مجتمع

  أزمة السكن في لبنان

السياق العام

على الرغم من كونه حقاً أساسياً من حقوق الإنسان يتمتّع بقيمة دستورية، لطالما شكّل الوصول إلى السكن الميسّر واللائق أحد أبرز التحديات في لبنان. فقد تفاقمت الأزمة السكنية نتيجةً لعقود من مضاربات السوق التي تعمل في ظلّ افتقار تام إلى سياسات سكنية عادلة، واعتماد على الأرض كأصلٍ لرأس المال، وفي إطارٍ يحتفي بسيطرة المصالح الخاصة على عملية تنظيم قطاع الإسكان. وقد بات واضحاً أنّ الخيارات التي لطالما اتّخذتها الدولة تاريخياً، كانت باتجاه تجاهل القيمة الاجتماعية للسكن واعتباره مسؤولية الأفراد، واضعةً إياه تحت سيطرة قوانين السوق، ليحقّق الأرباح للشركات الكبرى.

منذ استقلال لبنان عام 1943، لم تضع الدولة اللبنانية أي سياسة عامة تتعلق بتأمين الاحتياجات الاجتماعية الأساسية، من ضمنها السكن، ولم يتبنَ لبنان الإجراءات اللازمة لتأمين السكن الميّسر واللائق. في فترةٍ أولى، تمثّلتْ التشريعات التي تمّ اتخاذها، بقوانين متفرقة لضبط الإيجارات، وذلك مع النمو الهائل الذي عرفته بيروت على إثر نزوح كبير لسكان الأرياف إلى المدن، أو كردة فعل على كوارث من زلازل أو فيضانات. لكنّ هذه الخطوات لم تنمُ وترقَ لمستوى سياسات سكنية أشمل تنظّم توسّع المدن والقرى بطرق دامجة. وعليه، بدا في الكثير من الأحيان أنّ الحل الوحيد المتاح لتأمين سكن الفئات من ذوي الدخل المتدنّي يتمثّل باللجوء إلى البناء أو الاستئجار أو التملّك بشكل غير رسمي في عقارات إمّا عامّة أو خاصّة لا تعود لسكّانها في السجلّات الرسمية. فانتشرت في هذه المرحلة الأحياء غير الرسمية في كافة المناطق اللبنانية.

أمّا خلال “المرحلة الشهابيّة”، بين عامي 1958 و19643، فقد قامت الدولة بإنشاء مؤسّسات إسكانية الواحدة تلو الأخرى، أعطتها بعض الأدوار في سبيل تأمين المساكن لبعض الشرائح غير الميسورة، لكن في غياب رؤية شاملة ومتكاملة لتحقيق الوصول إلى سكن لائق للجميع. وقد أسهم ذلك في توسّع المناطق غير الرسمية، بالترافق مع نزوح السكّان إلى بيروت وضواحيها مع الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. ثم ما لبث أن أدّى تفكّك الدولة المركزية وإضعافها خلال سنوات الحرب الأهلية إلى انهيار شبه نهائي لمؤسّسات الدولة، ومن ضمنها تلك المعنية بالسكن.

تمّ استغلال هذا الواقع مباشرة بعد نهاية الحرب الأهلية لتقوية مصالح القطاع الخاص على حساب المصلحة العامة، وتحرير الدولة من مسؤوليتها في رعاية حقّ السكن، بدل إعادة بناء المؤسّسات الضرورية لتأمين السكن اللائق والمتاح للجميع، حيث حلّت مرحلة نيوليبرالية واسعة النطاق شهدت تكريس استثمارات ضخمة لإعادة ترسيخ بيروت كمركزٍ للخدمات الإقليمية، ووضعت “تشجيع الاستثمار” وبالتالي مصالح الشركات الكبرى كأولوية، بحيث أنتجت هذه المرحلة شكلاً جديداً للدولة، منحازاً بالكامل ضد مصالح الغالبية العظمى. فعملت الحكومات المتتالية على تسهيل شروط عمل المستثمرين المحليين والأجانب في العقارات، وزادت النسب التي يسمح بها البناء. ومع زيادة الطلب على الأبنية ووجود سيولة فائضة لدى المصارف، قامت سياسة قوامها التسليف من أجل تملّك مسكن كاستجابة الدولة الوحيدة لأزمة السكن المتزايدة، بينما كان واضحاً أنّ الغالبية العظمى من السكان لا تستوفي معايير الحصول على هذه القروض ولا تستطيع تحملّه، ممّا اختصر السياسة الإسكانية للدولة بتحقيق مصلحة المصارف والمستثمرين تحت ذريعة قدسيّة الملكية الخاصّة من جهة، وتشجيع ثقافة التملّك والسكن كمسؤولية فردية، من جهة أخرى. وقد تمظهر ذلك من خلال انتشار المباني الشاهقة الخالية التي حلّت مكان أحياء تاريخية، حيث وصلت نسبة الشغور في العاصمة إلى 23%4، وبقي حوالي 65% من الشقق الشاغرة غير مباعة، مقابل 35% يحتفظ بها أصحابها دون تخصيص استعمال لها. وبعد حين، توقّفت هذه القروض بشكل كامل عام 2017 بالتزامن مع أسوأ أزمة اقتصادية شهدها لبنان، ما كشف أنّها لم تكن يوماً بديلاً عن ضرورة وضع سياسة إسكانية حقيقيّة.

كما أُوقِف العمل بنظام ضبط الإيجارات مباشرة بعد الحرب الأهلية (1975-1990)، ولم يُستبدل بنظام إيجارات عادل، بل استُبدل بنظام استثماري للإيجارات بعنوان الحرية التعاقدية. أمّا عقود الإيجارات التي أُبرمت قبل العام 1992 والتي أصبحت على تناقض مع ارتفاع أسعار العقارات الجنوني، فتمّ تحويلها وفقاً لاحتياجات السوق العقاري ومصالح المطوّرين. كما تمّ إلغاء المؤسسات العامة المعنية بالسكن والتنظيم المديني، آخرها وزارة الإسكان والتعاونيات عام 2000، فيما لا تزال المشاريع السكنية الاجتماعية القليلة التي تمّ بناؤها في ستينات القرن الماضي، مهملة.

في الوقت الراهن، أدّت هذه العوامل، التاريخية منها والمستجدّة والمتلاحقة، إلى تفاقم أزمة السكن بشكل متسارع، انطلاقاً من التدهور الاقتصادي. وقد نتج عن هذا التدهور ارتفاع جنوني في مصاريف السكن، بالإضافة إلى ارتفاع في أسعار الخدمات الأساسيّة (بالإضافة إلى انقطاعها)، حيث من المتوقع رفع تعرفة المياه 4 أضعاف وزيادة تعرفة الكهرباء بحدّ أدنى يبلغ 16 ضعفاً وحدّ أقصى يبلغ 36 ضعفاً5 أو أكثر (ولن تكون التسعيرة الجديدة ثابتة). فقد بلغت النسبة التي تستحوذ عليها تكاليف الإيجار وخدمات السكن 85% من مجمل دخل الأسر المقيمة في بيروت، ووصلت إلى 100% في الأحياء الأكثر هشاشة، حيث أصبحت الأعباء التي تتحمّلها الطبقات المفقَّرة لناحية تكاليف خدمات السكن ثقيلة للغاية، وتستحوذ على كامل دخلها6. كل ذلك مقابل انخفاض قيمة مداخيل المواطنين7، التضخّم الحاد8 وتدهور قيمة الليرة اللبنانية وتعدّد أسعار الصرف الذي أفرز تحدّيات جسيمة على الاقتصاد9، كما وإجراءات التعبئة العامة المتعلّقة بمكافحة جائحة كورونا، إلى جانب تفجير 4 آب وعمليّة إعادة تأهيل المناطق المتضررّة، وصولاً الى قرار رفع سعر الصرف الرسمي من 1500 ل.ل. للدولار إلى 15000 ل.ل.، والذي تمّ اتّخاذه دون أي اعتبار لانعكاساته على بدلات الإيجار للمستأجرين وأقساط شراء المنازل -التي تضاعفت عشرة أضعاف- في ظلّ غياب أي تصحيح جدّي للأجور، وأخيراً الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا والذي كانت له تأثيرات على سلامة المباني في لبنان، خصوصاً في منطقة الشمال.

نتيجة لكل ذلك، تزايدت نسبة الإخلاءات، بالتزامن مع بروز صعوبة العثور على سكن معقول الكلفة. كما وأدّى الازدياد الحادّ الذي لحق بدلات الإيجار في غياب رقابة الدولة وضبطها للعقود، إلى تقلّص حجم شريحة المواطنات\ين التي تسمح لهم مداخيلهم بالاستئجار من جهة، أو دفعهم إلى إبرام عقود إيجار لمهل قصيرة نسبيّاً لا يمكن خلالها ضمان حيازة السكن والمطالبة بترتيبات سكنية لائقة. على وجه الخصوص، يواجه مئات الآلاف من العاملات والعمّال الأجانب والعائلات المهاجرة واللاجئين من جالياتٍ غير لبنانيّة10، خطر خسارة مساكنهم، لا سيّما وأنّهم يمثلون جزءاً من الفئات الأكثر تضرراً على المستوى الاقتصادي. كذلك، تفاقمت ظاهرة التشرّد التي يتمّ إخفاؤها عن طريق إبعاد المشردين قسراً من الأحياء المركزية إلى الأطراف. كلّ ذلك في ظلّ غياب رقابة الدولة وتعطيل المسارات القضائية والأمنية التي كان يمكن للسكان اللجوء إليها لرد التهديدات بالإخلاء.

في الوقت عينه، لم تتّخذ السلطات المحلية (البلديات) أو المركزية (الحكومة ومجلس النواب) أي تدابير جادة لتأمين الحقّ في السكن في ظلّ انهيار اقتصادي ساحق وانهيار موازِ له على مستوى خدمات الدولة، وقد أثّر ذلك على سكّان المدن في جميع أنحاء لبنان وأصاب بشكلٍ متسارع ومتفاقم الفئات الاجتماعية والمناطق الجغرافية التي تعاني أصلاً من أشكال من التمييز والتهميش. المعاناة تتراكم، ومعها تشتدّ محنة لبنان السكنية، وإن تفاوت تمظهرها بين المناطق اللبنانية

*  من التقرير السنوي المرفوع إلى الأمم المتحدة  الذي اعده مرصد السكن في لبنان/ القسم الاول.

* يعمل مرصد السكن على توثيق حالات تهديد السكن، وبناء تضامن جماعي ودعم الحق في السكن للجميع دون تمييز، كما يضغط نحو سياسات سكنية دامجة.

بلّغ/ي عن انتهاك حقك بالسكن الآمن واللائق والمستدام عبر  على الرقم  81017023، أو عبر البريد الالكتروني: [email protected].

Leave a Comment