ثقافة صحف وآراء

أحزان التسعينيات: مارون بغدادي، جوزف صقر، داني بسترس…

*محمد حجيري

يحكي فيلم “وعاد مارون إلى بيروت” لفيروز سرحال، مسار حياة وأعمال المخرج اللبناني مارون بغدادي. جاء في التعريف الرسمي للفيلم: “في الذكرى الـ30 لرحيله المأسوي، تنطلق المخرجة فيروز سرحال في رحلة في بيروت”، متنقّلةً في أحيائها وفضاءاتها، فالمدينة تلك مؤثّرةٌ في حياة بغدادي، وطابعةٌ سينماه: “إنّها (سرحال) تلتقي مُقرّبين منه، ومشاركين تجاربه”. وبينما تستعرض حياته ومسيرته، “يقفز المشهد الاجتماعي والسياسي إلى المقدّمة”، فالفيلم يعكس أيضاً 50 عاماً من تاريخ البلد، “من زاوية الحاضر”.

يأخذنا موضوع الفيلم أو جوّه العام إلى أحزان التسعينيات من القرن الماضي، في الوسط الثقافي والصحافي اللبناني، أو فترة ما بعد الحرب والاندفاعة إلى التأسيس الثقافي وإنشاء المسارح والصالات والملاحق الثقافية والمنابر والأندية والشِّلل الثقافية في جلسات المقاهي. لذا كان لبعض الميتات الأثر الصادم في القارئ والكاتب الذي يروج التأويلات والتخمينات ويدوّن الاستعارات والتفسيرات والدلالات والكنايات عن الموت وتداعياته واحتمالاته والتباساته وألغازه، وعن الشخصيات المقيمة بغيبتها في الوجدان.

ولم تكن الميتات على منزلة واحدة وحزن واحد وصورة واحدة. من مقتل أو وفاة المخرج مارون بغدادي(1950 -1993) إثر سقوطه في غرفة المصعد المعتمة، إلى موت الشاعر باسم زيتوني(1995) في حادث دهس وصدم عند الكورنيش البحري، إلى انتحار الأستاذ الجامعي رالف رزق الله(1995) بإلقاء نفسه من صخرة الروشة، إلى وفاة الفنان جوزف صقر(1997) في عز تألقه وفي ليلة رأس السنة، إلى انتحار الراقصة داني بسترس (1959- 1998) المفجع. كل موت من هذه الميتات كانت له دلالاته، ربما يتعلق الأمر بالذاكرة والمرحلة والزمن، أو الخروج من الحرب، أو شكل الموت ومحاورته ومراياه وحكايه، لا سيما إن حصل بطريقة صاعقة غير متوقعة، وليس في سياقه الطبيعي.

والكتابة عن موضوع الغياب العادي أو القسري أو ترك الحياة الطوعي، تخاطب النفس ولواعجها وتستنطق المعنى وواقع المدينة وأحوالها العامة، بل تستقرئ الأحلام المعلقة للذين رحلوا في ذروة عطائهم الفنّي والإبداعي.

كانت بيروت تنفض غبارها وتبحث عن أحلامها يوم مات باسم زيتوني بطريقة مأسوية ولم يكمل قصيدته أو مشروعه الأدبي. يكتب الناقد نديم جرجورة: “لم يكن موت باسم زيتوني، في 19 أيلول 1995، عادياً وبسيطاً. فرحيله المفاجئ، أكّد معنى العبثية الباهتة التي تحاصر يومياتنا. وابتعاده القسري عن بعض أحلام كان يلاحقها، عكس الفراغ الرهيب الذي سقطنا ونسقط فيه كل يوم”. كان باسم يكتب شعراً كأنه يحاكي غيابه أو رحيله، فكتب في ملحق النهار: “غداً سأرحل/ دون أن أمشّط شعري/ أو أحلق ذقني/ أو أمسح حذائي/ ولن ألمّع زجاج نظاراتي/ لن أودّعكم../ لأنكم لا تعرفون يدي/ لن آخذ القطار كما في الأفلام الأميركية/ سأنعش ذاكرتي ببعض وقت/ وأرحل سيراً على الأحلام”. 

كنا نعيش طقوس قراءة الصحف والجلوس في المقهى، نحمّل الأمور أكثر مما تحتمل، وفي صباح السبت 28 تشرين الأول 1995، انتحر رالف رزق الله، وكان في الخامسة والأربعين من عمره. أخذ الموت الطوعي أو الاختياري لرزق الله، أبعاداً وتأويلات مختلفة. فكتب الشاعر والناقد عبده وازن “ليس انتحار رالف رزق الله إلا انتحار مثقف لبناني. فالكاتب الذي رافق أمراض المدينة، قتلته المدينة، والباحث الذي حلّل ظواهر الحرب تحت مجهره، قتله السلام الذي فُرض كحلّ جاهز لمسألة صعبة ومعقدة”. وكتب الروائي ربيع جابر في رواية “رالف رزق الله في المرآة”:

كان يدعى رالف رزق الله.

في صباح السبت 28 تشرين الأول 1995، أوقف سيّارته التويوتا الخضراء بمحاذاة الرصيف أمام مقهى دبيبو، ثم ترجل منها مسرعاً، وتسلق الحافة الحجرية القصيرة، وقفز إلى الفضاء. قبل أن يقفز شرّع ذراعيه كالصليب، خلفه بيروت، وقبالته صخرة الروشة. كان يرتدي بنطلونه الجينز القديم، والقميص الكاكي الذي اشتراه قبل سنتين”.

وكان موت جوزف صقر مفجعاً أيضاً، في الليلة الأخيرة من العام 1996، أصيب بنزيف معوي حاد ليتوفى في اليوم الأول من العام 1997 وكانت وفاته صدمة لجمهوره. قيل يومها أنه لم يكن يغني في المطاعم، ويوم قرّر أن يفعل، مات، وانعكس موته على صديقه زياد الرحباني الذي كان يعتبره حنجرته. ابن قرطبا، الذي أدّى شخصيات عديدة تحوّلت إلى علامات فارقة في مسرح زياد الرحباني. كتب عنه الشاعر طلال حيدر في رحيله هذه القصيدة: “متل الدني إنت/ غزالة سارحة ونومها خفيف/ منديل الغطيطة/ ع ريف العين/ عالي وعم يلوح لتاني ريف/ عيونك فيهن ريحة شتي/ وبمراية الدمع شفت الطقس كيف”

موت داني بسترس، صعق أيضاً المثقفين والوسط الفني. إحدى أشهر الراقصات اللبنانيات التي خطّت لنفسها طريقاً خاصاً في الفن، كانت في حالة إحباط نفسي. يكتب الشاعر شوقي بزيع في “السفير” (1999-01-22) استناداً إلى مقابلة مع صديقها: “لم تطق شكلها ولا عمرها، قالت لي: الحياة هزمتني”. ربما هنا تحاكي داليدا التي انتحرت أيضاً وقالت في وصيتها: “سامحوني الحياة لم تعد تحتمل”، وكتب الشاعر عبده وازن في “الحياة”(29 – 12 – 1998): “حاوَلَت الانتحار مرتين من قبل، لكنها في المرة الثالثة نجحت في أن تنهي حياتها: أطلقت داني بسترس النار على نفسها بجرأتها المعهودة، طاوية سنواتها الأربعين وكل الحكايات التي حفلت بها حياتها الأليمة”.

 

وتسابق الشعراء في كتابة القصائد عنها، من شوقي بزيع إلى محمد علي شمس الدّين الذي يقول:

وأنتِ ترقصينَ

فوق ساحةٍ مضاءةٍ

كأنّها قبرُ أبي العلاءْ

ضاحكةً

بيضاءْ

لكن الموت الأكثر إثارة للجدل كان موت المخرج مارون بغدادي. شغل “ملحق النهار” والروائي الياس خوري، وأصدر صديقه جوزف سماحة كتاب “قضاء لا قَدر/أخلاق الجمهورية الثانية” الذي اتخذ من واقعة موته مدخلاً للحديث عن الحريرية ولبنان في زمن الجمهورية الثانية. وكتب عنه ربيع جابر بعضاً من رواية “البيت الأخير” التي تتراوح بين الواقع والخيال، مع إضافات من مخيلة الكاتب بخصوص ما جاء مارون بغدادي ليبحث عنه بعد عودته الى بيروت؟ هل جاء لإعداد شريط سينمائي، أم ليكتشف تحولات المدينة التي سبق أن صوّرها في فيلمه الأول “بيروت يا بيروت”؟

والحال أنّ المخرج عاد في كانون الأوّل 1993، من باريس إلى بيروت، حاملاً فكرة فيلمه “زوايا” (سيناريو الروائي حسن داوود)، والذي تدور أحداثه حول طبيب لبناني كان في باريس ويعود إلى بيروت لينتقم من قتَلة أبيه. لكن خلال رحلة بحثه عن القتَلة، يزور صديقه ورفيقه السابق في منظمة العمل الشيوعي، زياد، الذي قرّر العودة إلى طائفته (الدرزية). يقول زياد لمروان إنّ بحثه عن القتَلة ليس إلا “مراهقة رومانسية”، وسرعان ما يكتشف الطبيب استحالة مشروعه الانتقاميّ في فيلم كان ليبدو منسجماً مع أجواء الغفران والاعتذار والنسيان في بيروت الخارجة لتوّها من حروبها. كان مارون عائداً ليصور فيلماً، فصارت قصة عودته وموته فيلماً آخر، ولغزاً يبني عليه بعض اليساريين الكثير من العجالات.

*نشرت في المدن الالكترونية يوم الثلاثاء 2024/12/03

Leave a Comment