يدرك الكرملين جيداً أن سقوط الأسد المدوي، وجه ضربة شبه قاصمة لكل ما اعتقد أنه حققه في عملية إنقاذ نظام الأسد، لا سيما في الشرق الأوسط وإفريقيا. فمنذ دخوله سوريا العام 2015 “لإنقاذ سلطة الأسد الشرعية”، وهو يكرر أن مشاركته في المأساة السورية، أعادت إلى روسيا مكانة الدولة العظمى في العالم التي فقدتها مع سقوط الإمبراطورية السوفياتية. ويعكس إعلام الكرملين ومسؤولوه قلقاً شديداً على مصير قاعدتي طرطوس وحميميم، اللتين تشكلان خط الدفاع الرئيسي عن كل ما يعتقد بوتين أنه تحقق له في سوريا.
أما إيران، فقد كان سقوط الأسد ضربة قاتلة لمعظم ما جنته في المنطقة بعد ثورة الملالي، وخاصة بعد الغزو الأميركي للعراق. فقد كان نظام الأسد حجر الزاوية في “محور المقاومة”، ووفر لها شبكة التواصل الآمنة مع حزب الله الذي يكاد يتساوى مع النظام السوري في الأهمية بالنسبة إليها. وجاء إنهيار نظام الأسد حلقة مكملة، وليست نهائية، لكل ما ألحقته سلسلة الضربات الإسرائيلية القاسية لمشروع إيران التوسعي في المنطقة، سواء عبر قصف أراضيها مباشرة، والذي طاول مشروعها النووي جزئياً، أو عبر شل قدرات حزب الله وتدمير قدرات حماس شبه الكامل.
إسرائيل، المسؤولة عما وصل إليه حزب الله وحماس من ضعف وشبه إنهيار أصاب في الصميم مشروع طهران في المنطقة، ليست مسؤولة مباشرة عن سقوط نظام الأسد، وإن كانت غارات طيرانها المستمرة قد أسهمت جدياً في زيادة ضعفه وهشاشته في الداخل والخارج. لكن إيران تحمّل إسرائيل والغرب المسؤولية شبه الكاملة عن سقوط نظام الأسد، وتتجاهل كلياً ثورة الشعب السوري ضد وحشية قمعه وفظاعاته، والتي كان لها ولأذرعها القسط الأكبر من هذا القمع المتوحش. ولهذا يترافق إبتهاج السوريين بانتصارهم على نظام آل الأسد بتمزيق صورهم وتحطيم تماثيلهم، وبانتزاع صور ملالي إيران وحسن نصرالله، واقتحام السفارة الإيرانية في دمشق.
طهران التي تستفيق بالتدريج من “مفاجأة” سقوط نظام الأسد، وما يعنيه من تدمير لما جنته من سنوات هيمنتها على سوريا، ليس لديها ما ترد به على إسرائيل والغرب الذين تحملهم مسؤولية هذا السقوط، سوى التهديد بإنجاز مشروعها النووي. وقد انكشف عجزها عن هذا الرد بوضوح في تحججها بحرصها على إتفاق وقف إطلاق النار في لبنان لتمتنع عن الرد على هجوم إسرائيل عليها في 26 تشرين الأول/أوكتوبر المنصرم.
المستشرق الروسي المتخصص المعروف بالشؤون الإيرانية Nikita Smagin أوجز في 8 الجاري في موقعه في فايسبوك رأيه في ما تعنيه لإيران خسارة سوريا. رأى المستشرق أن محور المقاومة لم يعد موجوداً. قبل سقوط الأسد كان لا يزال من الممكن الحديث عن إحتمال إستعادة قدرات حزب الله والمجموعات الأخرى الموالية لإيران، لكن الآن، عملياً، ما عاد من وجود للمحور الموحد التابع لإيران.
ويبدو للمستشرق أن نجاح هيئة تحرير الشام في سوريا، سوف يلهم حتماً بعض معارضي السلطات في طهران. وإذا كانت حكومة دمشق غير الشرعية قد انهارت، فلماذا لا يلحق المصير عينه بالحكومة الإيرانية، التي فقدت دعم غالبية الإيرانيين؟ وكل هذا مجتمعاً سوف يرفع مستوى المخاوف الوجودية لدى النخب الإيرانية.
ويرى أن منظومة الردع غير المتكافئ لم تعد موجودة بشكلها السابق. مما يعني أن من الضروري العثور بسرعة على خيار جديد يضمن البقاء. الصواريخ جيدة بالطبع، لكن السلاح النووي أفضل. إلا أن المخاطر الداخلية هي أكثر ما سيشغل بال السلطات بعد سقوط الأسد، وليس أمامها سوى خيارين: الإصلاحات أو القمع. وعليها أن تسرع في إتخاذ قرارها، وإلا فقد يكون الأوان قد فات.
روسيا التي أفقدها أيضاً سقوط نظام الاسد بعضاً وازناً مما اعتقدت أنها جنته من مشاركتها الفاعلة في قتل السوريين وتدمير عمارهم، تحمل تركيا والولايات المتحدة وأوكرانيا المسؤولية عن هذا السقوط. لكن المسؤولية الأكبر تحملها للأسد نفسه لقصوره في تطوير الجيش ورفضه الإستماع لنصائحها في الإنخراط الجدي في الحوار مع “المعارضة الشرعية” لإنجاز تسوية سياسية للمأساة السورية. وذهب إعلام الكرملين إلى القول بأن الأسد ساهم في سقوط نظامه أكثر من جبهة تحرير الشام.
صحيفة الكرملين vz نشرت نصوصاً عديدة يوم سقوط نظام الأسد. وعلى عادة إعلام الكرملين حين يتحدث عن إنتفاضة شعب ما ضد جلاديه، يبرئ الجلاد ويتهم الغرب بالوقوف وراء الإنتفاضة. فقد عنونت الصحيفة أحد نصوصها بالقول أن “الغرب أغرق سوريا في حالة من الفوضى الخاضعة للسيطرة”. لكن لوحظ أنها تخلت عن وصف هيئة تحرير الشام بالإرهابية، واستهلت النص بالقول أن المعارضة السورية المسلحة قطعت مرحلة آل الأسد التاريخية التي بدأت العام 1971. ورأت أن هزيمة بشار الأسد تهدد بتغيير صورة الشرق الأوسط بشكل جذري.
أشارت الصحيفة إلى تصريح وزارة الخارجية بأن لا مخاطر محدقة الآن بالقواعد العسكرية الروسية في سوريا، علماً أنها وضعت في حالة تأهب قصوى.
نقلت الصحيفة عن المستشرق Vladimir Sajine قوله بأن إيران تبدو الخاسر الأكبر من سقوط الاسد. فسوريا بالنسبة لطهران تمثل “الحلقة الذهبية” في سلسلة النفوذ الشيعية. وقد أصبحت مثاراً للشك مقولة تصدير الثورة الإسلامية، ولن تتمكن إيران من تغيير الوضع بأي شكل من الأشكال. وسيتعين عليها أن تتقبل الوضع الناشئ المختلف كلياً، والتفاوض مع الحكومة السورية الجديدة على أمل إقامة علاقات دبلوماسية ما على الأقل. وليس من المؤكد أن تنجح إيران في ذلك، إذ ان هيئة تحرير الشام كانت ترى في إيران العدو الثاني من حيث الأهمية بعد نظام الاسد.
في سياق تبرير روسيا تقاعسها عن مساعدة بشار الأسد، والتملص مما يشاع عن توافقها مع أنقرة في لقاء منصة أستانا في الدوحة، على التخلص من الأسد وإطلاق عملية التسوية السياسية التي دأب الأسد على إفشالها، يحمّل إعلام الكرملين الأسد المسؤولية عن إنهيار سلطته. ليس لأنه بقي مصراً على الحل الأمني للأزمة السورية، بل لأنه لم يكن يستمع جيداً لتعليمات الكرملين تحت ضغط طهران جزئياً. ويعتقد البعض أن بوتين أبلغ الأسد، أثناء إستدعائه إلى موسكو، بقرار الكرملين عدم تقديم المساعدة له التي قد تنقذه كما في العام 2015. ويتذكر الأسد، ولا شك، أن مساعدة بوتين له في ذلك الحين أنقذت سلطته التي كانت على وشك الإنهيار. وفي ظل عجز إيران عن تقديم أي مساعدة أيضاً، رأى أن الخناق قد ضاق حول عنقه وحلت ساعة إستسلامه من دون مفاوضات شكلية. فعمد إلى أصدار الأوامر إلى جيشه بالتراجع أمام هجمات الفصائل المسلحة، وصولاً إلى دمشق وتسليمها السلطة دون مقاومة.
نقلت صحيفة الكرملين أيضاً عن الخبير العسكري الروسي Vadim Koziouline قوله بأن مقاتلي جبهة تحرير الشام فعلوا أقل بكثير مما فعله بشار الأسد لإنهيار النظام السوري. وكان الأسد ينام على حرير الإنتصارات السابقة، واعتبر مع فريقه أن الصراع على السلطة قد انتهى. ولهذا السبب، لم يتم إيلاء أي إهتمام بتطوير الجيش وتحديثه. وتحول الجيش إلى مجموعة من القادة العسكريين، كان كل منهم يحاول إقامة إقطاعه الخاص. ولم يكن هذا ينال إعجاب الجنود، ولا المواطنين، وأخذت هيبة الأسد تتراجع إلى أن سقط سقوطاً مدوياً.
* نشرت على موقع المدن بتاريخ 10 كانون الاول 2024
Leave a Comment