زكي طه
على وقع أزمة تشكيل الحكومة المزمنة، واندفاعة البلد نحو الفراغ الرئاسي المجهول العواقب، انتهت مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين. لم تتأخر أهازيج النصر على ألسنة المسؤولين اللبنانيين، ترحيباً بالاتفاق المنجز مع العدو الاسرائيلي بقوة الدور الحاسم للادارة الاميركية، التي شكلت الوسيط والضامن في آن. كذلك لم يتردد المسؤولون الاسرائيليون من اطلاق صفة “الاتفاق التاريخي” لأن كل طرف حصل على مطالبه كاملة.
لا شك أن مبررات الاحتفال بالنسبة للادارة الاميركية التي سارع مسؤوليها للتهنئة، وفي طليعتهم الرئيس بايدن ووزير خارجيته بلينكن، تتجاوز انجاز الاتفاق وقبول ضمانتها للاتفاق والتسليم الكامل بدورها وسيطاً رغم علاقتها الاستراتيجيةً الراسخة مع الكيان الاسرائيلي. ما يعني إقرار سائر اطراف الحكم في لبنان بخضوعه لدائرة النفوذ الاميركي، والتسليم به أمراً واقعاً، خلافاً لادعاءات قوى الممانعة، واوهام تحقيق الانتصار عليها وهزيمتها.
ولا شك ايضاً أن طبيعة وحجم المكاسب التي حققتها اسرائيل عبر الاتفاق، يبرران لمسؤوليها وصفه بالتاريخي، باعتباره اقتطع لمصلحتها كامل مساحة المياه الاقليمية الممتدة بين خطي 29 و23، والتي لم تكن تحلم بها اصلاً. يؤكد ذلك اتفاق 17 ايار عام 1983، الذي تم الغاؤه. ولذلك اسرع مسؤولو دولة العدو لحماية الاتفاق، وتحصينه واطلاع المجتمع الاسرائيلي عليه، وطرحه امام مؤسسات الدولة واجهزتها للمناقشة والاقرار، وتجاوز المناكفات والمزايدات الانتخابية بين تيارات اليمين الاسرائيلي التي تتنافس لخدمة مصالح الدولة العبرية.
في المقابل شهد اللبنانيون تنافساً محموماً بين أركان السلطة اللبنانية ومسؤوليها دون استثناء، ليس في اعلاء رايات النصر “التاريخي” على العدو وحسب، إنما في ادعاء البطولات الفئوية التي كانت السبب في انجاز الاتفاق، وسط حرص شديد على إبقائه طي الكتمان، وقد غاب عنهم جميعاً أن الطرف الآخر لم ولن يتأخر في نشره. وفاتهم أيضاً أن اهازيج النصر والاستخفاف بعقول اللبنانيين، ليس بمكنتها طمس حقائق يستحيل تزويرها، أو تغطية ما تضمنه الاتفاق من تفريط وقيود على حقوق البلد.
وبالاستناد إلى عدم الاستخفاف بقوة العدو الاسرائيلي وتحالفاته، أو استسهال الانتصار عليه وهزيمته، وخلافاً لاعتقاد البعض بإمكانية استعادة الحقوق المستباحة بقوة القوانين الدولية، وبواسطة الحجج والبراهين، رغم أهميتها وضرورة التحصن بها وعدم التنازل عنها. فإننا نعرف جيداً أن نتائج الصراعات والمفاوضات حول مختلف القضايا وعلى جميع المستويات تقررها موازين القوى، ووحدة اصحاب الحقوق وقدرتهم في الدفاع عنها والنضال في سبيلها بلا اوهام او تهور.
وعلى اهمية ما تحقق من استعادة لبعض الحقوق التي تستحق العمل لحمايتها وتكريسها حقوقاً وطنياً، إلا أن التدقيق في الاتفاق المنجز والذي ينتظر التوقيع عليه كما هو متوقع لغاية الآن، يوضح وخلافاً لما هو معلن، أن إقراراً لبنانياً رسمياً غير قابل للتغيير قد حصل حول الاتفاق على التنقيب والانتاج بضمانات اميركية، من حقول النفط والغاز شمال الخط 23 لمصلحة لبنان، وجنوبه من قبل اسرائيل التي “قبلت” التنازل للبنان عن حصتها من انتاج الجزء الجنوبي من حقل قانا، الذي يخترقه الخط المذكور، مقابل عائد تعويضي لها من “شركة توتال” التي تتولى الانتاج حصراً. في موازاة تجاهل تام للخط 29 وحقل كاريش، ما يعني التسليم لبنانياً باعتبارهما يقعان خارج الحدود الدولية غير القابلة للتغيير. يعني ذلك أنهما اصبحا جزءاً من المياه الاقليمية الاسرائيلية بالكامل. أما المساحة الجغرافية التي صنفتها اسرائيل سابقاً منطقة امنية تابعة لها والتي تقع شمال الخط 23، ومعها نقطة الانطلاق البرية لترسيم الحدود البحرية، فإن الاتفاق يقضي بتأجيل البحث بشأنهما وتنسيبها للامر الواقع، اسوة بسائر النقاط والمواقع البرية “المتنازع” عليها، والتي يفصلها حتى الآن الخط الازرق، عن خط الحدود الدولية البرية للبنان.
لم يكن ما تم التوصل إليه والموافقة عليه مفاجئاً لغالبية اللبنانيين، لأنهم يعرفون جيداً ايضاً واقع السلطة الحاكمة والمتحكمة بالبلد وطبيعة قواها وخلافاتها واستهدافاتها في سبيل تعزيز مواقعها السلطوية ومكاسبها الفئوية. وهو الواقع الذي حكم مسيرة المفاوضات الطويلة، والحاشدة بالمنازعات والمزايدات سواء حول مرجعية المفاوض اللبناني وصلاحياته، أو حول حقوق وحدود الكيان الوطنية. ما اتاح للعدو الاسرائيلي التحكم بسير المفاوضات واستغلال فئوية الجهات التي تناوبت على الملف، والتلاعب بها وفق مصالحه، واستكمال التحضيرات لاستغلال حقول النفط والغاز الخاضعة لسيطرته، بالتنسيق مع الوسيط الاميركي الذي لم يتردد في دعوة اللبنانيين للقبول بما يعطى لهم ويمكنهم الحصول عليه، بديلاً عن المطالبة بما يعتقده بعضهم حق لهم.
صحيح أن الاتفاق المنجز لا يرقى إلى مستوى معاهدة سلام أو اتفاق هدنة مع العدو الاسرائيلي. ولكنه في المقابل ليس أقل من اتفاق تطبيع سياسي – اقتصادي غير معلن، ويتضمن التسليم والقبول بالأمر الواقع إلى أمد غير منظور، كما هو الحال مع الخط الازرق الذي شكل البديل عن ترسيم الحدود الدولية المعترف بها. أما المواقف والتصريحات التي تنافس اركان السلطة جميعاً على اطلاقها ترحيباً بالاتفاق، فإنها لن تعدل في جوهره. وهي التي كان لقيادة حزب الله نصيب وافر منها. باعتباره الطرف الرئيسي على نحو غير مباشر في المفاوضات، والمتحكم بقرار ما تبقى من الدولة اللبنانية. وهذا واقع لا يفيد في تغطيته ادعاءه بالوقوف خلفها، والتزام ما توافق عليه، قول قيادته، أن همها الوحيد هو حماية وضمان حق استخراج النفط والغاز من الحقول اللبنانية وبالتالي أكل العنب!.
وإذا كان العهد يبحث عن انجاز يختتم به ولايته الكارثية، فإن حزب الله كان يبغي أيضاً ايجاد مخرج لائق لتلافي حرب مدمرة، لا ترغب بها اسرائيل، وهو لا يريد تحمل أكلافها. إلا أن الأدهى في أداء اطراف السلطة جميعاً. يتمثل في تسويق الاتفاق باعتباره إنجازاً “ناضلوا” لتحقيقه من أجل خلاص البلد وحلاً لمشكلاته الاقتصادية والمالية. ما يبرر لهم السعي للبقاء في مواقع المسؤولية، وحق خوض المعارك في سبيل ذلك، ومطالبة اللبنانيين بتجديد الثقة بهم.
يجري ذلك وسط تجاهل تام لما ستؤول إليه اوضاع البلد في ظل الأزمات والاستحقاقات الحاشدة والزاحفة. بينما غالبية اللبنانيين ينتظرون بقلق لا مثيل له، الايام الاخيرة للخلاص من العهد الأسوأ في تاريخ البلد. والذي لم يفلح في تحقيق أيّ من وعوده الاصلاحية، دون أن يختلف عنه أو معه سائر شركائه في الحكم، الذين يتبادل واياهم التهم للتعمية حول مسؤولياتهم جميعاً عن الانهيار الكارثي، وتغطية معاركهم المفتوحة والمدمرة للتحكم بمواقع السلطة وشؤون الحكم فيه.
وفي هذا السياق يقع استحقاق تشكيل الحكومة الجديدة الذي تحول دونه شروط العهد، الذي يستهدف التمديد لتحكم تياره بصلاحيات رئاسة الجمهورية وإدارة السلطة في ظل فراغ الموقع، ولضمان دوره في الاستحقاق الرئاسي المؤجل، بانتظار التسوية الدولية الاقليمية حول لبنان في ضوء ما ستؤول إليه أزمات المنطقة المتفجرة. ما يعني استمرار التلاعب بمصير البلد، وسط الانهيار الاقتصادي والمالي الكامل، والمعطوف على تداعي مؤسسات الدولة الادارية وشلل أجهزتها وقطاعاتها الخدماتية.
وما يزيد الطين بلّةً، ليس امعان قوى السلطة في متابعة ما دأبت عليه من سياسات احتيالية تتضمن رفض الاصلاح وتعطيل الاستحقاقات والاستهانة بحقوق اللبنانيين ومستقبلهم. قصور قوى المعارضة وعجز قواها امام الازمات التي تهدد مصير البلد على كل المستويات على نحو لا سابق له. يؤكد ذلك أيضا، ان الذكرى الثالثة لانتفاضة 17 تشرين المجيدة التي أكدت استعداد اللبنانيين للنضال في سبيل حقوقهم ومطالبهم. وهم الذين ملأوا الساحات والشوارع على امتداد أيام واسابيع رافعين أعلام الوطن بحثاً عنه وعن احلامهم المفقودة فيه بعد عقود طويلة من الخيبات والرهانات الفاشلة على أحزاب وتيارات ميليشياوية وصلت إلى السلطة على رافعة الحرب الأهلية، التي اطاحت بما كان البلد قد راكمه من انجازات في عمرانه واقتصاده واجتماعه. الامر الذي جعلهم يهتفون معاً “كلن يعني كلن” على نحو عفوي ظناً منهم أن باستطاعتهم إجبار هؤلاء الحكام على إعادة النظر بسياساتهم وأدائهم. وقد غاب عنهم أنهم يواجهون واحدة من أعتى الطبقات السياسية الحاكمة في العالم سوءاُ، وأكثرها فساداً وخبرة في الدفاع عن نظامها ومصالحها الفئوية في آن.
من الواضح أن الغالبية الساحقة من اللبنانيين تواجه أوضاعاً هي الاكثر خطورة والاشد صعوبة في تاريخ البلد المشرع على المجهول. وهم امام تحديات كبرى لا يمكنهم الاستمرار في التهرب من مسؤولياتهم في مواجهتها، والسعي لانقاذ بلدهم من القاع الذي دُفع إليه. وإذا كان الاستدراك لا مكان له لدى اهل السلطة، فهل من صحوة لدى قوى المعارضة ومدّعي الانتساب إلى الحقوق والمصالح الاوسع لأكثرية اللبنانيين وللوطن على حد سواء.
Leave a Comment