سياسة صحف وآراء

 اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان: الدوافع والتحديات 

 *  المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات

دخل اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، بوساطة أميركية، حيّز التنفيذ في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، لينهي نحو 14 شهرًا من المواجهات بين الطرفين. وكان حزب الله بادر في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى، التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، إلى فتح جبهة مواجهة محدودة لمساندة قطاع غزة، حوّلتها إسرائيل إلى حرب مفتوحة بلغت ذروتها في 23 أيلول/ سبتمبر 2024، عندما أطلقت ما أسمته عملية “سهام الشمال”، بعدما رفضت قواعد الاشتباك وخيّرت الحزب بين وقف جبهة الإسناد وبين الحرب، وتلا ذلك اجتياح برّي لجنوب لبنان في 30 من الشهر نفسه.

أولًا: الخطوط العريضة للاتفاق

استند اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان إلى قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701، ودعا إلى تطبيقه بالكامل، وصيغ الاتفاق بطريقة تفتح مجالًا واسعًا للتأويل؛ فقد أشار مثلًا إلى أن القرار 1701 يتضمن التنفيذ الكامل لقرارات مجلس الأمن السابقة التي استند إليها، بما يشمل القرار 1559 من دون ذكره صراحة، الذي يدعو إلى نزع سلاح جميع الجماعات المسلحة، وكذلك القرار 1680 الذي يدعو إلى ترسيم الحدود البرية بين سورية ولبنان. وأكد الاتفاق أن للبنان وإسرائيل الحق في الدفاع عن النفس بما يتفق مع القانون الدولي، وقد رأى كثيرون أن هذا يتيح لإسرائيل مجالًا واسعًا لتضرب حزب الله بذريعة “الحق في الدفاع عن النفس”، في حين أن الحزب سوف يحجم عن أيّ عمل ضدها خوفًا من الانزلاق مجددًا إلى مواجهة مفتوحة معها. وأشار الاتفاق أيضًا إلى أنّ إسرائيل ستسحب قواتها تدريجيًا إلى جنوب الخط الأزرق في فترة لا تتجاوز الستين يومًا، بينما يسحب الحزب قواته إلى شمالي نهر الليطاني؛ ما سيمكّن المدنيين المهجّرين على جانبَي الحدود من العودة إلى مناطقهم.

وجاء في الاتفاق أن الجيش اللبناني، بالتوازي مع انسحاب الجيش الإسرائيلي، سينشر نحو 10 آلاف عنصر في جنوب الليطاني وسيباشر في تنفيذ التزاماته، بما في ذلك تفكيك المواقع والبنى التحتية (غير التابعة للدولة اللبنانية)، ومصادرة الأسلحة غير المصرح بها (في إشارة ضمنية إلى أسلحة حزب الله ومواقعه وأنفاقه). وستراقب القوات العسكرية والأمنية اللبنانية وصول مختلف أنواع الأسلحة إلى المنظمات غير التابعة للدولة اللبنانية وتمنعه، وفي الوقت نفسه تتولى الحكومة اللبنانية تنظيم إنتاج الأسلحة في لبنان ومراقبته. كانت هذه هي الشروط الإسرائيلية لوقف الحرب، وهي عمليًا أهدافها المعلنة، وقد تضمّنها الاتفاق (الذي ننشره في صيغة ملحق بورقة تقدير الموقف هذه، إضافة الى ورقة الضمانات الجانبية التي قدمتها حكومة الولايات المتحدة إلى إسرائيل).

وذكر الاتفاق أن الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ستعملان مع المجتمع الدولي على تقديم الدعم المناسب للقوات المسلحة اللبنانية، بما في ذلك تدريبها على تفكيك المواقع والبنى التحتية غير المصرح بها، الموجودة فوق الأرض وتحتها، وتفتيشها؛ من أجل تمكين الدولة اللبنانية من القيام بمهماتها. وأكد أن مفاوضات غير مباشرة ستبدأ بين لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية؛ لترسيم الحدود البرية بينهما، وذلك بعد استكمال انسحاب الجيش الإسرائيلي إلى جنوب الخط الأزرق، وفي إثر انتشار الجيش اللبناني في جنوب نهر الليطاني. وهكذا، دخلت الولايات المتحدة طرفًا ضامنًا لتنفيذ الاتفاق لبنانيًا؛ لأنّ إسرائيل ترى أن الحكومة اللبنانية لن تكون قادرة على تنفيذه من دون ذلك، ويمكن أن يكون مصيره مثل مصير القرار 1701.

ثانيًا: دوافع قبول إسرائيل الاتفاق

تتوافر أسباب عديدة تجعل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يطيل أمد الحرب مع حزب الله، وفي مقدمتها سعيه إلى إيقاع أكبر الخسائر بالحزب وجمهوره وبلبنان، ونزولًا عند مطالب حلفائه في اليمين الفاشي في ائتلافه الحكومي، واستجابة لضغوط رؤساء المستوطنات اليهودية المحاذية للحدود اللبنانية. وفي الحقيقة، دفعت عوامل أخرى نتنياهو إلى قبول اتفاق وقف إطلاق النار، حدد بعضها في خطاب وجّهه إلى الإسرائيليين عشية موافقة مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر للشؤون السياسية والأمنية “الكابينت” عليه، وأهمها:

  1. موافقة حزب الله على فكّ الارتباط بين التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في لبنان وفي قطاع غزة. ويؤدي ذلك، في رأي نتنياهو، إلى عزل حماس وإضعافها، ودفعها إلى القبول بعقد صفقة لتبادل الأسرى بشروط مريحة لإسرائيل، ومن دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى إنهاء الحرب على القطاع.
  2. موقف المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية التي أوصت بإنهاء الحرب مع حزب الله والتوصل إلى اتفاق سياسي مع الدولة اللبنانية. وجاء هذا الموقف نتيجة إرهاق الجيش الإسرائيلي وقوات الاحتياط، في ضوء استمرار الحرب أكثر من سنة في قطاع غزة ولبنان، والخسائر التي تكبّدها، خاصة في صفوف قوات النخبة مثل لواء غولاني، فضلًا عن عزوف نسبة عالية من قوات الاحتياط عن الاستجابة لاستدعائها للخدمة في الجيش، وخشية قيادته من أن تزداد هذه الظاهرة، إذا ما استمرت الحرب. أضف إلى ذلك، خشية المؤسسة العسكرية، استنادًا إلى خبراتها وتجاربها السابقة في لبنان، من التورط في حرب استنزاف مع حزب الله سواء إذا احتلت مناطق جديدة في جنوب لبنان أو ظلت في مواقعها المحاذية للحدود داخل الأراضي اللبنانية. 
  3. يمكّن هذا الاتفاق إسرائيل من الإعلان عن تحقيق هدفها الرئيس من حربها على لبنان، الذي أعلنته في أيلول/ سبتمبر 2024، وهو إعادة المهجرين الإسرائيليين إلى مناطقهم في شمال إسرائيل. فإلى جانب تدمير الجيش الإسرائيلي العديد من التحصينات وشبكة الأنفاق ومخازن الأسلحة في شريط الأراضي اللبنانية المحاذية للحدود الإسرائيلية، يضمن اتفاق وقف إطلاق النار إبعاد قوات حزب الله وأسلحته إلى شمال نهر الليطاني، ودخول 10 آلاف من قوات الجيش اللبناني إلى جنوب النهر، حيث تشمل مهماتها، وفق الاتفاق، منع عودة قوات الحزب إلى المنطقة واستكمال تفكيك مواقعه العسكرية وبنيته التحتية في جنوب الليطاني.
  4. ضغط الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب وإدارة الرئيس جو بايدن على نتنياهو ليقبل اتفاق وقف إطلاق النار. إلى جانب ذلك، خشي نتنياهو من أن تقدم إدارة بايدن على اتخاذ خطوات ضد إسرائيل في الفترة المتبقية لحكمها، إذا رفض قبول الاتفاق، من قبيل تمرير قرار في مجلس الأمن يطالب بوقف إطلاق النار، وإبطاء تزويدها بالسلاح. فقد حجبت إدارة بايدن صفقة ذخائر عن إسرائيل بقيمة 693 مليون دولار؛ ما أثّر في الفاعلية العسكرية للجيش الإسرائيلي؛ في سبيل إقناع نتنياهو بالموافقة على وقف إطلاق النار في لبنان، ولم تلبث أن أقرّت الصفقة فور قبوله بذلك. 
  5. يسهّل قبول الاتفاق وإنهاء الحرب ضد لبنان على الائتلاف الحكومي سنّ قانون يعفي الحريديم من الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش الإسرائيلي، يطالب به حزبا شاس ويهدوت هتوراه، بما يضمن استقرار الائتلاف. ومن المتوقع أن تقلّ نسبيًا المعارضة في الكنيست وفي الرأي العام الإسرائيلي، وحتى داخل المؤسسة العسكرية، لسنّ هذا القانون بعد انتهاء حرب إسرائيل على حزب الله.   
  6. حققت إسرائيل في هذه الحرب الجزء الأكبر من أهدافها؛ إذ إنها تمكّنت من إضعاف قدرات حزب الله العسكرية وتحجيمها إلى حد بعيد وإبعاده عن الحدود، بحيث أنه لم يعد يشكّل تهديدًا كبيرًا لها كما كان في السابق؛ ما يطلق يدها في العمل ضد إيران، إذا اختارت ذلك، إضافةً إلى فكّ ارتباط سلاح الحزب بفلسطين، وتوجّهه عمومًا نحو العمل السياسي في لبنان في إطار اتفاق الطائف.

ثالثًا: دوافع قبول حزب الله الاتفاق

تتمثل دوافع قبول حزب الله اتفاقَ وقف إطلاق النار، وفق الشروط التي سبق ذكرها والتي كان يرفضها، والموافقة على فصل مسار الحرب في لبنان عن مسارها في غزة، في الخسائر الكبيرة التي تكبّدها خاصة في الشهور الأخيرة، وتحديدًا منذ أن اغتالت إسرائيل القائد العسكري للحزب فؤاد شكر في غارة جوية شنّتها على الضاحية الجنوبية لبيروت، في 30 تموز/ يوليو 2024. ووجهت له ضربات مؤلمة بدأت بتفجير أجهزة البيجر واللاسلكي (توكي ووكي)، يومَي 17 و18 أيلول/ سبتمبر، ثم اغتيال قادة وحدة الرضوان في غارة جوية شنّتها في 20 من الشهر نفسه، قبل أن تطلق العنان لغارات جوية واسعة بلغت ذروتها باغتيال الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، في الضاحية الجنوبية، يوم 27 من الشهر نفسه، ثم تصفية القسم الأعظم من قيادات الصف الأول السياسية والعسكرية، وقطاع واسع من كوادره، وتدمير قسم كبير من ترسانة صواريخه الدقيقة البعيدة والمتوسطة المدى، فضلًا عن استهداف شبكة خدماته المالية والصحية والاجتماعية، والقصف الهمجي الذي شمل حاضنته الاجتماعية، بما في ذلك تدمير قرى بأكملها في جنوب لبنان، وأكثر من 400 بناية سكنية في الضاحية الجنوبية، وصولًا إلى البقاع، حيث يتركز أيضًا جزء مهمّ من بيئة الحزب الاجتماعية. دفع كل ذلك حزب الله، الذي صار وجوده مهددًا ليس فقط بصفته قوة عسكرية لها امتدادات ونشاطات إقليمية، بل أيضًا ضمن المعادلة الداخلية اللبنانية باعتباره التنظيم السياسي والعسكري الأبرز، إلى القبول بوقف إطلاق النار وفق الشروط التي فُرضت عليه.

ومن الخطأ الفادح الاستنتاج أن نتائج هذه الحرب تؤذن بنهاية حزب الله. لقد ضعف الحزب في السياق الإقليمي، وفي سياق المواجهة مع إسرائيل وتراجعت هيبته في لبنان نفسه، ولكنه ما زال قوة سياسية منظمة ومسلحة ذات قواعد شعبية يجدر أن يحسب لها حساب في الحياة السياسية اللبنانية، وسوف يظهر ذلك في تشييع أمينه العام السابق حسن نصر الله، وفي مناسبات أخرى. ويواجه الحزب تحديات كبرى متعلقة بإعادة الإعمار ومعالجة آثار الحرب على جمهوره وكوادره، وإعادة الاعتبار لنفسه. وهذه مهمات عينية سيكون عليه أن يثبت استمراريته من خلالها، ولا تجيب عنها إعلانات الانتصار. لقد صمد الحزب واسترجع أنفاسه في قتال الأسابيع الأخيرة على نحو خاص، ولكنه لم ينتصر في هذه الحرب بأي تفسير للانتصار.

 رابعًا: التحديات التي تواجه تطبيق الاتفاق

تعتزم إسرائيل العمل على تطبيق قرار مجلس الأمن 1701 بحذافيره، كما يصرّ على ذلك قادتها السياسيون والعسكريون. وتؤكد أنها ستستخدم القوة العسكرية، وخصوصًا سلاح الجو، في ضرب أيّ هدف لحزب الله ترى فيه مخالفة لاتفاق وقف إطلاق النار، وفق فهمها له. وتعتقد أن بإمكانها فعل ذلك من دون أيّ عواقب، استنادًا إلى ورقة التفاهمات التي توصلت إليها مع الإدارة الأميركية، وتكفل لها ذلك. 

ويؤدي بقاء جيش الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي التي يحتلها في جنوب لبنان، مدة ستين يومًا، بحسب بنود الاتفاق، إلى انتهاكات عديدة في حق المدنيين اللبنانيين الذين يحاولون العودة إلى بلداتهم وبيوتهم في جنوب لبنان. ويثير إصرار إسرائيل على منع حزب الله من استعادة قوته العسكرية أيضًا مخاوف من أن تتخذ ذلك ذريعة لاستباحة الأراضي اللبنانية، كما تفعل في سورية، حيث توجه ضربات جوية أو صاروخية أو مدفعية، على نحو روتيني وحتى شبه يومي، ضد ما تقول إنه أهداف أو شحنات أسلحة موجهة إلى الحزب. وتُطرح أسئلة جدية حول كيفية قيام الجيش اللبناني بتفكيك البنية العسكرية للحزب والسيطرة على منشآت إنتاج السلاح والذخيرة التي يمتلكها في لبنان؛ فكيف سيتصرف عمليًا إزاء نقل الأسلحة إلى الحزب من الأراضي السورية؟ وماذا عن الدور الأميركي الذي يشرف على تنفيذ الاتفاق؟ ترى إسرائيل ذلك جزءًا من الاتفاق، وقد بدأت في عملية ما تعدّه تطبيقًا لبنوده من خلال قصف المواقع التي تشتبه بوجود سلاح فيها.

يضاف إلى ذلك الخلاف في مسألة ترسيم الحدود؛ إذ يُستبعد أن تستجيب إسرائيل في المفاوضات غير المباشرة مع لبنان، والمزمع إجراؤها في الشهور المقبلة، إلى مطلب الانسحاب من الأراضي اللبنانية التي تحتلها منذ فترة طويلة، وتشمل مزارع شبعا وجزءًا من قرية الغجر، فضلًا عن 13 نقطة على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية تصل مساحتها إلى نحو 4850 دونمًا، من ضمنها نقطة الحدود الغربية الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط عند رأس الناقورة ذات الأهمية الاستراتيجية. 

خاتمة

تسعى إسرائيل من خلال استثمار ما حققته في حربها على حزب الله، ومنعه من إعادة التسلح وإبعاده عن الحدود والعمل، بالتعاون مع الولايات المتحدة وقوى إقليمية ومحلية لبنانية أخرى، إلى إخراجه من معادلة الصراع مع إسرائيل، وإنهاء دوره الإقليمي، وتحويله إلى حزب محلي كغيره من الأحزاب اللبنانية، ينصبّ تركيزه على قضايا لبنان الداخلية، والاهتمام بشؤون قواعده الاجتماعية ونصيبها من الدولة اللبنانية في إطار النظام السياسي الطائفي. ومن المتوقع أن تتفرغ إسرائيل بعد ذلك لتتعامل مع مسألة الملف النووي الإيراني، لا سيما بعد أن يتولى دونالد ترامب الرئاسة، وأن تستمر في الضغط على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية ضد إيران وصولًا إلى اتفاق مقبول إسرائيليًا، و/ أو تهيئة الرأي العام العالمي ليتقبّل فكرة قيام إسرائيل (منفردة، أو بالتنسيق مع الولايات المتحدة) بضرب المنشآت النووية الإيرانية، خصوصًا بعد أن خسر حزب الله معظم قوّته العسكرية في الحرب الأخيرة، وهي التي كانت تعدّها إيران أحد مكونات قوة ردع  إسرائيل عن مهاجمة مشروعها النووي. 

 *  نشرت على موقع العربي الجديد بتاريخ 2 كانون الاول 2024

Leave a Comment