زكـي طـه
بيروت 1 كانون الاول 2024 ـ بيروت الحرية
لا تُقرأ تجارب اللبنانيين إلا في ضوء نتائجها، كما لا تُقرأ نتائجها إلا بالاستناد إلى مقدماتها. هكذا كان الأمر مع كل ما سبق من التجارب التي تشكل تاريخ لبنان الحديث في صيغته الراهنة. وهكذا هو الحال مع العدوان الاسرائيلي الذي تعرض له لبنان منذ أكثر من عام وحتى الآن بذريعة معركة مساندة غزة، في ظل الحرب الاسرائيلية القائمة والمستمرة حتى الآن ضد الشعب الفلسطيني.
صحيح أن جولات المفاوضات التي تولاها المبعوث الأميركي، وبعضها كان منسقاً مع فرنسا، بين لبنان وحكومة العدو الاسرائيلي منذ الاسابيع الاولى للمعركة التي قررها وبدأها حزب الله عبر الحدود اللبنانية الجنوبية، لم تثمر فصلاً لجبهة لبنان عن سائر جبهات الحرب مع اسرائيل، التي ردت لاحقاً بحرب قتل وتدمير وتهجير شامل تحت راية إنهاء الوجود المسلح لحزب الله جنوب الليطاني، وتدمير بنيته القتالية والتسليحية. لكن الأهم كان التلاعب بمعادلات بُنية البلد المجتمعية، عبر استهداف الطائفة الشيعية في وجودها وعمرانها، ومصادر عيشها في سائر أنحاء الجنوب والبقاعين الغربي والاوسط، بالإضافة إلى منطقتي بعلبك ـ الهرمل والضاحية الجنوبية لبيروت.
وبصرف النظر عن النتائج الكارثية للحرب على جميع المستويات الانسانية والعمرانية والاقتصادية، وخلافاً لكل المؤشرات التي كانت تشي بأن الحرب على لبنان مرشحة للاستمرار والتصاعد، ورغم دعم الولايات المتحدة الاميركية المعلن للحرب، والتبني الصريح لأهداف وشروط اسرائيل لوقفها، فإن المفاوضات التي أدارتها، مع سائر الاطراف، انتهت إلى اتفاق لوقف اطلاق النار على الجبهة اللبنانية.
القرار الأميركي والتوافق الفرنسي
من الواضح أن قراراً أميركياً اُتخذ من قبل الادارة الحالية، وبالتوافق مع الرئيس المنتخب، من أجل الوصول إلى الاتفاق، وأن تنسيقاً مع فرنسا قد حصل. والأهم في هذا السياق تمثل بالاستجابة الاميركية لجميع شروط وطلبات الحكومة الاسرائيلية، وتقديم كل الضمانات التي تسمح لجيش العدو بحرية العمل في مواجهة كل ما يمكن أن يهدد أمن دولته من لبنان، لضمان قبول رئيس حكومة العدو بنص الاتفاق وموافقتها عليه، بعد تسريب متعمد ومسبق لما تضمنه من بنود وشروط ومعطيات وضمانات، بما فيها تحديد موعد نفاذه وصيغة الاعلان عنه من قبل الرئيسين الاميركي والفرنسي، بعد موافقة الاخير على وقف تنفيذ قرار المحكمة الجنائية الدولية في بلاده، بذريعة الحصانة الدبلوماسية لرئيس حكومة اسرائيل ووزير الدفاع السابق، مقابل مشاركة فرنسا في اللجنة المشرفة على تنفيذ اتفاق وقف اطلاق النار على الحدود اللبنانية.
في موازاة ذلك، بدا المفاوض اللبناني ممثلاً برئيسي المجلس النيابي وحكومة تصريف الاعمال، في موقع من يتلقى الاخبار والمنتظر في آن. لأن كليهما ورغم مطالباتهما المتكررة بوقف اطلاق النار، وتأكيد التزام لبنان بتنفيذ القرار الأممي 1701، لم يكن لهما سلطة على الجهة المعنية بقرار بدء الحرب أو وقفها. ولذلك صدرت الموافقة أولاً على لسان المسؤولين الإيرانيين، ومن قبل أمين عام حزب الله الذي أحال مسؤولية الاعلان على الرئيسين بري وميقاتي. أما الحكومة اللبنانية فقد اجتمعت بعد ساعات من سريان وقف اطلاق النار لإعلان موافقتها على تنفيذ الاتفاق دون الاطلاع على مضمونه. فيما مئات ألوف النازحين كانوا يملأون الطرق المؤدية إلى سائر المناطق التي هُجِّروا منها، بغية تفقد ما بقي لهم من منازلهم وممتلكاتهم التي دمرها العدو.
سجالات اللبنانيين وتحليلاتهم
من الطبيعي أن تتجدد السجالات بين سائر الاطراف والقوى اللبنانية، حول وظائف معركة المساندة ونتائجها ومضاعفاتها، كما حول مفاعيل الحرب الاسرائيلية على لبنان والمسؤولية عنها. وكذلك حول قرار الاستمرار في خوض الحرب ضد اسرائيل، رغم الخسائر الكارثية التي نجمت عنها. وقد أضيف لها الآن اتفاق وقف اطلاق النار، وما ينطوي عليه من مس بسيادة لبنان الوطنية، ومن تسليم بدور ونفوذ الإدارة الأميركية، التي ستتولى رئاسة اللجنة المشرفة على تنفذ القرار 1701 وفق الاتفاق، الذي يكفل الأمن لاسرائيل ويستجيب لشروطها. كما كان الحال مع الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية، وما انطوى عليه من تفريط بمصالح وحقوق البلد في أرضه وثروته النفطية لمصلحة كيان العدو.
أما سيل التحليلات حول ما جرى وما كان، وحول دعاوى الانتصار والهزيمة التي تصدر عن هذا الطرف أو تلك الجهة، ووظائفها في ميادين التعبئة الفئوية التي تساهم في تأزيم الوضع الداخلي. فإنها لا تعفي اللبنانيين وسائر القوى والمسؤولين عن خطر تهديدات العدو وممارساته العدوانية على ارض الواقع، رغم بدء سريان قرار وقف اطلاق النار. وهي التي لم تزل تتوالى فصولاً تصعيدية، وهدفه فرض شروطه وفق قراءته لنصوص الاتفاق. مستنداً في ذلك إلى اختلال موازين القوى من ناحية، وإلى الانحياز الاميركي واستطراداً الفرنسي، لأهداف حربه وسياساته حيال لبنان وسائر دول المنطقة من ناحية ثانية. لكن الأهم بالنسبة للعدو، هو استغلال الإنقسام السياسي والاهلي الداخلي حول الحرب التي قررها حزب الله، في امتداد الموروث والمستجد من خلافات اللبنانيين المستعرة بقوة المشاريع الفئوية للاحزاب الطائفية وقوى السلطة، وبنتيجة صراعاتها للتسلط على مؤسسات الدولة وأجهزتها وقرارها السيادي.
المخاطر والتحديات
ولأن الخطورة على مصير البلد كانت ولا تزال تتمثل باستمرار الحرب الاسرائيلية عليه، وفي تفريط قوى السلطة بمصلحة لبنان الوطنية التي تقضي ببقائه وطناً موحداً لجميع ابنائه، وفي تمكين اللبنانيين من إعادة بناء الدولة ومؤسساتها. فإن التحدي الأهم والراهن الذي ينتصب بوجههم جميعاً بعيداً عن سجالاتهم، ليس في ضبط طموحاتهم الفئوية، ووقف لغة التخوين والمزايدات الرخيصة والسجالات العقيمة وحسب، وليس اعلان الالتزام بوقف اطلاق النار، إنما بتظافر جهود سائر القوى لخوض معركة تطبيق الاتفاق المتعلق بتنفيذ القرار 1701، والتصدي للخلل الذي ينطوي عليه لمصلحة العدو.
والمدخل إلى ذلك يكمن في إعادة الاعتبار لدور الدولة بعيداً عن التشاطر، والمسارعة إلى انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة قادرة على تفعيل مؤسساتها وإداراتها وأجهزتها، وتمكينها من وضع مخططات معالجة نتائج الحرب وإعادة الاعمار. وفي مقدمها تعزيز دور الجيش المعني بمحاصرة المفاعيل السلبية للاتفاق، وبوضع حد لممارسات العدو التي تستهدف تكريس النيل من السيادة الوطنية. والأهم هو تحصين الوضع الداخلي، وقطع الطريق امام خطر استئناف الحرب، وتنفيذ تهديدات قادة العدو بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، على نحو مشابه لما جرى ولا يزال في قطاع غزة.
النزاع وسط أزمات المنطقة
وكما كان الامر مع سائر أزمات الكيان التي تحولت نزاعات دموية وحروباً أهلية دفع أكلافها جميع اللبنانيين، تشابكت فيها عوامل الانقسام الداخلي مع أزمات بلدان المنطقة العربية وقضاياها المتفجرة، وتقاطعت معها استراتيجيات الجهات الدولية والاقليمية للسيطرة والهيمنة عليها. كذلك فإن جميع الاتفاقات المؤقتة لمعالجة تلك الأزمات، بما فيها اتفاق وقف اطلاق النار الحالي والقرار 1701، قد صدرت بقرارات وتوافقات خارجية قَبِل بها اللبنانيون، سواء لوقف نزاعاتهم الاهلية وتنظيم شؤونهم، أو لرفع وصاية خارجية عن بلدهم، أو وضع حد للعدوان الاسرائيلي المتكرر عليهم. وما يؤكد ذلك أن مندوبي أو ممثلي تلك الدول وتبعاً لموازين القوى المحلية والخارجية، ومآلات مسارات الصراعات الأهلية والاقيليمية، هم من تولوا صياغتها. وهم من دفعوا اللبنانيين للموافقة عليها، باعتبارها لا تتعارض مع سياسيات تلك الدول، أو تتناقض مع مصالحها.
من الواضح أن لبنان واللبنانيين بمن فيهم سائر القوى في السلطة أو مواقع المعارضة، وبغض النظر عن انتماءاتهم المتنوعة ومصالحهم المتعددة، ورغم هول خسائر الحرب ومخاطر مضاعفاتها السلبية على البنية اللبنانية وأوضاع البلد، هم جميعاً أمام تحديات تختلف عن كل ما سبقها، لأنها تتعلق بقدرتهم على إنقاذ بلدهم. يؤكد ذلك أن قرار وقف اطلاق النار أتى في سياق التطورات المتسارعة في المنطقة، ووسط تصعيد الصراعات والحروب المتشابكة إقليمياً ودولياً في سائر ساحات بلدان الجوار، في فلسطين وسوريا والعراق واليمن مروراً بلبنان وسواها. وفي موازاة مسارات الحوار على أكثر من جبهة وصعيد، التي تُفتح تحت وطأة التهديدات المتبادلة، وبقوة الانذارات والعقوبات المتعددة المصدر، والتي تسابق موعد تبدل الإدارة الأميركية، وانتقال السلطة للرئيس القادم على رافعة شعار “أميركا أولاً”، وسياسات الاخضاع والسيطرة اللامحدودة الزاحفة على المنطقة والعالم على السواء.
Leave a Comment