*صقر أبو فخر
لا أبالغُ إطلاقاً، ولا أجازفُ في الكلام، إذا قلتُ إنّ موسوعة غوستاف دالمان الموسومة بعنوان “العمل والعادات والتقاليد في فلسطين”، بأجزائها العشرة، أفضل كتابٍ عربي عن فلسطين يصدر منذ 50 سنة، أي منذ أصدر أنيس صايغ “الموسوعة الفلسطينية” بأجزائها العشرة أيضاً. لقد أضناني تحرير هذه الموسوعة، وأورثني آلاماً في العمود الفقري، وشُحّاً في الإبصار. لكنّني شُغفتُ بهذا الكتاب أيّما شغف، وانهمكتُ في تفصيلاته المُدهشة، وتوافرتُ على هذه المغامرة التي تشبه، إلى حدٍّ كبير، ارتيادَ الكهوف والمغاور؛ فكلّما قطعتُ شوطاً من الاستكشاف، يتبيّن أنّ ثمّة أشواطاً بعدها. وصار هذا الكتاب لديّ، طوال ثلاث سنوات، مثل الابن المشاكس الذي يصيب والدَه بالتوتّر والعياء في أثناء تنشئته وتأديبه وتهذيبه. لكنه، مع ذلك، يجعل حياة والده، وهو يرقُب نموّه، جميلةً وممتعةً ومكتظّةً بالمشاعر والآمال. ومثلما شُغفتُ بهذا السفر الرفيع، شُغف غوستاف دالمان بالقرى الفلسطينية وبحياةِ البدو وطرائق العيش التي أتقنها الفلسطينيون في مدائنهم وأريافهم وبواديهم، فكان لا ينفكّ جائلاً في الأمكنةِ البهيّة، فينام في بيوتِ الفلاحين وخيام البدو وأحياء المدن. وبهذه الطريقة، تمكّن من جمعِ معلوماتٍ ثريّة عن الحياة في فلسطين بين أواخر القرن التاسع عشر والربع الأوّل من القرن المنصرم، وأن يعقد صلةً متينة بين الماضي والحاضر وبين الجغرافيا والإثنولوجيا والحياة اليوميّة للسكان قبل أن تدهمهم عواصف النكبة وأعاصير الاستعمار.
ما لم أتمكّن من اكتشافِ سرّه أنّ دالمان، عالم الآثار ومدير المعهد الإنجيلي الألماني للآثار في الأراضي المقدسة، لم يلجأ إلى أيّ حفرياتٍ في فلسطين. ويلوحُ لي أنّه لم يرغَب في نبشِ التربة الفلسطينية للبحثِ عن المطمورات والدفائن، بل أراد أن يستكشف حياة الناس فوق التربة ليدرُسَ، بشموليةٍ نادرة، تاريخَ فلسطين الحضري والاجتماعي. ودالمان في هذا الكتاب اشتغل مخرجاً عبقرياً للأفلام السينمائية، واستعملَ طريقةَ السينما في السرد؛ فنراه يتقدّم في الزمن حتى القرن العشرين، ثم يعود القهقرى إلى القرون السابقة للعصر المفترض للمسيح، ثم يتدرّج صعوداً حتى العهود اللاحقة. وفي غمرة هذه الحمى العلمية، كان دالمان يتلاعب بالزمنِ التاريخي بمهارةٍ ودرايةٍ تليقان بباحثٍ قديرٍ من هذا الطراز النادر. وقد جعلنا دالمان نستعيد مشاهد الحياة في فلسطين منذ تاريخها الغابر حتى عصرها الحاضر من خلال الصورة والنصوص الوصفية والخُلاصات التي توصّل إليها علم التاريخ وعلم الآثار والبحوث الدينية في آن واحد.
من التزيّد غير المجدي الحديث عن الكتاب بالتفصيل، فهو بين أيدي مَن يرغب في قراءته، وتحت أبصاره وبين أيدي مَن يريد اقتناءه والاطّلاع على فصوله. ولكن في إمكاني الكلام على عذاباتنا في تحرير الكتاب، وعلى أعصابنا التي تلِفَتْ واحترقتْ مراراً في خضم العمل فيه، وعلى انشراحنا وغبطتنا وسرورنا كلّما حللنا عقدةً من عقد الكتاب، وهي كثيرة جداً جداً. وهذه الموسوعة جعلتني أُكبُّ على قراءة القواميس الزراعية، وربّما أصبحت خبيراً في الزراعة جرّاء ذلك. وكانت المصطلحات الغريبة العجيبة تتقافزُ من بين سطور هذه الموسوعة وتصيبنا بالدوار. وعلى سبيل المثال مصطلحا “المشملة اليابانية” و”المرقئة الشوكية” اللذان أرغماني على التفتيشِ عنهما في معجم مصطفى الشهابي للمصطلحات الزراعية، ولأكتشفَ، بعد جهدٍ وعذاب، أنّ المشملة اليابانية هي الأسكيدنيا أو الأكي دنيا، وأنّ المرقئة الشوكية إنّما هي البلان (نبتة وردية).
وكنتُ أخال أنّني أعرف جغرافية فلسطين وبلدانيّتها كما أعرف ظاهر كفّي. غير أنّني اكتشفتُ، كلّما كنتُ أتوغّل بالتدريج في ثنايا فصول الكتاب، أنّني لم أكن مصيباً تماماً. وعلى سبيل المثال قرية “فارة”؛ فهناك عدّة قرى تُدعى “فارة” في الضفة الغربية لنهر الأردن وبالقرب من مدينة صفد. وقد قادني الشك إلى الاعتقاد أنّها ربّما كانت “الفارعة”. وكان عليّ أن أصبح جغرافياً وطبوغرافياً في الوقتِ نفسه، أي أن أدرس الإحداثيات لأطابقها على كلِّ قريةٍ تدعى “فارة”، ثم أُعيّن المكان بدقةٍ كي يستريح بالي. وعلى غرار ذلك قرية “البكيعة” بالكاف. وبعد التأكّد، عرفت أنها “البقيعة”. لكن هناك البقيعة في جبل الشيخ وفي الجولان وفي الجليل. وكان عليّ أن أبحث في المراجع البلدانية، وأن أطابق الإحداثيات قبل أن أجزم أيّ بقيعةٍ هي المقصودة هنا.
وقد حِرتُ أيّما حيرة في موقعِ “راس الزيامبي” في القدس، ودُخْت كما يدوخُ عاثر الحظ، وجُلتُ على جميع المصادر من بلدانية فلسطين العربية للأب مرمرجي الدومينيكاني إلى بلدانية فلسطين المحتلة لأنيس صايغ، مروراً بموسوعة فلسطين الجغرافية لقسطنطين خمّار، وكتاب المواقع الجغرافية في فلسطين لشكري عراف. ولمّا أعياني التفتيش انثنيتُ إلى “الموسوعة اليهودية” (الجودايكا) وإلى كتبِ الرحالة والخرائط وكلّ ما كُتب عن القدس، فلم أعثُر على هذا الموقع. وقرّرتُ أن أكتب حاشية تشير إلى أنّني لم أتمكّن من تحقيق هذا الموقع على وجه الدقة. وبقيتُ أنا والدكتور محمد أبو زيد نعمل قصّاصي أثر وراء بعض المواقع العالقة والمصطلحات المعلّقة. وراح محمد أبو زيد يسأل الناس عن “الزيامبي”، وكاد أن يبدأ التفتيش في وثائق المحاكم الشرعية لعلّه يعثر على ضالّتنا. وفجأة ظهرت له خريطة أنارت سبيلنا، وكأنّ ثروة هبطت علينا من السماء؛ فقد اكتشفنا في الخريطة موقعاً في القدس يُدعى “الزيامبي” أو “الزيامبة”، وعرفنا أنّ “الزيامبة” هي في الأصل عائلةٌ سكنت في إحدى تلال القدس، وأضفت اسمَها على المكان. وكان ذلك اكتشافاً أفرحنا كثيراً بعدما قضّ مضاجعنا طويلاً.
إحدى مصاعب تحقيق موسوعة غوستاف دالمان استخدامه كتب أبو كريفا العهد القديم، مثل أسفار طوبيا ويشوع بن سيراخ والحكمة (حوخماه) ويهوديت والمكابين وباروخ وغيرها. ومن متاعبي في التحقيق العلمي أنّني كنتُ كلما قرّرتُ تصحيح هذه العبارة أو ذلك المصطلح في صفحة محدّدة من مجلدٍ ما، كنتُ مضطراً إلى العودة إلى الوراء لتصحيح تلك العبارة نفسها أو تعديلها، فإذا اكتشفتُ تعديلاً في المجلد الخامس مثلاً، كان عليّ أن أعود إلى المجلّدات الأربعة الأولى لإجراء التعديل والمطابقة. ولمزيدٍ من الدقّةِ العلمية، وهو ما تفرضه أصول التحقّق، كان علينا أن نحدّد المصطلحات بدقة: هل نستعمل كلمة “نفق” أم “سرداب”؟ “بركة” أم “حوض” أم “خزان”؟ “تلّة” أم “قمّة” أم “رأس” أم “مرتفع”؟ “مجرى” أم “سيل” أم “ساقية” أم “جدول”؟ وبالطبع، كنا نفتّش مثل ضنين ضاع في التراب خاتمُه لنعثرَ على المصطلح الصواب كما يُسمّى فعلاً لدى أهل المكان، أو بحسب المراجع المأنوسة والموثوقة. وعلى هذا المنوال، كان علينا أن نحسم تعدّدَ التسميات، مثل جبل سكوبس الذي هو نفسه جبل المشهد ورأس المشارف؛ أو جبل الزيتون الذي هو نفسه جبل الطور أو طور زيتا؛ وأن نختار الأصحّ من بين التسميات المتعدّدة للموقع الواحد، مثل دير المشورة الشريرة ودير أبو طور ودير المشورة الرديئة أو تل المشورة الفاسدة أو جبل المشورة الفاسدة أو جبل المكبّر. وبالطبع، كنّا نترك هذه التسميات تتزاحمُ في صفحاتِ هذه الموسوعة ما دامت لا تؤدّي إلى أيّ التباس. وكم أتعبتني وديان فلسطين في محاولتي ضبط مجاريها. وعلى سبيل المثال، وادي قدرون الذي هو نفسُه وادي جهنم، ووادي النار ووداي سلوان والوادي الأسود ووادي الربابة ووادي ابن هنوم ووادي يهوشافاط ووادي القلت. وكان عليّ، في الوقت نفسه، أن أدقّق في التعابير التي نقلها المترجمون بحرفيّتها، وأعدّلها بحسب الأصول، فغيّرت “ساحة درس القمح” إلى البيدر، و”صندوق الحنطة” إلى الكوّارة، و”الخشب المحروق” إلى الفحم، و”القمح المغلي” إلى السليقة، و”اللحم المخلوط بالجريش” إلى الكبّة النيّة، و”الجريش” إلى البرغل حين يكون البرغل المقصود حُكماً.
صرف غوستاف دالمان 20 سنة في جمع المعلومات عن فلسطين وتدوينها ومطابقتها على الجغرافيا، واستغرق تأليف هذه الموسوعة نحو 14 عاماً. ثم استغرقت ترجمتها إلى العربية، مع التحرير العلمي، أكثر من خمس سنوات. وهذه الموسوعة ذخيرةٌ معرفيةٌ فائقة الجلال (الذخائر الأخرى تقتل، أمّا ذخيرتُنا هذه فتُحيي وتنير). وما كان في إمكان أيّ مؤسّسة بحثية فلسطينية أن تتصدّى لترجمة هذه الموسوعة والإقدام على نشرها بهذه الحلّة الراقية والزاهية لو لم يتوافر لها ربّان متنوّر ومثابرٌ وعنيد. وقد تمثّل هذا الربّان في عزمي بشارة الذي كان يُصرّ على الإسراع في إنجاز هذه المهمّة التاريخية كلّما تعثّر المشروع في بعض مراحله، ويدأب على تحفيزنا، ويغضب أحياناً، إلى أن قُيّض لنا، في خاتمة المطاف، أن نضع بين يدي الباحثين والدارسين والأجيال الفلسطينية الجديدة سفراً نادراً ربّما يكون حقّاً زينة كتب المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
*نشرت في العربي الجديد بتاريخ 03 حزيران / يونيو 2024
Leave a Comment