جهاد بزي*
لو تُوّجت ياسمينا زيتون ملكة جمال العالم، لحمل اللبنانيون حول الكوكب التاج بعيونهم ودموعهم ووضعوه على رأسها.
لكنها حلّت وصيفة أولى. خطفت حلم ياسمينا وشعبها تشيكية شقراء فارعة الطول لن يتذكر اسمها غداً إلا أبناء بلدها، تماماً كما يحدث مع كل ملكات الجمال اللواتي لا يخلدن إلا في سجلات بلداهن فحسب، بينما يعبر تاريخ العالم فوقهن من دون أن يلاحظ وجودهن.
ثلاثة وخمسون عاماً والتاج تائه عن اللبنانيين، وهم تائهون عن التاج، إلى أن باتت ياسمينا قاب قوسين أو أدنى من إرجاع المُلك الضائع إلى أصحابه. ثلاثة وخمسون عاماً وجورجينا رزق تنتظر الوريثة العتيدة لتكرر تلك المعجزة اللبنانية العتيقة التي لم يشف منها لبنان قط. المعجزة التي تحولت إلى واحدة من الأساطير المؤسسة لفكرة لبنان كما ينبغي أن يراه العالم، جزيرة مقتطعة الجنة تلفها شواطئ لازوردية، يقطنها شعب غريب من نوعه، يعيش في سياحة دائمة، كل النساء فيه لهن عينا جورجينا وابتسامتها الخالدة. معجزة انتشى بها لبنان طويلاً، وتحولت مع دخوله النفق القاتم من الحروب والمصائب، إلى أسطع مثل عن “الزمن الجميل” الذي ربحت فيه ابنته لقباً كونياً. وطوال عقود، كان الأمل بلقب الجمال مجدداً، أشبه بقبلة ينتظرها هذا الشعب الطيب، تفك فيه الأميرة اللعنة عن البلد المشؤوم، وتعيده أميراً بعدما وضعه حظه السيّئ في مواجهة ساحرة شريرة حوّلته إلى ضفدع.
انتظر اللبنانيون تكرار لحظة جورجينا طويلاً، في هذه المسابقة الإنكليزية المنشأ والتي تبلغ 73 سنة من عمرها، وما زالت في عمقها هي ذاتها ما بدأت عليه، مسابقة في استعراض البكيني، ثوب السباحة الثوري الذي ظهر في بداية الخمسينيات وأقيمت المسابقة في حينه للتسويق التجاري له، قبل أن يستبدله المنظمون لاحقاً بثوب من قطعة واحدة، لأن الغرب لم يتحمل هذا القدر من “قلة الحشمة”.
مسابقة ملكة جمال العالم (وشقيقاتها الثلاث الكبرى، “الكون” و”الأرض” و”انترناشونال”) لا شك أنها تعاني ما تعانيه قطاعات كاملة قضت عليها السوشال ميديا أو هي في الطريق إلى أن تقضي عليها. لم تعد النساء حول العالم مضطرات إلى مبايعة هذا النظام الملكي السنوي الذي تدعي خلاله مجموعة من النساء بمواصفات جمال قياسية أنهن يمثلهن، وأن جيناتهن هي نفسها جينات البقية البقاية من البشرية. نساء يخضعن لتعذيب غير آدمي يخضعن خلاله لأسئلة غامضة وتافهة عليهن في ثوانٍ اختصار سعة معرفتهن وكبر قلوبهن واتساع أحلامهن لتشمل إنهاء كوارث الأرض كلها، من المجاعات إلى الحروب، كي لا يقلن أنهن هنا لأجل التاج المرصع بالماس.
الجمال، داخلياً كان أم خارجياً، لم يعد حكراً على هذه المسابقات المدعية التجارية التي تلقى لا شك تدهوراً في تجارتها لأنها عاجزة لأسباب بنيوية عن اللحاق بالعصر، حتى لم يعد بالامكان اتهامها باحتكار تسليع المرأة. السوشال ميديا جعلت لقبي الجمال الداخلي والخارجي، والتسليع والتعبير عن مختلف تدرجات الرأي، متاحة للجميع. ألغت هذه الديموقراطية الافتراضية حتى الفوارق الجندرية في المنافسة، كما جعلت عدد العروش وأنواعها حرفياً لا متناه. التسليع نفسه بات خياراً شخصياً يعود بالنفع المادي والمعنوي على الشخص نفسه، ومتابعوه لجنة حكم عضوية صريحة تطلق أحكاماً قاطعة بالحب أو الكره، لا فرق إذا كان الجمال داخلياً أو خارجياً، ولا فرق بين جودة الفكرة وجمال الوركين. لجانٍ تضع هؤلاء على العروش كما تعلقهم على المحارق، مباشرة، من دون عناء التدقيق العلمي لإعطاء علامات على طول الساقين ومحيط الخصر وروعة الإجابة ومطابقتها لمواصفات المصطلحات الرائجة، تمكين المرأة مثلاً.
لا يمكن لملكة جمال العالم أن تشرح خطتها لتمكين المرأة في 37 ثانية، ولا يمكنها أن تمكنها من موقعها الملكي المؤقت. هذه، وغيرها من الوعود الكاذبة التي أطلقتها الملكات المتعاقبات على عروش الجمال علينا نحن الرعايا سكان كوكب الأرض، تواطأنا معهن في قبولها لأننا اتفقنا على حفلة التكاذب المتبادل هذه، رغبةً من كل واحد منا بأن يتربّع بلده يوماً على هذا العرش الوهمي.
اللبنانيون خاصةً مستعدون للاقتناع بأكثر الوعود ابتعاداً عن التحقق، لأنهم مصابون بالنوستالجيا إلى زمن معظمهم سمع عنه ولم يعشه، حتى باتوا يظنون أنهم يعرفون طعم العسل المفقود الذي تذوقوه مع تنصيب جورجينا، قبل الحرب بقليل. شعب بكامله (حسناً، مع هامش للخطأ بحسب الانتماءات العقائدية والسياسية) عقد أصابعه وصلى لجلب الحظ للشابة الجميلة، وهي تعبر من مرحلة إلى أخرى كما تعبر سكين في قالب زبدة. وبينما تنهار الأحلام دفعة واحدة حين يخرج الكلام من أفواه المتسابقات مليئاً باضطرابهن المبرر وينزلقن في لعثمة التلميذ الذي نسي البيت الأخير من القصيدة التي ينطب على حفظها غيباً منذ شهور، كانت ياسمينا واثقة الخطى تمشي ملكة، وتجيب في المرتين بطلاقة وذكاء. أكثر من ذلك، كانت صادقة في شعورها بالأمل ببلدها على الرغم من الانفجار وحبها له وشكرها له على ما أعطاها إياه، مع أنها في مسابقة عالمية وليست مضطرة للتزلف للبنان، بل للكوكب. حملت ياسمينا رسالة أمل كان زياد الرحباني يوماً قد بلّغ عن لبناني مصاب به فقبضوا عليه ووضعوه في سجن انفرادي كي لا يعدي غيره وكي لا يضيع الأمل الذي يحمله.
ياسمينا في مطلع عمرها، وهي الآن أقرب ما تكون إلى أيقونة جورجينا رزق وتاجها السحري. يحق لها أن تكون على هذا القدر من الأمل. خلفها كان اللبنانيون، ليس لديهم أي أمل ببلدهم، لكن كل آمالهم في ياسمينا. أن تفوز أميرتهم بالتاج، وتقبل الضفدع، لعل النحس ينفك ويعود لبنان الأمير الذي كان عليه أيام جورجينا.
لم تقبل ياسمينا الضفدع ليس لأنها لم تكن تستحق اللقب، وليس لأنها سيئة الحظ، بل لأن اللبنانيين هم الذين من يوم يومهم منحوسون وفي سوء طالع، أو هذا على الأقل ما اقتنعوا به، لكثرة ما أصابهم من خيبات ومصائب.
حظاً أوفر العام المقبل يا عزيزنا الأخضر الحزين.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الإثنين 2024/03/11
Leave a Comment