“ضع كتبك المعقدة جانبًا، فكتب المحاسبة صارت الآن أكثر فائدة. لا تكن فخوراً، ولا روحانياً، ولا حتى مرتاحاً، لأن هذا يمكن أن يظهرك بمظهر المغرور. خفف من شغفك لأنه مخيف. وقبل كل شيء لا تقدّم لنا فكرة جيدة من فضلك، فآلة إتلاف الورق ملأى بها سلفاً. هذه النظرة الثاقبة في عينيك مقلقة: وسع حدقتي مقلتيك وأرخ شفتيك، ينبغي أن تكون للمرء أفكار رخوة وينبغي أن يظهر ذلك. عندما تتحدث عن نفسك، قلل من إحساسك بذاتك إلى شيء لا معنى له: يجب أن نكون قادرين على تصنيفك. لقد تغير الزمان، فلم يعد هناك اقتحام للباستيل، ولا شيء يقارن بحريق الرايخستاغ، كما أن البارجة الروسية “أورورا” لم تطلق طلقة واحدة باتجاه اليابان. ومع ذلك فقد تم شن الهجوم بنجاح: لقد تبوأ التافهون موقع السلطة”.
يقدم المفكر الكندي آلان دونو صورة بانورامية لعصرنا، متقصياً الأسباب والعوامل المتراكمة التي أفضت إلى سيطرة التافهين وسيادة التفاهة، وتحولها إلى نظام اجتماعي يحكم العالم
بهذا المقطع المدوي يستهل آلان دونو، أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة كيبيك، كتابه “نظام التفاهة“، (دار سؤال، ترجمة مشاعل عبد العزيز الهاجري 2020)، مؤكدًا أن السلطة صارت في أيدي التافهين، وصارت إمبراطوريتهم تمتد إلى جميع جوانب الحياة: الاقتصاد، العلوم، القانون والسياسة. وهم في طريقهم، خلال زمن غير بعيد، إلى القضاء على كل شغف، وقمع كل إحساس بالمخاطرة، وتمزيق كل فكرة سياسية أصلية إلى مزق صغيرة..
يرى دونو أن الأمر يتعلق بثورة لها مفعول المخدر المسكن، ثورة تدعو إلى أن يتخذ الناس موقعهم دوماً في الوسط، وأن يفكروا برخاوة، وأن يضعوا قناعاتهم في جيوبهم حتى يصيروا مجرد قطع غيار يسهل جمعها في علب، كما ينبغي لهم وفق هذه الأيديولوجيا الجديدة، أن لا يغيروا شيئاً من موضعه، ولا أن يبتكروا أدنى شيء قد يشكك في النظام الاقتصادي والاجتماعي القائم.
وفي سياق البحث في الأسباب، فثمة عاملان لهما أهمية قصوى في التفسير، السبب الأول هو تطور مفهوم العمل من مهنة إلى وظيفة، إن تقسيم وتصنيع العمل ـ اليدوي منه والفكري ـ ساهم على نحو كبير في ظهور السلطة التافهة، وجعل العمال مجرد منفذين، وهو ما كان ماركس قد أشار إليه منذ 1849، عندما قال إن الرأسمالية انتزعت من العمل روحه، إذ اختزلته في قوة ومن ثم في مكافأة.. لقد صار العامل ينظر إلى العمل كوسيلة للبقاء لا أكثر.. شيئاً فشيئاً تنقرض المِهن ويحل مكانها شكل من العمل، بارد ومسطح و بلا شغف. “قد يعمل المرء على إعداد وجبات طعام بكميات كبيرة في مصنع، بدون أن تكون له القدرة على إعداد طعام للأكل في بيته، إملاء إرشادات على الزبائن بالهاتف لا يفهم هو نفسه منها شيئاً، بيع كتب وصحف لا يقرأها أبداً.. ونتيجة لذلك يختفي لديه الفخر بإنجاز عمل متقن”.
يؤكد ماركس عام 1857، في مدخل عام إلى نقد الاقتصاد السياسي أن “تجاهل العمل المُعِين يناسب شكلاً من أشكال المجتمع، فيه ينتقل الأفراد بيسر من عمل إلى آخر وفيه يبدو لهم نوع العمل المحدد نافلاً وغير ذي بال. تصير الوسائل المتبعة لوصول المرء إلى أهدافه في نظام مثل هذا وسائل موحدة الشكل”.
السبب الثاني مرتبط، وفق دونو، بعالم السياسة ومجال الدولة والشأن العام. هنا بدأت سيطرة التافهين مع مجيء التكنوقراط إلى الحكم، ولقد اعتمد هؤلاء مفهوم “الحوكمة” بدلًا من السياسة، ومفهوم “المقبولية المجتمعية” بدلًا من الإرادة الشعبية، ومقولة “الشريك” بدلًا من المواطن.. وفي النهاية صار الشأن العام تقنية إدارة، لا منظومة قيم ومثل ومبادئ ومفاهيم عليا، وصارت الدولة مجرد شركة خاصة. وصارت المصلحة العامة مفهوماً مغلوطًاً لمجموع المصالح الخاصة للأفراد، وصار السياسي تلك الصورة السخيفة للناشط اللوبي لمصلحة “زمرته”.
من هذين المنطلقين، تنميط العمل وتسليعه وتشييئه، وتفريغ السياسة والشأن العام، صارت التفاهة نظاماً كاملاً على مستوى العالم.
أفضل تجسيد لـنظام التفاهة، حسب دونو، هو وقوف مصطلح “الخبير” مقابل مصطلح “المثقف”، الأول هو ممثل السلطة المستعد لبيع عقله لها، أما الثاني فهو الذي يحمل الالتزام تجاه قيم ومُثل معينة، ولقد صارت جامعات اليوم، التي تموّلها الشركات، مصنعاً للخبراء لا للمثقفين، حتى أن رئيس جامعة كبرى قال مرة إن “على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات”، فيما جاهر رئيس إحدى الشبكات الإعلامية الغربية الضخمة بأن وظيفته هي أن يبيع للمعلن “الجزء المتوفر من عقول المشاهدين المستهلكين”.. لا مكان إذاً للعقل النقدي المتعمق، ولا للحس المرهف، ولا لثقافة الشك والتساؤل والفضول.
هكذا يرى دونو أنه تم خلق نظام حكم التافهين، نظام يسمح لخمسين في المئة من خيرات كوكبنا بأن تكون حكراً على واحد في المئة من أثريائه، وذلك وفق نهج ينزع السياسة عن الشأن العام وعن التزام الإنسان.
كيف يمكن مواجهة حكم التافهين هذا؟ يجيب دونو: ما من وصفة سحرية. والحرب على الإرهاب أدت خدمة لنظام التافهين، وجعلت الشعوب تستسلم لإرادات مجموعات، أو حتى لأشخاص، كأنهم يملكون عناية فوقية، بدل أن تكون تلك الحرب فرصة لتستعيد الشعوب قرارها. إنه خطر “ثورة تخديرية” جديدة، غرضها تركيز حكم التفاهة. والمطلوب أن “نقاوم التجربة والإغراء وكل ما لا يشدنا إلى فوق. ألا نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا.. أن نعيد المعنى إلى مفاهيم مثل المواطنة، الشعب، النزاع، الجدال، الحقوق الجمعية، الخدمة”.
*نشرت في سوسيال اوروب في 13 نيسان \ أبريل2022
Leave a Comment