حنا غريب*
منذ أن تفتحت عيون جيلنا على حقوق شعبنا اللبناني وطموحاته، وعلى القضايا الكبرى في فلسطين، وعلى موضوعات التحرر الوطني العربية ونضالات شعوب العالم في كل القارات، من أجل حريتها وسيادة أوطانها وأحلامها في تحقيق العدالة والتقدم، منذ ذلك الحين، كنّا نتطلع إلى القادة الذين حملوا كل هذه القضايا، فكان الرفيق محسن إبراهيم أحد أبرز هؤلاء القادة. ومنذ أن تعرّفنا على “أبي خالد”، وقادة آخرين من هذا الطراز المتميز، أمثال الرفيق الشهيد جورج حاوي ورفيقهما القائد الشهيد كمال جنبلاط، أصبحوا المثال لكل شاب انخرط في النضال السياسي والاجتماعي. والحق يقال؛ لقد احتل الرفيق محسن المكانة الرفيعة في فكر ووجدان وقلب المناضلين اللبنانيين الشباب الذين امضوا، فيما بعد، عقوداً من حياتهم في مسارات النضال والالتزام.
وكشيوعي انخرط في نضال الحزب، مع جماهير العمال والشباب والطلاب والمعلمين كان اسم “أبا خالد” يتردد على الدوام من قبل قيادات حزبنا. وكنّا نخال، ومن دون لبس، أنه واحد من قادتنا، إذ كلما كنّا نسأل عن “أبي أنيس” يأتي الجواب بأنه مع “أبي خالد”، لقد كانا قائدين توأمين لمرحلة تاريخية غنية بالأحداث الكبرى في مجرى النضال الوطني العربي والأممي. وإذا استعاد أي مناضل، من جيلنا أو من قبله، المراحل والمحطات المشرّفة والهامة، في نضالات الشعب اللبناني وأبرزها محطة الحركة الوطنية اللبنانية عشية اندلاع الحرب الأهلية في سبعينيات القرن الماضي، سيجد أهمية ذلك الدور القيادي للرفيق أبي خالد في إسهاماته الكبرى ومواقفه الهامة، في صنع الأحداث والتطورات السياسية، بكل ما لها وما عليها، وقد كان شجاعاً وجريئاً في الإضاءة عليها، نقداً ذاتياً، وفي تحمّل المسؤوليات.
ومن أبرز تلك الاسهامات، والتي تؤرخ لهذه المرحلة من نضالات شعبنا، نتوقف عند برنامج الإصلاح السياسي والاقتصادي الاجتماعي للحركة الوطنية. هذا البرنامج الذي لا تزال أهم محاوره صالحة ليومنا هذا: إلغاء الطائفية السياسية وقوانين الانتخابات خارج القيد الطائفي والنسبية والأحوال الشخصية والاقتصاد الوطني المنتج، والحريات العامة والعدالة الاجتماعية… في إطار دولة علمانية ديمقراطية ووطن عربي الهوية والانتماء، يواجه أبناؤه الإمبريالية الأميركية وصنيعتها الكيان الصهيوني وحلفاءها من الرجعيات العربية. إنها هي هي الشعارات والمطالب التي صدحت بها حناجر المنتفضين في 17 تشرين، والتي بها يؤكد حضوره الدائم معنا ومع شعبه. وإعطاء محسن ابراهيم حقه في التكريم كقائد ومفكر سياسي، يتطلّب الوقوف عند أهم الإسهامات التي أشعلت منارة لم ولن تنطفئ، وهو إعلان البيان التاريخي لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في 16 ايلول 1982 من قبل “ابي خالد” و”ابي انيس”، والذي سرعان ما انتشر كالنار في الهشيم مع انطلاقة عمليات “جمّول” التي ضمّت الاحزاب اليسارية والقوى الوطنية اللبنانية والفلسطينية في وجه الاجتياح الغاشم للعدو الصهيوني واحتلال جيشه البربري عاصمة لبنان .
وتكمن قيمة الإسهامات التي قدّمها أبو خالد ورفاقه في قيادات الحزب الشيوعي والأحزاب التقدمية والوطنية واليسارية اللبنانية الفلسطينية والعربية، في ذلك الجمع المترابط بين النظرية والتطبيق على مستوى الخطاب السياسي والتعبئة العامة والكتابة والتحليل السياسي، الذي أنتج تلك الصفحات المشرقة لنضال اللبنانيين والفلسطينيين والعرب. نتذكر أبا خالد وتفاؤله بالانتصارات مهما تعاظمت المؤامرات والاعتداءات، حيث تحقق إحداها بتحرير بيروت والأراضي اللبنانية المحتلة من الاحتلال الصهيوني، بفضل آلاف الشهداء المقاومين، من جمّول والمقاومة الإسلامية، وكما يتحقق اليوم واحد من تلك الانتصارات بما تجسّده انتفاضات الشعب الفلسطيني ومقاومته البطلة في غزة والضفة وأراضي الـ 48، وهي التي كرّست مجدداً مركزية القضية الفلسطينية وأحقية ومشروعية مطالب الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال، من أجل التحرير والعودة، وبناء دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس. مسارات الحياة النضالية لقائد ثائر، لبناني وعربي وأممي كمحسن ابراهيم يفتخر بها كل شيوعي ويساري ووطني وتقدمي ولبناني، ملتزم بقضايا شعبه، باعتبارها تجربة غنية في التحالفات والمراجعة النقدية واستخلاص العبر وتجاوز الأخطاء وتصليب الممارسة استجابة لحاجات جماهير شعبنا، منها، ومن خلالها يستلهم الشيوعيون والمناضلون قيماً ومبادئ وقواعد عمل وأساليب مواجهة تفرضها الظروف الراهنة التي يمر بها شعبنا اللبناني وشعوبنا العربية.
وتبقى الأهداف التي نناضل في سبيلها اليوم منسجمة في جوهرها مع ما ناضل من أجلها الرفيق محسن ورفاقه في مسيرة استشهد كبارها؛ إنها أهداف المقاومة الوطنية التي تربط عملية التحرير بالتغيير، وتعتبرهما قضية واحدة للتحرر الوطني والاجتماعي، هي مسيرة لتحرير الارض من الاحتلال الصهيوني، مثلما هي لتحرير الإنسان من الاستغلال الطبقي. وهي تتجلى اليوم من خلال انتفاضة شعبنا التي بدأت في 17 تشرين تحت شعار إسقاط هذا النظام السياسي الطائفي، الذي يشكل أداة للهيمنة الإمبريالية الأميركية والغربية على لبنان، عبر بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية التابعة، وهو في الوقت نفسه أداة للاستغلال الطبقي الذي تمارسه البرجوازية المحلية على الاغلبية الساحقة من اللبنانيين.
ونحن في الحزب الشيوعي اللبناني، وعشية مؤتمرنا الثاني عشر، إذ نستذكر “أبا خالد”، فكلنا ثقة وأمل، بأهمية المهمة المركزية التي تفرضها المرحلة الخطيرة والتاريخية التي يمر بها شعبنا؛ إنها مهمة كل القوى اليسارية والوطنية والعلمانية والديمقراطية، المدعوة لتحمل مسؤولياتها لإنجازها بالعمل معاً، حزباً شيوعياً ومنظمة عمل شيوعي وقوى يسارية، تسعى للتغيير لزيادة وزنها وفعلها في الحياة السياسية والاجتماعية، وصولاً إلى التمكّن من تغيير ميزان القوى في البلاد لإنقاذ الاغلبية الساحقة من شعبنا من النظام السياسي الطائفي وتبعيته، ومن منظومته الحاكمة وفسادها. ويأتي في مقدمة خطوات الإنقاذ هذه بناء الائتلاف الوطني الواسع، كأداة لمشروع سياسي يقدّم نفسه بديلاً من المنظومة الحاكمة، ويتولّى مسؤولية قيادة الصراع معها، لخلق موازين قوى جديدة تفرض تشكيل حكومة إنقاذ وطني انتقالية، بصلاحيات تشريعية استثنائية، من خارج المنظومة الحاكمة لإدارة المرحلة الانتقالية. إنها خريطة الطريق لبناء الدولة العلمانية الديمقراطية العادلة، بمواصفاتها الثلاث العلمانية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية المترابطة بعضها ببعض، باعتبارها قضية واحدة لا تتجزأ، والتي بإمكانها تعطيل الوظيفة السياسية للطائفية والافقار والتبعية، وتشكيل أساس للدفاع عن السيادة الوطنية بمفهومها الشامل سياسياً واقتصادياً واجتماعيا ومقاومة كل عدوان واحتلال.
بيروت في 10/6/2021
*الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني
Leave a Comment