محسن إبراهيم

محسن إبراهيم في ميزان منظمته

أحمد جابر*

في الذكرى السنوية الأولى لغيابه، أحيا أصدقاء محسن إبراهيم، وعارفون ومحبّذوه، ما آثروا الإدلاء به من مخزون الذاكرة. لقد اجتمع في محفل التكريم، من وافق محسن إبراهيم ومن خالفه، ومن شايعه ومن نبذه… لم يكن في ذلك وجه تناقض، فالماضي الذي أدْلي به، فَقَد مادته الخلافية الراهنة، وتكفّلت عاصفة التطورات، عبر عقود، بكنس ما كان قد تساقط من أدب التباين، ومن نصوص القُربى، فحلّ محلّ كل ذلك، أدب الحيرة الفكرية، ونصُّ الارتباك العملي، و”نظريات” التبرير التي أصابت الكتل الأهلية، والتجمعات الحزبية، والُبنى الرسمية، بمقادير متفاوتة. لم ينجُ طيف سياسي من رذاذ الإصابة بالعجز، أمام المشهد اللبناني الذي وُلِدَ بعد الطائف، ولم تكن منظمة العمل الشيوعي، بقيادة أمينها العام محسن إبراهيم ناجيةً من هذا الرذاذ.

تاريخان في سيرةٍ واحدة:

جمع محسن إبراهيم في شخصه تاريخين، أولهما ما كان له من انتسابه إلى حركة القوميين العرب، والثاني، هو مساهمته في تأسيس منظمة العمل الشيوعي، التي ورثت تنظيمين هما: منظمة الاشتراكيين اللبنانيين، ولبنان الاشتراكي. التاريخان، في اتصالهما، وفي انفصالهما، شكّلا المادة الأساسية من سيرة محسن إبراهيم النضالية.

إذن، ومن مدخل الأمانة التاريخية، في عرض سيرة القائد الراحل، تقتصر الكتابة عنه، وله، على تاريخه في منظمته، هذا الذي كان فيه “القائد” ضمن بيئة إنتاجه، وضمن بيئة ممارسته، أي بين كل الحشود الحزبية التي واكبت المنظمة، ثم انقطع عنها من انقطع، وتابع من تابع، وخرج منها وعليها من خَرَج… هكذا تعود رمزية قيادة محسن إبراهيم إلى كتابها الأصلي، والأصيل. في هذا السياق، يمكن القول، وبكثير من الصواب، إن منظمة العمل الشيوعي، بما مثّلته من حالة نضالية متّقدة، وبما تميّزت به من طاقة عملانية زاخرة، حفظت الشقّ الأول من سيرة محسن إبراهيم، وأمّنت له الاستمرارية، وقدّمته إلى البناء اللبناني كَلَبنةٍ تجديدية، بعد أن أَفَلَ نجم الناصرية، وبعد أن خَبا لهيب “دم – حديد – نار”، وبعد أن أطاحت النكسة – الهزيمة، بالبناء السلطوي، الناصري، الذي وَعَد القومية العربية الهادرة بتحرير فلسطين.

هل يتجاوز القول على حدّ إنصاف الرجل؟ بالتأكيد لا. هل يعيد القول جوانب من الإنصاف إلى كل من “صَنَعَ” منظمة العمل الشيوعي؟ بالتأكيد نعم، وعلى ذلك، هل أَنْصَف المحتفون بالذكرى بيئة المكرّم، بمقدار ما أنصفوه؟ لم يكن الأمر على هذا الوجه الإنصافي، وهذا مما كان ماثلاً في حضور محسن إبراهيم، وظلّ مستمرّاً بعد غيابه.

سيرة التأسيس:

نهضت منظمة العمل الشيوعي في سياق “انبعاث” اليسار العالمي الجديد، وقدّمت نسختها عن مبرّرات انتسابها إلى مدّ الانبعاث، من مادة لبنانية وعربية ودولية. لقد حَفظت المنظمة مساهمتها الجديدة عن ظهر قلب، فساجلت داخلياً، ودافعت بكفاءة عما رأته صواباً من جديدها، فكان لها أن توسّعت بين فئات اجتماعية واسعة. وكان من شأن هذا التوسّع أن يتيح لها حجز مكان فاعل وملموس ضمن بيئة الحزبية اليسارية اللبنانية. انطبعت تلك الفترة بطابع أقلام عديدةٍ ساهمت كتابةً وشرحاً وتعليلاً، وحَفِلَت بخلافات أدّت إلى انشقاقات سريعة متوالية. وَسْطَ كل ذلك، كان محسن إبراهيم الثابت الوحيد، الذي جمع بين وَعْي لحظة التأسيس الأولى، وبين ضرورات الممارسة اليومية المتبدّلة. اجتمعت لدى “أبو خالد” قدرة الجمع، على قاعدة تجربته الموروثة المتراكمة، هذه التي كانت من قول وعمل، وكانت من دراية وخبرة في اشتقاق اللغة البرنامجية المناسبة، في لحظات التحوّل العاصفة.

في امتداد ذلك الشقّ من السيرة التأسيسية، يجب ألاّ تغيب مراجعة المادة الخلافية، التي كانت أساساً لعدد من الانشقاقات عن الجسم الحزبي، فالمراجعة الداخلية، دليل آخر على صدْق وشفافية سيرة المنظمة عموماً. وفي هذا المضمار، يجب التذكير، بأن مادة الحياة الداخلية الفكرية والسياسية، الخلافية والتوافقية، ظلّت في منأى عن المراجعة، التي اقتصرت على خلاصة سياسية عامة بعد الحرب الأهلية، وعلى خلاصة فكرية عامة، بعد انهيار المنظومة الإشتراكية. استطراداً هذه مناسبة للقول، إن تكريم محسن إبراهيم، ضمن منظمته، وعلى صعيد عام، لا يكتمل إلاّ بإلقاء ضوء جديد نقدي، على مراجعاته النقدية، الفكرية والسياسية، وعلى خياراته العملية، التي ظلّت خياراً للمنظمة حتى تاريخه.

سيرة ما بعد التأسيس:

تصنيف السيرة بين التأسيس وما بعده، ليس تصنيفاً تعسّفياً، فاللحظة الأولى التي امتدّت بين عام 1969 و1975، كانت فترة حيوية فكرية وسياسية وعملية، وكان التحصيل التثقيفي النظري، واحداً من مداميك بنائها الأصلية. هذه الأعوام انقطعت عن سياقها، وانسلخت عن سيرها الطبيعي، بقوة انفجار الحرب الأهلية.

لقد قصمت تلك الحرب ظهر الثقافة، وأَخْلَت أمكنتها تباعاً، لمادة السياسة اليومية، وهذه الأخيرة صارت من لزوم الممارسة العملية التي فرضها سياق الحرب، واقتضتها ضرورات الاستجابة لتحدياتها.

لقد انزاحت المنظمة، من الداخلي البنيوي، إلى الخارج الوطني. لم تعد النظرية سابقة على الممارسة، كما في عهد السيرة الأولى، بل باتت مواكبة لتطوراتها. بكلامٍ أقرب، تقدّم “التكتيل” اليومي، على الرؤية الاستراتيجية، بفعل ضغط التطورات المتسارعة، وتحت وطأة المسارعة إلى ابتكار العناوين السياسية الفرعية، التي طَلُعتْ من ثنايا العناوين السياسية الوطنية الأساسية.

انزياح المنظمة من مكان نقديتها إلى ميدان مواكبتها، قرَّبها من أن تكون “حزب الحركة الوطنية”، والانزياح ذاته، أخذ محسن إبراهيم من داخليته المكينة، إلى الوطنية المتحركة، فاقترب من أن يكون أمين عام الأحزاب الوطنية. تكراراً، كان للعملية الانتقالية هذه، قائد ومدبّر، هو محسن إبراهيم، وقد واءم بين أدائه الداخلي وأدائه في الساحة الوطنية، باعتماد غلبة للعام على الخاص، مما كان له آثار إيجابية على حضور المنظمة كتنظيم وكنية معترف بها وطنياً، ومما سيكون له لاحقاً، آثار سلبية على ذات البُنية التي أصابتها شظايا أعراض الحرب الأهلية، فكان الشفاء من جراحها صعباً بنيوياً، وكانت البلسمة السياسية مجرّد تأجيل لالتهاب الجرح الذي خَتَم على “زَغَل” بنيوي، مما لم يكن ممكناً تلافيه، بدواء جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، تلافياً ناجعاً. على وجوه كثيرة، يجب القول إن منظمة العمل الشيوعي فقدت الكثير من أسلحتها التأسيسية مع ختام سنوات الحرب الأهلية، ولم تستطع استدراك الفقدان بما حاولته من نظرات نقدية تجديدية، هذا لأن البنية اللبنانية، كان قد “طافَت” بطوائفيتها، فاقتلعت ما كان “للوطنية” الفتيّة، من شجر طريّ الأغصان.

أين كان محسن إبراهيم من كل ذلك؟ تكراراً كان قائد المحصلة، وقيادته لم تكن موضع نزاع داخل منظمته، وكانت موضع تقدير على الصعيد الوطني العام، لكن عندما انفضّ “عقد السُمّار” في الخارج، كان عقد سياق المنظمة الداخلي قد فَقَد الكثير من حبّاته. هل نضع الحصيلة هذه على طاولة إعادة التقويم؟ بالتأكيد، فهذا مما تقتضيه موضوعية تكريم “القائد”، وهذا مما هو جدير بتجديد السيرة، التي قد تعود إلى الضجيج بحيويتها، فتكسر بذلك ما قد يحيط بسيرة محسن إبراهيم، وسيرة سواه، من صنف الغياب.

سيرة الغياب:

بعد سنوات الجمر النظري والعملي، دخل محسن إبراهيم، إرادياً، في سنوات الغياب. حَمَلت السنوات تلك أسماء كثيرة، فَسُمِّيت مراجعة، وسُمّيت تحضيرات للمؤتمرات التنظيمية بعد طول انقطاع، ودُعيت اكتساب أهلية لمجموع المنظمة، هذا الذي سيكون عليه التصدي للمهمات الفكرية والعملية الجديدة…

ربما يجوز لنا الاستنتاج اليوم، أن ما ورد كان أسماءً إرجائية، حتى لا نقول التفافية. فالإسم الحقيقي لكل تلك السنوات، كان عدم الوثوق بالقدرة على تجديد عمل حزبي، بعد أن بدا الإقفال غالباً، على مستوى البنية العامة اللبنانية.

لم تكُن تلك السنوات، وخاصةً بعيد اتفاق الطائف، سنوات مواتٍ عملي، لكن حدود الممارسة الانتخابية والنقابية، لم تكن كافية، بل لم تكن مؤهّلة لتشكل ردّاً على المضمون الحقيقي لقرار الغياب.

أين كان محسن إبراهيم في سنواته الرتيبة؟ كان على رأس منظمته الإنتظارية. عوّض عن غيابه السياسي “بمختارات” من العلاقات الاجتماعية، وناب “جهده الفلسطيني” مناب جهده اللبناني، وحّلت تعليقاته العامة، وآراؤه المتفرقة، لدى بعض أصدقائه المقرّبين، محل جهد كتابة تاريخ المنظمة، وتاريخ سيرته، ومكان جهد كتابة تقارير الظرف الراهن، وفق ما كان للمنظمة، في سابق عهدها، من تقارير…

ما جرت الإشارة إليه، كان قراراً فردياً، ولم يلقَ هوى جماعياً داخلياً، لكن أين كانت المنظمة من كل ذلك؟ جوهرياً، لم تتولد في جنبات الحياة الداخلية للمنظمة مطالبة واضحة بكسر حلقة الغياب، بل إن ما ظلّ سائداً داخلياً، التفّهم العام لموقف محسن إبراهيم، والبحث عن مبرّرات له. شيء من التواطؤ حصل، بين المنظمة وأمينها العام، وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدلُ على أن إصابات بليغة أصابت استعداد ما بقي من جسم المنظمة، بعدما أصيب به من سهام السنوات الخوالي.

الخلاصة من ذلك، أن “الرئيس” لم يكن موضوع معارضة من مرؤوسيه، وكالعادة، حصلت انسحابات متوالية صامتة، خلال سنوات “الغيبة الكبرى”، إدراكاً من أصحابها لعدم الجدوى، وحرصاً من قبلهم أيضاً، على عدم إصابة المنظمة الجريحة بالغياب، بمزيدٍ من جراح وأعراض الانسحاب.

خلاصة:

في الخلاصة المكثفة، يحضر سؤالان خاصّان، وآخر خاص وعام. السؤال الأول: هل احتل محسن إبراهيم مكانة في التاريخ السياسي اللبناني، بما يليق بسيرته من غنى ومن احترام؟ الجواب بالإيجاب. السؤال الثاني: هل ما زالت منظمة محسن إبراهيم، التي صنعته بمقدار ما صنعها، قادرة على عملية، إحيائية شاملة؟ هل الجواب موضع محاذير كثيرة. السؤال الثالث: هل الطيف السياسي العام الذي احتفى بذكر محسن إبراهيم، ظلّ أميناً على الجوهري من تراثه؟ الجواب بالنفي.

لذلك، تبقى الخلاصة الداخلية: لا بديل من نسخة منظمة اشتراكيين لبنانيين ممهورة بتاريخ عام 2021، وبتوقيع سيرة مناضليها الحافلة بكل المعاني.

      * كاتب سياسي لبناني وقيادي سابق في منظمة العمل الشيوعي في لبنان.

Leave a Comment