اقتصاد

ارتفاع أسعار المحروقات وسيناريوهات الكارثة وسط صقيع الشتاء

كتب عماد زهير

ارتفاع أسعار المحروقات الذي بات تقليداً أسبوعياً نزل على المواطنين الذين استفاقوا على تجاوز سعر صفيحة البنزين الـ 300 ألف ليرة نزول الصاعقة. إذ للمرة الأولى في تاريخ لبنان يقفز سعر البنزين والمازوت وغيرهما من المشتقات البترولية إلى هذا الحد. اللهم باستثناء أسعار السوق السوداء في عز انفجار الأزمة. ومع أن المواطنين لاحظوا أثر ذلك على وسائل المواصلات وحركة الشوارع التي بدت خالية، الا أن مضاعفات هذا الارتفاع أشد وطأة من هذا المظهر الذي عمَّ العاصمة والمدن والارياف. إذ المعروف أن أسعار المحروقات توصف بأنها أساسية كونها محركة لكل الأسعار. باعتبارها تدخل في صلب الخدمات وعمليات الانتاج والنقل والاستهلاك. وبناءً عليه من المتوقع ارتفاع أجور النقل والانتقال وكلفة المواد المصنعة والزراعية على أنواعها وبدلات المولدات للمنازل والمحترفات. والأهم أكلاف التدفئة المنزلية، بعد أن دخلنا عملياً في فصل الشتاء. وقد كانت القاعدة في المناطق الجبلية خصوصاً، أن يتم شراء مواد التدفئة سواء أكانت سائلة ( مازوت) أو صلبة ( حطب ) بالتوازي مع تأمين مؤونة الشتاء من أغذية ضرورية. أي أنه يتم تحضيرها منذ مطالع الخريف. ولما كان المازوت مفقوداً من الأسواق طوال الصيف تقريباً، بفعل قوافل التهريب والاحتكارات وشبكات المافيات، فنادرة هي العائلات التي تمكنت من توفيره للموسم الشتوي. ثم جاء ارتفاع الأسعار الراهن ليقضي على آمال أرباب العائلات في الحصول على هذه المادة. ومن المعلوم أن استهلاك هذه المواد في المناطق الباردة هو يومي ويعادل أهمية الخبز، مما يجعل التدفئة حكراً على الميسورين من الناس. ويضاف إلى ذلك عدم قدرة الموظفين والعمال والطلاب على دفع كلفة انتقالهم من وإلى أماكن عملهم ومدارسهم وجامعاتهم. وقد بلغ الأمر أن قيادتي الجيش والأمن الداخلي أعادت تشكيل القطع والوحدات العسكرية النظامية لتقريب الجنود والضباط من أماكن سكنهم ومراكزهم. وباختصار يمكن القول إن ارتفاع هذه الأسعار فاقم الشلل الذي تعانيه البلاد وضاعف مأزق أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة الذين باتوا مضطرين إلى الموازنة بين  تأمين ضروريات الحياة والانتقال اليومي إلى أعمالهم، وهو أمر جديد على اللبنانيين والمقيمين.

أسعار النفط بين الخارج والداخل

ومع أن هناك سبب خارجي لارتفاع أسعار المشتقات النفطية، يتعلق بما تشهده البورصات العالمية من زيادات طلب على النفط الخام وبالتالي ارتفاع الأسعار، الا أن العامل المقرر داخلياً يتمثل في تآكل الأجور والمداخيل مع انخفاض القدرة الشرائية لليرة اللبنانية بالمقارنة مع الدولار. فقد خسرت الليرة اللبنانية حوالي 95 % من قدرتها الشرائية خلال الأزمة، والتهبت أسعار كل الحاجيات بما فيها الضرورية بعد أن رُفع الدعم نظرياً وفعلياً عن الأدوية والخبز والمحروقات. وأصبح أكثر من 80% من المواطنين واللاجئين يعانون الفقر الشديد. حتى أن الحد الأدنى للأجور بات يعادل سعر صفيحتي بنزين بقليل (مازال الحد الأدنى رسمياً هو 675 ألف ليرة لبنانية أي ما يعادل 33 دولاراً أو أقل). علماً أن نسبة لا تقل عن 35 % من قوة العمل باتت في صفوف البطالة كلياً، وضعفهم تقريباً من العاملين جزئيا. يضاف إليهم المزارعون الموسميون والميامون والعاملون على القطعة والصيادون وأمثالهم ممن لا دخول شهرية ثابتة لهم. وكل هذه العوامل تقود إلى ارتفاع معدلات الهجرة والفقر المدقع والسرقات وشبكات الإتجار بالممنوعات وغيرها.  وهذا يعني أننا ندخل بخطى سريعة ضمن اطار الانهيار المتلاحق، فمن شأن التوقف عن الدعم أن يضاعف الطلب على الدولار من السوق الموازية لتمويل صفقات المواد المستوردة، ما يقود إلى ارتفاع سعره. وهو ما يستتبع انخفاضاً إضافياً في سعر صرف الليرة، وبالتالي ارتفاع الأسعار. وهكذا ضمن حلقة جهنمية من هذا النوع تقود إلى عجز الأسر عن تأمين الخبز والدواء والاستشفاء وما شابه من مقومات العيش. يحدث هذا في ظل تلاشي خدمات الصناديق الضامنة وتآكل قدرات وزارة الصحة في توفير حقوق الاستشفاء والطبابة، وتصاعد أسعار باقي الخدمات في قطاعات الصحة والتعليم والماء والكهرباء وغيرها.

يفتح التدهور الاضافي في الأوضاع المعيشية على ما تعيشه الحكومة من تداعيات في أعقاب اشتباكات الطيونة، والتي قادت إلى تعطيل اجتماعاتها بفعل شروط الثنائي الشيعي في إزاحة القاضي البيطار كمحقق عدلي في جريمة تفجير المرفأ. ما يعني أن حكومة ” معاً للانقاذ” باتت بحاجة إلى من ينقذها، وهو غير موجود حتى اللحظة سواء أكان من داخل البلاد أو خارجها. وبديهي أن ينعكس ذلك كله على جملة الاوهام التي روجتها منذ وصولها على صعيد فتح الأبواب المغلقة أمام القروض والمساعدات سواء من مصادر دولية وعربية أو أممية. ما يعني أن ما أشيع حينها بات سراباً على نحو كلي. فلا الاصلاحات تحقق منها شيء، ولا المفاوضات مع صندوق النقد بدأت ما يقود إلى تسكين اوجاع الامراض اللبنانية المستعصية، وتوفير الأموال لتحريك البطاقة التمويلية، وما شابه من اجراءات تقود إلى تخفيف أثر المعضلة المستحكمة. من هنا يمكن القول إن حكومة الرئيس ميقاتي وقعت في ما وقعت فيه الحكومات السابقة، نتيجة تغليب الحسابات الفئوية والطائفية و” النَكَد” بين القوى السياسية الممسكة بزمام الأمور والممثلة فيها من خلال االاختصاصيين الذين رفعتهم إلى مرتبة الوزراراء ، ما يجعل أي محاولة للنجدة غير مطروحة، طالما اللبنانيون لم ينظموا خلافاتهم، ويبادروا إلى تنفيذ الاصلاحات المطلوبة. ما يؤكد على استمرار الأعطاب مقيمة، ومعها استنزاف البقية الباقية من رمق في عروق البلاد والعباد. واذا كان موضوع التفاوض مع صندوق النقد يحتاج إلى جهد ووقت طويل، الا أن المؤشرات الاقتصادية والمعيشية العامة لا تنتظر ومنها التي ينشرها البنك الدولي وتنذر بتسارع الكارثة الزاحفة من مختلف الجهات.

سيناريوهات تقرير البنك الدولي

ففي كانون الأوّل من العام الماضي، أصدر البنك الدولي تقريره الشهير حول لبنان بعنوان “الكساد المتعمّد”، تضمن يومها تحذيراً مما وصفه بـ “السياسات غير الملائمة” التي تتخدها الطبقة الحاكمة، والتي تفاقم الوضع المالي والمعيشي. ومؤخراً أصدر البنك الدولي تقريراً مقتضباً حدَّث فيه توقّعاته للوضعين المالي والنقدي، وقيَّم استجابة الدولة اللبنانيّة للأزمة القائمة. ورسم سيناريوهات مختلفة لمسار رفع الدعم عن المواد الأساسيّة، وأثر كل سيناريو محتمل على سعر صرف الليرة أو احتياطات المصرف المركزي.

وفي النتيجة، كان التقرير أكثر صراحة ودقّة في توصيف الوضع من المعنيين في الحكومة ومصرف لبنان، وخصوصاً لجهة شرح الاحتمالات والخيارات المتاحة خلال المرحلة المقبلة، وتداعيات كل احتمال على معيشة اللبنانيين والمقيمين في لبنان. فالإشكاليّة الأساسيّة تكمن اليوم في غموض السلطة من ناحية المعالجات التي تحضّرها، وابتعاد مصرف لبنان عن شرح تفاصيل خططه وتصوراته، مع أن الموضوع أشد تعقيداً من ذلك. يتوقع التقرير أن يؤدّي رفع الدعم إلى ضرب سعر صرف الليرة اللبنانيّة خلال الفترة المقبلة. فأثر رفع الدعم، سيعتمد بالدرجة الأولى على مسألتين: سعر الصرف الذي سيتم اعتماده لشراء الدولارات المطلوبة لمستوردي السلع الأساسيّة، ومصدر الدولارات التي سيتم بيعها لهم. أي أن الحصول على الدولارات من السوق الداخلي ودون دخول دولارات من الخارج من شأنه أن يضاعف الضغط على الليرة، ويفقدها المزيد من قيمتها وقدراتها الشرائية.

ووفقاً للتقرير، يدّعي مصرف لبنان أن فتح الاعتمادات لمستوردي المحروقات سيتم “وفقاً لسعر صرف السوق”، من دون أن يعلن المصرف عن طريقة واضحة لتحديد هذا السعر. أحد الخيارات المتاحة أمام المصرف المركزي سيكون الاستمرار باعتماد سعر الصرف المعتمد في منصّة صيرفة، والذي يقل عن سعر الصرف الفعلي في السوق الموازية، ما يعني الاستمرار بتمويل عمليات استيراد المحروقات من دولاراته التي يضخّها في المنصّة نفسها بسعر صرف منخفض، قياساً إلى سعر الصرف الفعلي. ما يقود إلى مزيد من استنزاف موجوداته من العملات الاجنبية.

السيناريو الثاني ويقضي برفع الدعم عن المواد الأساسيّة، وخصوصاً المحروقات، وبالتالي انسحاب مصرف لبنان كليّاً من عمليّة توفير الدولارات لاستيراد هذه المواد، وإحالة الطلب على الدولار لهذه الغاية إلى السوق الموازية، ووفقاً لسعر الصرف الفعلي في السوق. في هذه الحالة، سيكون مصرف لبنان قد تمكّن فعلاً من التخلّص من الآلية  التي تستنزف احتياطاته، وسيمثّل هذا المسار وقفاً فعلياً ونهائياً للدعم، بخلاف السيناريو الأوّل. مع الإشارة إلى أن مصرف لبنان ووزارة الطاقة طبّقا هذا النموذج بالفعل بالنسبة لعمليات استيراد المازوت غير المدعوم، والذي بات يتم سداد ثمنه بالدولار الطازج بعد شرائه من السوق الموازية. كما أصبحت الوزارة تسعّر هذه المادّة بالدولار النقدي. لكن هذا النموذج لم يتم تعميمه على باقي أصناف المحروقات كالبنزين والغاز.

ويقود السيناريو الثاني  القائم على انسحاب المصرف المركزي من توفير الدولارات لمواصلة دعم البنزين والفيول أويل بعد رفعه عن المازوت، إلى ارتفاع أقسى وأسرع في أسعار المحروقات. والنتيجة الأهم ستكون المزيد من التراجع في سعر صرف الليرة اللبنانيّة مقارنة بالدولار، وتحديداً بسبب ارتفاع الطلب على الدولار في السوق الموازية، لتأمين العملة الصعبة المطلوبة لاستيراد المحروقات. ومع كل تراجع إضافي في سعر صرف الليرة مقابل الدولار، سترتفع مجدداً أسعار المحروقات وسائر السلع المستوردة وهكذا دواليك.

ما طرحه البنك الدولي من سيناريوهات بخصوص آثار رفع الدعم، والنتائج المتوقعة على سعر الصرف، يعتمد إلى هذا الحد أو ذاك على ما يقرره المصرف المركزي، بالتنسيق مع الحكومة ووزارت المالية و الاقتصاد والطاقة. وهو وضع يتطلب سياسات مدروسة وتحظى بغطاء من الاستقرار السياسي والأمني وفتح الأفق المسدودة عربياً ودولياً. وكلها غير متوافرة بدليل التطورات التي شهدتها البلاد كنتيجة لحادثة الطيونة، وما قادت إليه من تأزم واحتقان سياسي وأمني له السمة الطائفية الصافية.  ويضاف إليها العديد من الملفات الشائكة التي ستبرز المزيد من العقد والاستعصاءات عن القدرة على معالجتها. ما يعني أن البلاد تدخل في المجهول من النواحي كافة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ويظل الأقسى والأكثر مرارة هو الإفقار والجوع والمرض والصقيع الذي سيطحن عظام اللبنانيين في شتاء قاسٍ عليهم، ضمن آفاق مقفلة أمامهم من جانب هذه الطبقة الطائفية المافياوية، والتي لا تمانع من إدارة البلاد وقيادتها إلى مزيد من الغوص في شعاب جهنم الملتهبة.

 

Leave a Comment