، فقام بتسمية (ع. د)، و(ع. إ)، و(و. ش)، وآخرين”. ويوضح “عندما زاره المحامي من مكتبي، رأى آثار ضرب وتورم في وجهه وجسمه، فاتجهنا إلى مدعي عام التمييز غسان عويدات وتقدمنا بشكوى تعذيب إلا أنه رفض تلقيها، فقمنا بإرسالها عبر البريد، إلا أنها حولت إلى مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية لتنام في الأدراج”.

كما يلفت صبلوح الوكيل أيضاً عن الموقوف (و. ش) وعمره (16 سنة) أنه لا يعرف (ف. ر)، والتقاه صدفة، ففوجئ بتوقيفه بتهمة الإرهاب، مطالباً بتدقيق “البيانات التي يمكن أن تكشف عن الهوية الحقيقية لـ(ي. ي) مفبرك الملف، والتمسك بأقوال (ف. ر) أمام قاضي التحقيق بأنه تعرض للتعذيب وعدم معرفته الوثيقة بالمشتبه فيهم الآخرين”. يخلص صبلوح إلى وجود “غرف سوداء تتفنن في صناعة التطرف، وتخريب حياة الشبان”.

الحلول مؤجلة

يعاني هذا الملف تضخماً مستمراً، وقد برزت محاولات أقله منذ 2018 للوصول إلى تسوية “العفو العام” الذي كانت دونه محاذير سياسية وقانونية. فمن ناحية، لم تتوصل الكتل السياسية إلى توافق حول قانون موحد وسقطت محاولات “حركة أمل” و”تيار المستقبل” لولادة القانون، فهو كما ظهر للرأي العام كان يقايض بين الموقوفين الإسلاميين، أو لنقل الأقل خطورة بينهم، والمطلوبين في ملفات ترويج المخدرات والاتجار بها. وعلى قاعدة التسويات في لبنان كان لا بد من حل معضلة شريحة كبيرة ممن تعامل مع إسرائيل أو غادر لبنان بعد انسحاب إسرائيل من الجنوب في 25 مايو (أيار) 2000.

في المقابل، هناك مشكلة قانونية لناحية السياسة العقابية، وإمكانية تفريغ السجون من عناصر “خطرة” من دون محاكمة، لأن واجب القضاء إدانة المرتكب وإطلاق سراح من تثبت براءته. وبين هذا وذاك برزت بين الفينة والأخرى اقتراحات من قبيل خفض السنة السجنية استثنائياً إلى ستة أشهر، خلال فترة جائحة كورونا أي عام 2020 وما بعده، أو تعجيل المحاكمات بعد تأهيل قاعة كبرى، ولكن كل الإجراءات استمرت أسيرة التسويات السياسية.

سؤال كبارة

في أعقاب خطوة مدعي عام التمييز غسان عويدات في إطلاق جميع المشتبه فيهم في ملف انفجار مرفأ بيروت، متجاوزاً قرارات المحقق العدلي طارق البيطار، وبعد قيام القاضي نقولا منصور بإطلاق سراح 13 مشتبهاً فيهم في ملف فساد مصلحة تسجيل السيارات، وجه النائب كريم كبارة سؤالاً إلى وزير العدل هنري خوري في شأن الخطوات السابقة، وقرن كبارة سؤاله بالمطالبة بإنصاف الموقوفين الإسلاميين في السجون اللبنانية، متسائلاً لماذا لا يتم إطلاق سراح الموقوفين الإسلاميين بناء للنص ذاته الذي أطلق بموجبه موقوفي انفجار مرفأ بيروت، والذي يبين بشكل لا يقبل الشك عدم جواز الاستمرار بالتوقيفات من دون محاكمة إلى ما لا نهاية؟ وختم كبارة كتابه بالمطالبة بالجواب عن سؤاله ضمن المهلة القانونية المحددة بـ15 يوماً من تاريخ تسلم الطلب.

الإسلاميون والملف المتشعب

عند الحديث عن ملف الإسلاميين لا يمكن جمع هؤلاء ضمن فئة واحدة، ولكن يمكن الإشارة إلى “أحداث الضنية” في عام 2000 كنقطة انطلاق لتلك الأزمة التي راحت تكبر وتكبر لتصبح كرة لهب. ومن ثم جاءت حقبة سيطرة فصيل “فتح الإسلام” على مخيم “نهر البارد” الفلسطيني، وخوض الجيش اللبناني معركة القضاء على تنظيم شاكر العبسي وأعوانه، ناهيك بأكثر من 20 جولة قتال في طرابلس، وتحديداً بين منطقتي “جبل محسن” و”باب التبانة” التي كانت وليدة الاحتقان الطائفي المتصاعد بعد سلسلة أحداث كاجتياح “حزب الله” لبيروت في (7 أيار)، إلى ما أعقبها من انقسام عمودي سياسي وطائفي مع اندلاع الثورة السورية، واستعادة المخيال الجماعي للحرب اللبنانية وحقبة هيمنة جيش النظام السوري، وتفجير مسجدي التقوى والسلام في طرابلس، وصولاً إلى ظهور الخلايا الداعشية ومن ثم استغلال حماسة الشباب اليافعين وتجنيدهم للقتال في العراق.

تطول سلسلة الأحداث وتطول معها قائمة الشبهات والمشتبه فيهم. ومع كل واقعة تزداد أعداد الموقوفين في السجون اللبنانية، وإخضاع غالبيتهم للمحاكمات الاستثنائية في المحكمة العسكرية، وبقاء جزء كبير منهم موقوفاً من دون محاكمة، أو حتى صدور أحكام براءة في حق بعضهم بعد مرور فترات طويلة من التوقيف. ويحصي المحامي محمد صبلوح (وكيل قانوني) 45 حكم براءة لموقوفين إسلاميين من تهم الإرهاب في ملف “فتح الإسلام” بعد مرور 14 سنة سجنية من دون محاكمة، كما حكم بسنتين على العشرات، حين استدعي 500 شخص في ملف واحد، مذكراً بوجود آلاف الوثائق في حق شبان من طرابلس، بقي العمل بها على رغم قرار مجلس الوزراء بإلغائها، “عندما يتجه أحد الشبان لإنجاز جواز سفر، يأتي الجواب بأن هناك وثيقة اتصال وعليك مراجعة الأجهزة الأمنية لإزالتها”.

*نشرت في اندبندنت عربية في 4 شباط / فبراير 2023

Leave a Comment