زكـي طـه
بيروت 22 تشرين الاول 2025 ـ بيروت الحرية
معضلة التفاوض بين التاريخ والواقع
التفاوض بين لبنان وإسرائيل ليست مسألة تقنية أو ظرفية، بل هي واحدة من أعقد إشكاليات السيادة الوطنية التي واجهت منذ اعلان “دولة لبنان الكبير” عام 1920. وهي القضية التي كانت ولا زال حاضرة كجرح مفتوح في خاصرة الكيان منذ إعلان تأسيس دولة اسرائيل عام 1947. وقد تجلت أولاً في حرب 1948، عندما قرر حكماء الكيان المشاركة في الحرب العربية ضد اسرائيل، كي يحصل لبنان على اتفاق هدنة برعاية الامم المتحدة، الغاية منه تحديد وحماية حدوده الجنوبية من الاطماع الاسرائيلية. ومع تبدل الاوضاع في الجنوب ولبنان وتحولهما قاعدة للوجود الفلسطيني والكفاح المسلح في اعقاب هزيمة 1967، فقد انتهى التفاوض غير المباشر عبر الامم المتحدة في اعقاب عدوان 1978 إلى اقرار مجلس الامن نشر قوات الطوارىء الدولية حتى الحدود الدولية بموجب القرار 425، غير أن اسرائيل رفضت الانسحاب من منطقة الشريط الحدودي.
ومع اجتياح 1982، نتج عن المفاوضات المباشرة في ظل الاحتلال الاسرائيلي، اتفاق 17 أيار 1983، الذي أسقطه عمليات جبهة المقاومة الوطنية من ناحية، وضغوط النظام السوري عبر استغلال المقاومة للتغطية على سياساته. وهو الذي رفض الانسحاب الاسرائيلي المنفرد من الشريط الحدودي المحتل، ورأى فيه مؤامرة على لبنان وسوريا، ولذلك سعى بكل الوسائل لاستخدام استمرار المقاومة ورقة في مفاوضاته مع اسرائيل حول مصير الجولان المحتل. وفي اعقاب حرب تموز 2006 نتج عن المفاوضات غير المباشرة اتفاق وقف الأعمال العدائية، ولاحقاً وبوساطة وضمانات اميركية انتجت المفاوضات غير المباشرة اتفاق ترسيم الحدود البحرية عام 2022.
واليوم، ومع وقوع لبنان تحت السيطرة العسكرية والامنية بنتيجة الحرب على لبنان ورفض اسرائيل الانسحاب من المواقع الاستراتيجية المحتلة بموجب اتفاق وقف اطلاق النار وألية تنفيذ القرار 1701 الذي نتج عن المفاوضات غير المباشرة بوساط اميركية، يعود ملف التفاوض إلى الواجهة لكن في سياق أكثر تعقيدًا: انقسام داخلي عميق، وانهيار اقتصادي، وتوازنات إقليمية مختلة بالكامل لمصلحة اسرائيل. ما يعني أن المسألة ليست سؤالًا بسيطًا حول شكل التفاوض (مباشر أم غير مباشر)، بل هي سؤال وجودي يتصل بالسيادة الوطنية، وبالقدرة على صياغة قرار مستقل، وبمدى استعداد وقدرة لبنان على القبول بدفع أثمان استراتيجية لا تضعه امام خطر الانهيار الشامل.
تصعيد الضغوط الأميركية
شكّل كلام الموفد الأميركي توم بارّاك محطة فاصلة في مسار الأزمة اللبنانية ـ الإسرائيلية، لأنه نقل الموقف الأميركي من ضبابية محسوبة إلى وضوح صريح، ينطوي على التهديد والاملاء في آن. فما أدلى به باراك لم يكن مجرّد رسائل دبلوماسية، بل إنذاراً سياسياً مباشراً، أكد المضمون الحقيقي لسياسات واشنطن تجاه لبنان، وكشف على نحو سافر ادعاءات دور الوساطة والحرص على مصالحه ودعمه له.
وجوهر ما طرحه باراك يمكن تلخيصه بمحاور ثلاث مترابطة، تبدأ من مطالبة لبنان بإنهاء ملف سلاح حزب الله، بوصفه العقبة الأساسية أمام الاستقرار وتنفيذ اتفاق وقف اطلاق النار. وتمر بوجوب ذهاب لبنان إلى مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، لإنهاء حالة الحرب وإبرام اتفاق جديد لوقف العمليات الحربية. وصولاً إلى التهديد الضمني بأن عدم الاستجابة السريعة لما سبق، سيجعل لبنان وحزب الله عرضة إمّا لعملية عسكرية إسرائيلية واسعة، أو أن يُترك البلد وحيدًا في مواجهة الانهيار، والإهمال الدولي في ظل استمرار السيطرة الاسرائيلية وبقاء الاحتلال والاعتداءات اليومية.
وردت الرسائل في سياق إعادة ترتيب الأولويات الأميركية في المنطقة، لأن واشنطن لم تعد معنية فقط بضبط جبهة الجنوب، بل بتطويع لبنان سياسياً ضمن معادلة أمن إسرائيل. وبذلك لم يعد ملف التفاوض وسيلة لتصفية الوضع الذي كان قائماً طوال العقدين الماضيين على الحدود الشمالية لاسرائيل وضمان عدم عودته فحسب، بل خطوة نحو السلام معها.
صيغ التفاوض
منذ مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، سعت الولايات المتحدة إلى تثبيت دورها كوسيط حصري بين لبنان وإسرائيل، تمهيداً لمرحلة الترسيم السياسي. فالدعوات المتكررة إلى تشكيل وفد سياسي ـ دبلوماسي لبناني لعقد مفاوضات مباشرة لم تكن مبادرات معزولة، بل جزء من مسار تصعيدي هدفه كسر المحرمات واستعادة صيغة التفاوض المباشرة التي نتج عنها اتفاق 17 ايار 1983.
ورغم أن الرئاسة اللبنانية والقيادة العسكرية أبدتا مرونة في دراسة صيغ تفاوضية مختلفة، فقد ظل الموقف الرسمي يراوح بين رفض المفاوضات المباشرة، والقبول بصيغة تقنية محدودة تحت رعاية اللجنة الخماسية. وهذا الموقف يعكس المأزق البنيوي للنظام السياسي اللبناني حول القدرة على اتخاذ قرار سيادي في ظلّ الانقسام الحاد بين مكوّنات السلطة، والتباينات القائمة حول تعريف المصلحة الوطنية.
تنوّع الضغوط
ترافقت الضغوط الأميركية مع تصعيد إسرائيلي متواصل، غارات واغتيالات وعمليات محدودة داخل الشريط المحتل، لم تقتصر على الجنوب بل طالت شتى ارجاء البقاع. لم تقتصر الضغوط على التهديد العسكري المباشر، بل شملت أيضًا الصعيدين الاقتصادي والسياسي. فواشنطن تربط أي دعم مالي أو انفتاح دولي أو عربي على لبنان بتنفيذ قرار الحكومة بشأن حصر السلاح، وبتقدّم مسار التفاوض مع اسرائيل، وأن إعادة الإعمار كما المساعدات تمرّ عبر بوابة السلام معها.
بهذا المعنى، تحول مطلب المفاوضات سلاحاً اقتصادياً، يكشف عمق الأزمة البنيوية في ظلّ الانهيار المالي والمؤسساتي. وتلازم الضغط الميداني مع الابتزاز المالي وضع الدولة أمام معادلة قسرية: إما التنازل السياسي للحد من الأزمة الاقتصادية، أو تحمّل مزيد من أعباء الانهيار والدمار. والتلازم بين الضغط بالقوة العسكرية والضغط بالقوة المالية هو التعبير الأوضح عن انكشاف وهشاشة موقع لبنان ضمن التوازنات الاستراتيجية المختلة لمصلحة اسرائيل على نحو فادح، بنتيجة حربها المفتوحة والمستمرة في المنطقة ولبنان منها، بالتوافق التام مع الإدارة الاميركية على كل المستويات، وصولاً إلى استخدام الاقتصاد كسلاح سياسي لاستكمال نتائج الحرب.
الخيارات المحدودة
لا يدور النقاش الداخلي في لبنان حول المبدأ فقط، بل يطال مصير الكيان والدولة. بين من يرى في التفاوض وسيلة لحماية لبنان من حرب شاملة، ومن يعتبره مدخلاً لتصفية ما تبقى من سيادته، في وقت تبدو فيه المؤسسات الدستورية، من رئاسة الجمهورية إلى الحكومة والمجلس النيابي، عاجزة عن بلورة موقف موحّد. البعض يدعو إلى رفع مستوى التفاوض ليشمل ممثلين سياسيين. وآخرون يتمسكون بالإطار العسكري ـ التقني وبرعاية الأمم المتحدة. في المقابل، يرفض حزب الله جميع أشكال التفاوض المباشر، لأنّ المسألة تتعلق فقط بضرورة إلزام إسرائيل بتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار (تشرين الثاني 2024) قبل أي نقاش سياسي، والسلاح ليس موضوعاً للتفاوض لأنه ضمانة وجودية. وبذلك فإن أزمة القرار الوطني في لبنان هي إنعكاس لحالة الانقسام، وتأكيد لعمق الأزمة التي تشكل معضلة التفاوض مرآة لها، في ظل غياب الدولة القادرة على تحديد أولوياتها وصوغ استراتيجية وطنية متكاملة.
إسرائيل واهدافها
تتعامل إسرائيل مع ملف التفاوض باعتباره ورقة ضغط مزدوجة: من جهة، وسيلة لتقويض نفوذ حزب الله وتصفية سلاحه وتحويل الصراع إلى مسألة حدودية قابلة للتسوية. ومن جهة أخرى، فرصة لإضعاف مناعته وتسريع الانتقال إلى مرحلة إخضاعه للمعادلة الامنية والسياسية الاسرائيلية، التي لا تخفي أهدافها من رفض الانسحاب وتصعيد العدوان، سواء تعلق الامر بتكريس منطقة عازلة في الجنوب، لضمان أمن مستوطناتها الشمالية، أو بالتطبيع السياسي المقنّع عبر اتفاق هدنة معدّلاً. يجري ذلك بالتنسيق مع واشنطن التي لا تتبنّى الشروط الاسرائيلية فقط، بل ترى في إخضاع لبنان خطوة مكمّلة لترتيبات ما بعد غزة، ولضبط العلاقة مع سوريا وإيران، في مسار ترتيب أوضاع المنطقة لتأبيد السيطرة الاميركية وفق معايير ضمانات أمن إسرائيل ودورها، وهو ما يفسّر التصعيد المتزامن ميدانياً واقتصادياً ودبلوماسياً.
التفاوض معضلة وطنية
إن أزمة التفاوض مع اسرائيل، والتعامل مع الضغوط الخارجية، ليست معزولة عن أزمة الدولة اللبنانية نفسها. فالمعضلة تتجاوز شكل المفاوضات إلى جوهرها: من يملك القرار في لبنان؟ فيما النظام الطائفي الذي يوزّع السلطة وفق منطق المحاصصة، الذي لم ولن ينتج إرادة وطنية موحّدة، بقدر ما يُحوّل كل قضية سيادية، إلى موضوع نزاع داخلي موصول بالخلافات الموروثة حول هوية الكيان وموقعه ودوره. ما يعني أن التفاوض مرآةً للخلل البنيوي المتعلق بغياب دور الدولة، والنزاع المفتوح بشأنه بين اطراف الداخل. والنتيجة عدم القدرة على صياغة وانتاج القرار الوطني. وهذا ما يجعل قرار التفاوض من عدمه، بغض النظر عن صيغته، رهينة لموازين القوى الإقليمية والدولية، بدل أن يكون تعبيرًا عن مصلحة لبنانية مستقلة.
الإنحياز الأميركي
الوساطة الأميركية التي تُطرح مجددًا اليوم ليست سوى استكمال لمسار طويل من الانحياز. وغياب الثقة بالوسيط الأميركي لا يجعل أي مفاوضات مع اسرائيل محفوفة بالمخاطر وحسب، بل يجعل منه قوة تحكّم بالموقف اللبناني الذي يفتقر للدعم الداخلي الموحّد. لأن التفاوض في ظل غياب استراتيجية وطنية تحصنها وحدة داخلية، لا ينتج سوى اتفاقات مختلّة سرعان ما تتحوّل إلى أزمات جديدة.
الأولوية الوطنية الجامعة
إن المدخل الحقيقي لأي تفاوض يقي لبنان من المخاطر التي تهدده، لا يبدأ من شكل الطاولة أو طبيعة الوسيط، بل من ضرورة مبادرة رئيس الجمهورية والحكومة إلى بناء رؤية لبنانية موحّدة تجمع بين الواقعية السياسية وعناصر القوة الوطنية، بديلاً عن الاكتفاء بتلقي الضغوط وإدانة الاعتداءات الإسرائيلية، والمشاركة في السجالات العقيمة التي لا تنتج موقفاً أو قراراً وطنياً في مواجهة الاحتلال. وغاية المبادرة الحد من المضاعفات السلبية للضغوط، والتخفيف من وطأة الابتزاز الاقتصادي والاستفادة من الرعاية الأممية بدل الرهان على الدور الاميركي. والاهم العمل على توحيد الموقف الداخلي حول تعريف واضح للسيادة وحدود التنازلات الممكنة، على النحو الذي يحول دون تفجير البلد من الداخل.
إن لبنان يقف اليوم أمام استحقاقات تاريخية تتجاوز السياسة اليومية، إلى تحديات القدرة على التعامل مع منظومة الضغوط الخارجية، عبر صياغة قرار سيادي مستقل في مواجهة اسرائيل واطماعها وشروطها. ولأن معضلة التفاوض مع إسرائيل هي في جوهرها معضلة الدولة اللبنانية. ولأن الخيارات محكومة راهناً بمنطق إدارة الأزمة لا حلّها، فإن الحفاظ على الحد الأدنى من الكرامة الوطنية يتطلّب إعادة تعريف مفهوم الواقعية ليس بوصفها خضوعاً للأمر الواقع، بل بما هي القدرة على تحويل موازين القوى لخدمة المصلحة الوطنية من دون التفريط بالعناصر التي تحفظ حق لبنان في سيادته ووحدته.
