*عزة الحاج حسن
بات الحديث عن استعادة الانتظام المالي في لبنان، في ظل أزمات وجودية تعصف بالبلد، أشبه بضرب من الخيال. فسوء إدارة المال العام وغياب الشفافية في إدارة موارد الدولة، وإن كانت لا تتقدّم من حيث المبدأ على الأزمات الأمنية وربما الصحية والإنسانية بالبلد، بالنسبة إلى الكثيرين، إلا أنها تشكّل العقبة الأكثر خطورة بوجه النهوض الاقتصادي وتبرز كإحدى الأزمات المزمنة التي تؤرق اللبنانيين وتفاقم معاناتهم.
ولا يقتصر الحديث عن الانتظام المالي على عملية إعداد الموازنة و”تنميقها” ببعض البنود الإصلاحية، إنما يتجاوزها إلى سلة إصلاحات مجتمعة، تبدأ من السياسات الضريبية وآليات الإنفاق وقطوع الحسابات، التي تشكّل أحد الدعائم الأساسية للشفافية المالية، ولا تنتهي بإدارة الدَين وأسس المحاسبة العمومية.
وللموازنة العامة في لبنان حكايتها، البعيدة كل البعد عن مفهوم الشفافية، بدءاً من إعدادها مروراً بهيكليتها ووصولاً إلى عمليات الصرف غير القانونية وضعف الرقابة.
في هذا التحقيق، سنتناول أبرز العوامل الدافعة لسوء إدارة المال العام في لبنان، وسنعرض مكامن الخلل التي تحول دون تحقيق الانتظام المالي المطلوب، وعرقلة سلوك لبنان طريق التعافي، انطلاقاً من أهمية الشفافية المالية في لعب دور حاسم بإعادة بناء الثقة وتحقيق الإستقرار المالي.
الخلل يبدأ من الصفر
قبل الخوض في عمق أسباب غياب الانتظام المالي في لبنان، لا بد من المرور على ملف الموازنة العامة التي تشكّل أحد المداميك الأساسية لعملية الانتظام المالي. ولكن في خضم التدقيق بالمراحل التي تمر بها عملية إعداد الموازنة، يتّضح أن الخلل يبدأ من أولى مراحلها ويرافقها وصولاً إلى عمليات الإنفاق. ويفنّد اسكندر البستاني، وهو خبير مختص بالموازنات والمالية العامة، في حديث إلى “المدن”، الثغرات التي تضمّنها تعميم وزارة المالية للمؤسسات العامة لتحضير موازنتها، في إطار إعداد الموازنة العامة للعام 2025، ويقول “يغيب عن التعميم أمر أساسي وهو فرضيات الموازنة وتقديرات aggregates أو المجاميع الماكرواقتصادية، والتوقعات لنسب النمو، والإيرادات والنفقات. وهذه من المشاكل الأساسية مع فقدان البيانات وفقدان القدرة على جمع البيانات”.
ومن المعلوم أن تقديرات الإيرادات والنفقات وتقديرات نسب النمو والتضخم، مهمة جداً وأساسية لتمكين الإدارات من تقديم نفقاتها على أساس علمي ومنهجي، وحتى تتمكن الدول المانحة من تكوين فكرة واضحة عن الوضع المالي للدولة اللبنانية للسنوات المقبلة.
أمر آخر مقلق في التعميم، بحسب البستاني، هو التوقع باستئناف وزارة المالية تسديد فوائد الديون التي سبق أن توقفت عن سدادها بالعملات الاجنبية. وتكمن الخطورة هنا باستئناف السداد من دون تنفيذ إعادة هيكلة للدين ووضع استراتيجية واضحة لمعالجة أزمة الدين. أمرعالق آخر، يتمثّل بعدم احتساب المساعدات الاجتماعية مع أساس الراتب. وبالتالي، عدم احتسابها بتعويض نهاية الخدمة أو الراتب التقاعدي. ومن المشاكل الهيكلية لتعميم الموازنة، أنه لا يعكس أي توجه سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي للحكومة، ولا يعكس على الإطلاق الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية.
..ويمر بكافة مفاصل الموازنة
تبدأ مكامن الخلل بالموازنة العامة من التعميم، وتمر قطعاً بعملية الإعداد وغياب قطع الحساب. وهناك العديد من أوجه الخلل أولها، وفق البستاني، “أن الموازنات التي تعدها الإدارات والمؤسسات العامة ليست ممكننة. فهي تُرسل إلى مديرية إعداد الموازنة ورقياً، ثم يتم إدخالها إلى الكمبيوتر. ومن المعروف أن هامش الخطأ البشري كبير جداً. ثم أن هامش اختلاف التصنيفات المرتبطة بالتنسيب كبير جداً، بمعنى أنه من الممكن تنسيب نفقة معينة من إدارة إلى إدارة أخرى”. ثانيها أن هناك الكثير من المؤسسات الاستثمارية ولها طابع تجاري، موجودة خارج الموازنة العامة، وتعود لوزارة الوصاية. وهذا يعني أن الموازنة التي ترفع لمجلس النواب منقوصة.
ومن العلل الجوهرية التي تشوب عملية إعداد الموازنة، أن أنظمة المحاسبة في المؤسسات المستقلة كالمستشفيات الحكومية ومصالح المياه وغيرها، على سبيل المثال، لا ترتبط بوزارة المالية. فلكل مؤسسة نظامها المحاسبي المختلف، منها من يتبع المحاسبة العمومية ومنها محاسبة خاصة، وهي غير مدمجة مع بعضها البعض، ولا يوجد مجاميع لحجم إنفاق هذه المؤسسات.
الشفافية المالية المفقودة
قبل استكمال الشوائب التي تتلازم مع عملية إعداد الموازنة العامة في لبنان، لا بد من الإشارة إلى أن التحديات التي تواجه مهمة إعداد الموازنة مهما بلغت، تبقى موضعية. أما إصلاح الموازنة بالمعنى الحقيقي الشامل، فيبدأ من تصويب مفهوم الموازنة برمّته، والتعامل معها على أنها ترجمة مالية دقيقة لخطة الدولة الاقتصادية والاجتماعية، على أن تتمتع تلك الترجمة بمصداقية.
وما بين إدارة الملف المالي بالبلد، بما فيه عملية إعداد الموازنة العامة، وبين الشفافية المالية، ثمة شرخ كبير، حسب رئيسة معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي، لمياء المبيض، التي أعربت خلال حديثها لـ”المدن” عن خيبتها بكيفية إدارة المال العام في لبنان، قائلة “إن لبنان تراجع سنينَ ضوئية بكافة مواضيع الإصلاح المالي والتشريع المالي الحديث، وبكل ما يصب في خانة الشفافية المالية والإفصاح”.
تأخر لبنان
استكمالاً للصورة العامة عن المشاكل الهيكلية التي تواجه إعداد الموازنة، هو أن هيكلية الموازنة في لبنان تعتمد على موازنة البنود. فلا يوجد قانون أساسي ينظم عملية إعداد الموازنة وتنفيذها. ويوضح البستاني بأن الموازنة يرعاها الدستور بجزء منها، وجزء آخر قانون المحاسبة العمومية. وهو قانون قديم. ما يعني أن التخطيط للموازنة هو تخطيط سيء، ويعتمد على تقدير حجم الإنفاق، وليس تقدير الأهداف المرجوة، بخلاف كافة الدول في محيطنا، لا سيما تلك التي تطورت وباتت تعتمد موازنة البرامج وموازنة الأداء.
هذه الموازنات بشكلها الجديد، أي موازنة البرامج وموازنة الأداء، تجبر الإدارات والمؤسسات العامة على إعادة النظر بعملية التخطيط. وتصبح تلك المؤسسات مجبرة على التخطيط على أساس مؤشرات أداء معينة وأهداف معينة. وعندما يصبح التخطيط بهذه الطريقة، يقول البستاني، تصبح الموازنة العامة ذات معنى حقيقي، وتعكس رؤية واضحة للحكومة. أما حالياً فهي لا تعكس أي رؤية واضحة.
إلى جانب كل تلك الثغرات، ثمة خلل باحترام المهل الدستورية. إذ، تاريخياً، نادراً ما تم احترام المهل الدستورية للموازنة. وغالباً ما تتم دراستها وإقرارها بشكل متسرّع جداً. وتبقى المعضلة الأساسية التي تشوب عملية إعداد الموازنة، هي ضعف القدرة على صنع البيانات ونشر التقارير التي كانت تنشرها وزارة المالية، “فالأخيرة عندما كانت تنشرها قبل العام 2019 كانت تعتمد فيها على أرقام الخزينة بشكل أساسي لإصدار التقارير، بينما الأصول تقتضي إصدار التقارير شهرياً بحسب قطوعات الحساب التي حالياً لا تُدقق ولا تُنشر. وبالتالي، هناك أزمة كبيرة في صنع البيانات المالية ونشرها.
أخطر العوائق
العلل التي تشوب عملية إعداد الموازنة كثيرة، إن من حيث الهيكلية أو المضمون. وقد تلحظ وزارة المال تلك الشوائب، لكنها تبرّر العديد منها بتحدّيات تعجز عن التعامل معها منفردة. وتبقى أكبر التحدّيات التي تواجه وزارة المال في إعداد الموازنة العامة، حسب مدير عام وزارة المال بالإنابة جورج معراوي، في حديثه إلى “المدن”، مسألة بناء القدرات في وزارة المالية وتمكينها، على خلفية الأزمة الخانقة التي أطاحت بالطاقم البشري وبأجهزة التكنولوجيا، للسير بالعمل بالإصلاحات المرجوة، بهدف استكمال عملية التعافي بطريقة مستدامة.
ويشير معراوي إلى أن “أهمية تفعيل الإجراءات الإصلاحية في عملية تحضير الموازنة، ليس فقط على صعيد مديرية الموازنة في المالية العامة، ولكن أيضاً على صعيد الإدارات العامة والمؤسسات العامة، للتوصل إلى مناقشة اعتمادات على خلفية سياسات استراتيجية وبناءة”
سوء إدارة “متعمّدة” للمال العام
“الخلل بإدارة المال العام يبدأ من وزارة المالية. والأخيرة متخلّية عن دورها. فالموازنة العامة لطالما كانت خالية من أي برنامج أو هدف أو جدوى”. هذا ما تراه النائبة غادة أيوب، وهي أستاذة جامعية متخصصة بالمالية العامة، وعضو في لجنة المال والموازنة. وتجزم بأن الموازنات العامة تصل إلى لجنة المال بشكل غير مقبول، من حيث المبدأ، لأنها لا تعكس الصورة الحقيقية للمالية العامة في لبنان. كما تغيب قطوع الحساب بشكل تام. وتقول في حديثها لـ”المدن”: “لا يمكن استعادة الانتظام المالي ما لم نبدأ من تغيير شكل الموازنة، والانتقال من موازنة بنود إلى موازنة برامج. كما لا يمكن تفعيل الرقابة إذا أردنا حصرها بكيفية الصرف وليس بجدوى الصرف”. والأهم من كل ذلك، تقول أيوب، “لا يوجد قرار سياسي يفتح الطريق لوقف الهدر في مالية الدولة واستعادة الانتظام المالي”.
إخفاقات الموازنة
بعيداً عن النظرة الإصلاحية الشاملة للموازنة العامة، كأحد أعمدة عملية الانتظام المالي، ثمة مكامن خلل كثيرة في الموازنة نفسها، تنعكس سلباً على إدارة المال العام، وضبط إنفاقه، وتطيح بإمكانية ملاءمة معايير الشفافية المالية.
وبحسب البستاني، فإن موضوع الشفافية لا يقتصر على إتاحة المعلومات والبيانات. إذ أن هناك مشاكل جوهرية في عملية تصنيف الموازنة، على سبيل المثال البند 13 من موازنة 2024 تتناول رواتب وأجور. وفي البند 14 نجد ضمن التحويلات لمؤسسات العامة رواتب وأجور أيضاً. هذه إشكالية التصنيفات تجعل عملية إتاحة البيانات غير شفافة، لأنها لا تعكس الواقع الحقيقي.
أضف إلى ذلك، أن الموازنة العامة في لبنان لا تعكس حجم القطاع العام كاملاً، بسبب نقص التقارير عن الإنفاق من خارج الموازنة، “فذلك يضعف مسألة الشفافية، بالإضافة إلى عدم إصدار التقارير ضمن مهل زمنية، وعدم إعداد البيانات، لاسيما لجهة الواردات، بسبب فقدان الإدارة الضريبية موظفيها”. كل ذلك جعل من الصعب جداً معرفة كم تُحقق كل ضريبة من إيرادات، وباتت الوزارة تعتمد مؤخراً على بيانات الخزينة. وهذا أمر غير دقيق ويؤثر على الشفافية بشكل كبير.
وإذا كانت العوائق التي تحول دون إعداد موازنة عامة سليمة كثيرة، فإن العوائق التي تصيبها بالعمق أكثر. ويشير إليها معراوي بقوله “إن التحديات القائمة عديدة، منها على الصعيد التمويلي لجهة ضبط الإنفاق ضمن الإيرادات، وإمكانيات الخزينة لعدم إحداث ضغط على الاستقرار المالي والنقدي. ويلفت معراوي إلى تحد آخر يتمثل بإعادة النظر بالإنفاق الاجتماعي بهدف إحداث إنفاق أكثر جدوى. أي تحسين إنتاجية الإنفاق الاجتماعي وتعزيز الخدمات الاجتماعية للمواطن، من تعليم وطبابة وغيرها، من دون تحميل عبء أكبر على الموازنة، تجنّباً للمسّ بالاستقرار المالي.
مسارب الهدر
مع كل ما ذّكر من ثغرات في صلب عملية إعداد الموازنة وتنفيذها، تبقى المسألة الأكثر خطورة والحاسمة بضرب الشفافية المالية عرض الحائط، “عملية الإنفاق من خارج الموازنة”. فعملية سلف الخزينة تعارض مبدأ الانتظام المالي. هذا باعتراف معراوي، ولكن “في ظلّ الظروف في السنوات الماضية، لجأت الحكومة إلى سلف خزينة لتسيير المرفق العام والحفاظ على استدامة الإدارات والمؤسسات، في ظلّ تعدد الأزمات الخانقة”، مع الاشارة إلى أن وزارة المال لم تصرف من هذه السلف إلا ما كان يصبّ في أولوية الإنفاق، لعدم استحداث أزمة تمويلية وتدهور سعر الصرف، وتحدث مستويات تضخم تسيء إلى الأوضاع المعيشية في البلاد. ويقول معراوي إن وزارة المالية تسعى إلى ضبط وتفادي صرف سلف خزينة، خصوصاً في وجود اعتمادات موازنة تلبّي الاحتياجات، من أجل الحفاظ على الانتظام المالي والشفافية.
لكن أين هو الإنتظام المالي في ظل تفاقم سلفات الخزينة سنوياً بآلاف مليارات الليرات؟ حصلت “المدن” على مراسلات بين وزارة المالية ولجنة المال والموازنة، تفيد بأن سلفات الخزينة بين الأعوام 2020 و2023 بلغت 41530 مليار ليرة، سُدّد منها قرابة 486.9 مليار ليرة فقط، أي ما لا يتجاوز نسبته 1.1 في المئة، ليبقى 41043 مليار ليرة مجهولة المصير، على الرغم من تحديد وجهتها. وهو ما يطيح بكل احتمالات الانتظام المالي والشفافية المالية، لا بل أكثر من ذلك، هو ما يسهّل ويكرّس مسارب الهدر للمال العام.
وسيلة لإخفاء الحقيقة
وفي ظل الاختلاف الواضح في وجهات النظر حيال كيفية إدارة المال العام بين ممثل وزارة المالية والسلطة التشريعية، يبقى النقاش والبحث بكيفية استعادة الانتظام المالي مفتوحاً على سنوات من سوء استخدام المال العام وإدارته، ومن تغييب الحكومات المتعاقبة لقطوع الحسابات، ولأي خطط اقتصادية في موازناتها على مدى سنوات (من العام 2005 وحتى العام 2017) ومن الفوضى وعشوائية الإنفاق وضعف الرقابة وتراكم الديون، وتآكل الثقة بالمؤسسات، في وقت تبقى فيه محاولات الإصلاح مجرّد شعارات، وتبقى الموازنة العامة بشكلها الحالي الوسيلة الأجدى لإخفاء حقيقة الإنفاق.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الأربعاء 2024/08/28
Leave a Comment