صقر أبو فخر*
الغناء هو الفن الأول بين الفنون الجميلة السبعة، وأصله من البكاء، وهو أول تعبير للوليد في مستهل قدومه إلى هذه الدنيا، أي التعبير بالصوت. وثاني تعبير للرضيع هو التعبير بالجسد وبحركة الأطراف، ومن هنا جاء الرقص في صورته البدائية. وثالث تعبير للفطيم هو الإيماء، أو محاكاة الآخرين، ومن هنا، على الأرجح، نشأ التمثيل. ورابع تعبير لدى الفتى هو تقليد الأشكال، فكان الرسم. وخامس تعبير هو محاكاة أصوات الطبيعة وكائناتها، فكان العزف والموسيقى. وسادس تعبير هو اللعب بالطين، ومنه بدأ صنع التماثيل، أو النحت. وآخر التعابير هو الفن السابع، أو السينما، التي احتوت في نطاقها جميع الفنون السابقة، ولا سيما التصوير والموسيقى والغناء. وجميع الشعوب عرفت الغناء والعزف اللذين تطورا عبر العصور ليصبحا من عناصر تكوين الهوية القومية لهذا الشعب، أو ذاك.
وفي العصر الحديث، ازدهر الغناء في بلاد الشام، وأينع في حلب ودمشق إبّان صعود الطبقة الوسطى الجديدة التي راحت تتشكل غداة الإصلاحات العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، ومع ظهور فئة الأفندية المتعلمين الذين درسوا في إسطنبول وباريس، واطلعوا على معالم الفنون والآداب في هذين البلدين. وعرفت حلب، التي بزّت جميع مدن بلاد الشام في هذا الفن، ضروب الغناء كلها، كالتطريب والأدوار والمواويل والليالي والمدائح والأوراد والأذكار والإنشاد والابتهال والغناء البدوي والغناء الريفي والقصائد، وتفوقت على جميع المدائن بفنون النوبة والقدود والموشحات، فضلًا عن صنوف الطعام، وطرائق الأكل. ومن أمثلة الحلبيين اللطيفة: “إذا جِعتْ غنّي، وإذا كِثَرتْ عليك همومك نامْ”؛ فالغناء كان دائمًا الملاذ العلاجي لتبديد الضيق، فسبقوا “عمنا” فرويد بسنوات طويلة في هذا الميدان. وحلب عالم قائم بذاته؛ ففيها أرمن وكرد وتركمان، وآشوريون وكلدان وسريان، وأروام ويونان وطليان، وعرب بالطبع، وأخلاط تحدرت من مضارب الشَعْر، أو بيوت الوعر، أو سكنى المَدَر، أو منازل الحجر، أو مدائن الحضر.
حلب وأتاتورك
في سنة 1936، أي قبيل وفاته، منع مصطفى كمال (أتاتورك) بث الأغاني التركية والموسيقى التركية من الإذاعة، واستعاض عنها بالموسيقى الغربية، ودعا إلى إنتاج موسيقى تركية ذات طابع غربي. وكان أتاتورك يتطلع، من بين تطلعاته، إلى غربنة تركيا، وإلى التخلص من الموسيقى العربية والفارسية والبيزنطية، في سياق تتريك اللغة والثقافة والفنون. ومنذ ذلك الوقت، شرعت الإذاعة التركية في بث الموسيقى الغربية، والأغنيات الغربية.
لكن الأتراك، إلا قلة منهم، راحوا يقفلون المذياع حين يبدأ بث تلك المقطوعات، ويتحولون إلى الإذاعة المصرية التي أُسست في سنة 1934، أو إلى إذاعة الشرق الأدنى في فلسطين، التي أُسست في سنة 1941، ثم لاحقًا إلى الإذاعة السورية (1947)، وإذاعة حلب (1948)، كي يستمعوا إلى الموسيقى العربية، وإلى الغناء العربي، القريبَين من الغناء التركي وقوالبه اللحنية. وراحت الأفلام المصرية تغزو دور السينما في تركيا منذ خمسينيات القرن العشرين وستينياته، رغمًا عن قوانين أتاتورك وخلفائه، وبدأ الملحنون الأتراك يستعيرون أغاني الأفلام العربية، ويعيدون غناءها بالتركية بعد توزيع ألحانها بطريقة جديدة. وبالتدريج بدأوا يسرقون الأغنيات العربية، ويجرون عليها بعض التعديلات، وينسبونها إليهم؛ وهكذا نشأت ظاهرة “الأرابيسك” في الغناء التركي. والمعروف أن الأتراك أخذوا كثيرًا من موسيقى السريان والأكراد ونسبوه إليهم، مع أن هنالك بالطبع تلاقحًا غير قليل بين الموسيقى العربية والموسيقى البيزنطية التي ورثها الأتراك بهذا المقدار أو ذاك. لكن حلب أضفت حتى على الدوران في المولوية (ذات الانتساب إلى مولانا جلال الدين الرومي) رموزًا صوفية وأبعادًا روحية سامية؛ فاليدان المرفوعتان فوق الطربوش ترمزان إلى عشق الله والانصراف إليه بالكلية، فيما ارتفاع الثوب عن الأرض في أثناء الدوران يعني العلو والسمو. أما دوران المريد في الحلقة (الحضرة) فيؤدي إلى الانخلاع عن عالم الأرض، والانخطاف نحو الذات الإلهية والاتحاد بها. ومهما يكن الأمر، فإن الأتراك هم من اقترض من حلب ودمشق والقاهرة لا العرب، لأن الأتراك لم يبدأوا في الظهور على مسرح تاريخ الحضارة إلا منذ نحو 800 سنة، فيما كان العرب قد صار لهم إرث متراكم وغني في الغناء والموسيقى، وهو ما يظهر في كتاب “الأغاني” مثلًا، الذي كتبه أبو الفرج الأصفهاني في بدايات القرن الحادي عشر، أي قبل ظهور الأتراك كشعب متحضر بنحو 400 سنة.
ولم يقترض الأتراك من حلب ودمشق الغناء والموسيقى فحسب، بل أيضًا اقترضوا صنوف الطعام، وصاروا يقولون كباب تركي، ومطبخ تركي، وقهوة تركية. والقهوة، كما يعرف الباحثون، لا تمت إلى الأتراك بأي صلة؛ فهي حبشية، أو عدنية. والتجار الشوام هم مَن أدخل القهوة إلى تركيا في عهد السلطان سليم الأول وخليفته سليمان القانوني، ومن هناك راحوا يصدرونها إلى الموانئ الإيطالية، مثل جنوى، والبندقية، وليفورنو، وميسينا، وباليرمو، وباري، ونابولي، فصاروا يقولون عنها في إيطاليا وأوروبا “قهوة تركية”. ومن هناك رحلت القهوة إلى البرازيل، ثم عادت إلينا. أما في الجانب الغنائي، فلم يبقَ للأتراك أثر مهم في المدارس الغنائية العربية إلا القليل بعد انحسار السماعي والبشرف واللونغا بتأثير من الموسيقيين العرب المجددين، أمثال سيد درويش، وزكريا أحمد، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش (في مصر)، وعلي الدرويش، وعمر البطش، وأحمد أبو خليل القباني، ومجدي العقيلي، وبكري الكردي، صعودًا حتى صباح فخري (في سورية)، ولا ننسى بالطبع الملا عثمان الموصلي نزيل حلب.
البوح والجرأة والشِعرْ المكشوف
استقام الغناء العربي في مراحله المعاصرة على أيدي الشيوخ في مصر وسورية، وبأصواتهم وألحانهم. وكان ذلك يتضمن مقادير من التحفظ والتأدب والاحتشام. غير أن المغنين والشعراء في حلب تجاوزوا تحفظات المشايخ، وتجرأوا على قواعد الامتثال في موضوعات الحب والغرام والعشق والوصال. وهذه الجرأة إنما هي برهان على الأريحة والظُرف والانفتاح، وهو ما تميزت به حلب وأهلها. وكان عباقرة الصوت واللحن والشعر في حلب يقدمون الفن الخالص والجمال الصافي على ما عداهما من تحاريم المشايخ، فجعلوا النشوة التي يثيرها اجتماع الكلمة والصوت والنغم هي الغاية الأسمى. وعلى سبيل المثال، موشح “يا صاحِ الصبرُ وهى مني” الذي كتبه الشيخ أمين الجندي وغنّاه، من بين كثير من المطربين، صباح فخري، ومنه نقتطف:
سَلّتْ من لحظيها خِنجرْ
وسقت من ريقها سُكّرْ
مكتوب على درّ مبسمها
إنا أعطيناك الكوثرْ.
في هذا الموشح استعار الشيخ أمين الجندي آية “إنا أعطيناك الكوثر” من سورة الكوثر (الآية الأولى)، ولم تقم الدنيا على الشاعر وعلى المغني قط. لكن، عندما غنّى مارسيل خليفة قصيدة “أنا يوسف يا أبي” لمحمود درويش قامت القيامة عليه وما قعدت، لأن الشاعر اقترض “إني رأيتُ أحد عشر كوكبًا، والشمسَ والقمرَ رأيتهم لي ساجدين” (سورة يوسف، الآية 4). لماذا إذًا ثارت “الهيزعة” ضد مارسيل خليفة، وصمت الجميع على أمين الجندي وصباح فخري وغيره ممن غنّوا هذا الموشح الجميل؟ أيكون السبب أن مارسيل خليفة مسيحي؟
في جانب آخر، يغني صباح فخري من قصيدة “جاءت معذبتي” للسان الدين بن الخطيب الأندلسي ما يلي:
جاءت معذبتي في غيهب الغسقِ كأنها الكوكب الدري في الأفقِ
فقمتُ ولهان من وجدي أُقبّلها زُحت اللثام رأيتُ البدر معتنقي
قبلتها قبلتني وهي قائلة قبلت فمي فلا تبخل على عنقي.
وهذه الأغنية، فوق صورها الحسية اللذية، لم تتورع عن استعارة عبارة “الكوكب الدري” من سورة النور (الآية 35)، ولم يحتج أحد. وعلى هذا الغرار يغني سري طمبورجي (سركيس طمبورجيان) أغنية “أنا في سكرين”، وهي من ألحانه وكلمات الشاعر بدر الدين الحامد. وثمة مَن ينسب اللحن إلى نعسان الحريري، وربما كان لها أكثر من لحن، ومنها:
يا حبيبي أذّنَ المغربُ فانهض للمدام
ودعِ العودَ يُغنينا تراتيل الغرام.
لم يثر أحد في وجه بدر الدين الحامدَ، أو سري طمبورجي. وكل ما في الأمر أن وزارة الثقافة السورية عندما رغبت في إصدار ديوان بدر الدين الحامد، عهدتْ إلى الشاعر أحمد الجندي بتهذيب بعض القصائد الجريئة، فعمد الجندي إلى تعديل البيتين أعلاه ليصبحا:
يا حبيبي أقبل الليل فهيّا للمدام
ودعِ العودَ يغنينا تراتيل الغرام.
وكل ما فعله أحمد الجندي هو أنه “لطش” مطلع قصيدة “عاشقة” لعلي محمود طه (ديوان “زهر وقمر”)، ثم أنزلها في قصيدة بدر الدين الحامد.
والمطلع لدى علي محمود طه يختلف قليلًا عن قصيدة الحامد، فهو على النحو التالي: “يا حبيبي أقبل الليل وناداني الغرام”. وهذه القصيدة لحنها محمد عبد الوهاب بلحن مختلف، وغنتها المطربة “نادرة”. أما المطرب أديب الدايخ فيغني من شعر عبد القادر الأسود:
ذكراك تسبيح ونهداك معبدُ
وأنا التقي الراهب المتعبدُ.
ثم يستغرق في الإعادة، وفي حبس الهاء في كلمة “نهداك”، ويمدها كأنها الفحيح في ذروة الشبق. ولأديب الدايخ أغنية نقتطف منها هذه الأبيات:
فواللهِ لولا اللهُ والخوفُ والحياءُ لقبلتها بين الحطيم وزمزمِ
وإن حرّم الله الخلا في شرعه فما حرّم التقبيل يومًا عن الفمِ
وإن حُرّمتْ يومًا على دين أحمدِ فخذها على دين المسيح بن مريمِ.
وله أيضًا من هذا الصنف الغنائي الجريء:
قبّلتها في الصباح قالتْ تُفطر يا هذا ونحن صيامْ
فقلتُ لها أنتِ الهلالُ عندي والصومُ بعد رؤية الهلال حرامْ.
الفولكلور السوري المظلوم
المعروف أن ثمة مراتب للاقتراض، كالاستعارة والاقتباس والتأثر، خلافًا للسرقة، وهي مذمومة. واقتراض بيت من هنا، أو صدر من هناك، أو عجز من هنالك، أمر شائع في الشعر، ومقبول في الغناء، وكذلك في الألحان. والاقتباس لا عيب فيه إذا صرّح المقتبس عن أصل اقتباسه، وإلا صار سرقة. وقد برع الأخوان رحباني في الاقتراض يمينًا وشمالًا، خصوصًا من الفولكلور السوري الذي يعرفونه جيدًا، والذي هو، في أي حال، فولكلور بلاد الشام كلها، إلا ما كان خاصًا بمكان ما، كالبيئة الفراتية مثلًا (البيئة النهرية)، أو الحورانية (البيئة البعلية)، أو البدوية، أو الحلبية (المدينة التجارية ذات المحيط الزراعي المتصل حيويًا ببيزنطة والعراق وسائر سورية).
وقد أضفى الرحبانيان بذكاء وحرفية ومهارة بعض التزويق الموسيقي على الألحان التي اقترضاها، وساهم إتقانهما التوزيع الموسيقي في إخفاء ضروب الاقتراض والاستعارة. وقلما تحدّث عاصي الرحباني أو شقيقه منصور عمن استعارا منه كلمات الأغاني، أو ألحانها الأصلية. وقد غنّت فيروز، على سبيل المثال، أغنية مشهورة هي “قالوا لي كِن، وانا رايح جِن، حبابي يما يا يما، صاروا بروسَ الجبالِ”. وهذه الأغنية من التراث الغنائي الحموي، واشتُهرت بصوت المطرب السوري ياسين محمود، الذي كان يغنيها بلونها الأصلي، وكلماتها الأصلية. أما الأخوان رحباني فقد عمدا إلى تبديل كلمة “صاروا”، كما كانت في النص الأصلي، لتصبح “نار بروسَ الجبالِ”. والواضح أن تغيير “صاروا” إلى “نار” لا معنى له ولا ضرورة، ولا يستقيم مع الصورة الشعرية التي تشير إلى ابتعاد الأحبة نحو “روسَ الجبالِ”.
ومن ألحان البادية السورية الجميلة غنّت فيروز “تحت هودجها وتعالجنا، صار سحب سيوف يا ويل حالي”. وهذه الأغنية عبثت بها أصابع الرحبانيَين أيضًا فصارت: “غربي هودجها وتعالجنا”. ما الفارق إذًا بين “تحت هودجها” و”غربي هودجها”؟ إن عبارة “تحت هودجها” أسلم كصورة شعرية للقاء الحبيبين. ومن الفولكلور الفراتي غنت فيروز “بردا برداني بردا”، و “دِقّوا المهابيج”، و”عَ اللالا ولالا ولالا”. وقد قام المطرب السوري معن الدندشي بتدريب فيروز على أداء هذه الأغنيات تمامًا مثلما كان المطرب الفلسطيني محمد غازي يدربها على غناء الموشحات، وغنى معها موشح “يا وحيد الغيد”. وقد اقتبس الأخوان رحباني عددًا من الأغاني التي اشتغل المطرب السوري مصطفى هلال سنينًا طويلة على جمعها من أفواه كبار السن، حتى وصل ما جمعه إلى 300 أغنية، ثم عمل على تدوينها موسيقيًا (تنويطها) وتهذيبها وتشذيبها وتقديمها إلى الناس عبر برنامج “نشوة الماضي” في إذاعة دمشق سنة 1948. ومن بين تلك الأغنيات: تفته هندي، عَ الصالحية يا صالحة، بيلبقلك شك الألماس، يا ماريا (راجع: صميم الشريف، الموسيقا في سورية: أعلاَم وتاريخ، دمشق: وزارة الثقافة، 1991، ص 246 ـ 247). لنتذكر أيضًا أغنية “هيلا يا واسع”؛ فاللحن من أرواد، وكلمة “هيلا” سريانية تعني الحيل بالعربية، أي “شِدّوا الهمّة” بحسب مارسيل خليفة. وحين دخل الثوار مع سلطان الأطرش والأمير فيصل بن الحسين إلى دمشق في 30/ 9/ 1918 راحوا يهزجون:
وسّعوا المرجة ترى المرجة لِنا
وسّعوا المرجة لتلعب خيلنا.
وظلت هذه الأهزوجة تغنى في جبل العرب حتى قُيّض لها الملحن الحمصي مطيع المصري فصاغها على النحو التالي:
زيّنوا المرجة والمرجة لِنا
شامنا فِرجة ونحنا مزيّنا.
لم يتورع الأخوان رحباني عن الإغارة على أهزوجة “زينوا المرجة”، فعبثت بها أصابعهما وصارت: “زيّنوا الساحة والساحة لِنا، ليلة الساحة فينا مزيّنة” (غناء غسان صليبا). ومهما يكن الأمر، يحق لفيروز أن تنهل ما تشاء من الفولكلور السوري لأنها، على الأقل، إبنة رجل سوري سرياني من ماردين اسمه وديع حداد اضطره أتاتورك إلى الهجرة نحو بيروت في مطالع ثلاثينيات القرن المنصرم. ولعلنا، في المقابل، نلتمس عذرًا للقائمين على مسلسل “باب الحارة” الذين سرقوا لحن “يا بنت المعاون خلخالك ليوا ليوا” (لحن زياد الرحباني وغناء جوزف صقر) وجعلوه شارة للمسلسل. ويقول مطلع الشارة: “يا أهل المروّة والعزة والكرامة”: واحد مقابل مئة.
*نشرت في العربي الجديد في 28 نيسان / أبريل 2023
Leave a Comment