وسط كل الاحترام الواجب والإجلال للضحايا التي تسقط وللشهادة التي تبرز بين مقاتلين لبنانيين شجعان كما بين مواطنين مدنيين لبنانيين، ولنا بيوتٌ وأهلٌ مهددون دائما بالوضع المتفجِّر في جنوب لبنان، فإن مقاربة الوضع السياسي اللبناني الناشئ بعد حرب غزة تحتاج إلى ما هو أبعد من مجرد الشعارات أو “التحليلات” التي تبدو جزءاً من آلة سياسية إعلامية لا تريد أن تتيح الحق بالاختلاف في الرأي.
و مع أنني لا أحب هذا التعبير: “شركاء في الوطن” وهو التعبير الذي يستخدمه العديد من السياسيين والمهتمين بالشأن العام، فهو عدا عن ركاكته البلاغية، ركيك وطنيا ويختزن سهولة غير مريحة إذا لم أقل أنه ينم عن سيولة كلامية تفتقد التماسك، ليس فقط لأنها تذهب إلى المنحى التجاري في علاقات الشراكة، بل لأنّها أصلا تحتسب الشراكة التي تعني الحصص وتستجر المحاصصين وفي زمن سياسي يشهد انفراداً صريحا في إدارة فريق لبناني واحد للمصير الوطني ولو باسم قضية حيوية كبرى.
لكن مع ذلك سألجأ إلى هذا التعبير في لحظة أفترضها مغايرة لا مؤاتية:
تبلغ فكرة “الشراكة في الوطن” حالياً أدنى مستوياتها في البورصة التعبوية السياسية اللبنانية، إذا لم نقلْ… حتى ليكاد المضاربون في”الوطنية” يفرضون سعرا واحدا بل عمليا يغلقون السوق على سعر واحد هو التوتير مع كل احتمالاته الخطرة. لم يسأل المضاربون أحداً من “الشركاء” اللبنانيين حتى لم يسألوا الكثيرين جداً من “الشركاء” الشيعة… هل لأن “الوطنية” الفئوية التي يفرضونها تشبه شركة لمالك وحيد، والآخرون أجراء وليسوا حتى حَمَلة أسهم.
السؤال الحقيقي الذي أجاب عنه معظم اللبنانيين، وهو السؤال الأعمق، ليس هل ندعم الفلسطينيين، لأن هذا السؤال سخيف طرحاً ومضموناً، فنحن جميعا مع فلسطين الفكرة والمشروع والحاضر كما يريدها أبناؤها، وإن كنا نختلف مع الأصولية الإسلامية في مقاربتها العدمية، وليس من اغتصاب للمنطق أكثر من حصر فكرة تأييد القضية الفلسطينية بنمط وحيد هو استخدام السلاح، بينما هي، أي فكرة تأييد النضال الفلسطيني، تسبح في، وتتفاعل على، بحر من الممارسات المدنية والثقافية واللاعنفية وتمتد على العالم أجمع رغم سيطرة “اللوبيات الإسرائيلية” في الغرب، ولكنها سيطرة تقف عاجزة أمام مستويات من التعاطف العميق مع الفلسطينيين في النطاق المدني والثقافي وأحيانا السياسي.. السؤال: هل سألتم “شركاءكم في الوطن” ماذا يريدون أن يفعلوا في هذه المرحلة الخطرة قبل أن تتصرفوا وكأنكم وحدكم أصحاب البيت وبلا شركاء؟
ربما علينا وعليكم أن ننتبه قليلا إلى أن “الشريك” يتمادى في ما يجب أن نسمّيه “guest symptom” حين ينتقل المرء، دون أن يلاحظ ، من “مرتبة” الشريك الأصيل إلى “مرتبة” الضيف، فتتحول مقامرته إلى اللعب بكل أرصدة البيت دفعة واحدة وليس برصيده المشروط وحده. هنا وفي هذه “المنطقة” من اللاوعي الدفين، المقامرة قد تذهب بأهل البيت وبضيوفهم معا. نتحدث عن شركاء لا ضيوف. يعرف المضاربون أن الرهان يمكن أن يكون مقامرة، لكن الثمن هنا يتعلق بأوضاع جَماعية وبمصير قضايا وبلدان.
هناك نقاش دائم غني حول مفهوم الشراكة بين اللبنانيين. النظام الطائفي اللبناني يطلق أسماء طائفية على خيارات أيديولوجية أو يطلق اسماء أيديولوجية على خيارات طائفية. هذا يفاقم الحساسية ولكنه يقسمها حيث ينبغي أن تكون جامعة. المسألة الفلسطينية ليست مسألة آراء مختلفة بل جزء من هوية المنطقة. هويتنا جميعاً التي تشكّلت من قواسم مشتركة بين كل وطنيات المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، إنما اختلاف الرأي يتعلّق بأشكال الدعم في بلد كلبنان خرج من حرب أهلية متفقاً على أن الرأي السياسي جزء من السلم الأهلي، والخيار العسكري جزء من التلاعب بالسلم الأهلي.
يعرف الأخوة الفلسطينيون في لبنان، أيا يكن موقفنا من تجربتهم ومن حاضرهم، أن التوريط العسكري لا يحل مكان الدعم السياسي والثقافي لهم، وهذا شأن ليس المجتمع فقط بل الدولة اللبنانية العاقلة ولو كانت عاجزة. وأشدد على كلمة الثقافي المدني كخيار فعّال للبنانيي الداخل والخارج، ونعرف نحن لبنانيي الداخل أن الصوت الفلسطيني بات يدرك بعمق هذه المسألة، وهو اليوم ليس مسؤولا مباشرةً عن المخاطر بل يتحملها “بعض الشركاء”.
أشعر منذ زمن طويل أن وجهة الكلام تسقط في اللاصدى. (ما جدوى الكتابة إذن؟!) مفارقة الوضع اللبناني منذ سنوات أنه ملبنن عبر”شركاء في الوطن” ليسوا شركاء في القرار بمعنى انفراد مرجعيتهم غير اللبنانية فيه. مضى زمان طويل على اللاصدى كأن الذي يجري .. يجري بين ضفتي نقاش ليس نقاشاً بل هو صخب يعلو فيه صوت الجميع على الجميع.
هذه حالة لا توضع فيها كل كلمة بين هلالين فحسب بل يوضع بلد بكامله بين هلالين. منطقة فراغ بين مساحتين تُحوِّلها المخاطر العسكرية إلى مساحة سياسية.. ويبدو في النقاش – اللانقاش الحالي كأن “الشركاء” يتحدثون مع أنفسهم، وقد أصبح للفراغ تراث من الكلام كأنه بضاعة تخرج من الثلاجة.
لفت نظري هذه المرة في لبنان غلبة الصمت على الكلام رغم عدم خلو الساحة من المواقف في الصحافة والتعبيرات على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن بقعة الصمت أوسع ويتحسسها المراقب بأعصابه وسمعه. إنه دويُّ الصمت الأعلى، وهذه رسالة قنوط من الأسباب والنتائج وحتى المخاطر، يوجِّهها اللبنانيون لقدرهم كرحلة في التراجيديا اليونانية بين جزيرتين. وفي التراجيديا البحرية لا يعود الغياب هو الدراما بل الراية التي ترفعها السفينة العائدة، حزينةً أو منتصرة.
أختم بما ينبغي أن يكون ربما هو بداية المقال. فمن مآسي السجال حول موقع لبنان أن حُوْتَ الإقليم يأكله مرة أخرى، ويكاد الغريق أن لا يتنفّس وهو يصارع بين قضايا يخنقه حجمها الكبير، والمخلوقات التي تمتطي ظهورها وهو يقف حائرا كيف لعدالة صوته أن تصل فيما صوت التاريخ الأشمل يطغى… مرة أخرى بكل قرقعاته.
نحن الوطن الصغير الذي لا ينبغي كل مرة تنهال أمواج التاريخ الكبير علينا، وفلسطين في منطقتنا هي حقيقة التاريخ الكبير منذ العام 1948 ، أن يختل توازننا بل أن ننهار.
وتحية للبنان فكرةً ومعنىً جميلين ولفلسطين عروسا موشّحة بدم لا يكف عن التدفق. وتحية احترام وانحناء إلى أكثر من 70 شابا لبنانيا وضحايا مدنيين كانت لهم أحلامهم ومشاريعهم ومستقبلاتهم، سقطوا في جنوب لبنان في تكتيكات حربية كان يمكن عدم الدخول فيها، وتوفير دماء الضحايا ودعم الشعب الفلسطيني سلميا لا عسكريا ضمن إمكانات لبنان كما تفعل جمهورية مصر والمملكة الأردنية وسوريا وتركيا وكل العالم العربي والمسلم.
حذار التمادي في هذا التوريط الذي يرفضه معظم الشعب اللبناني. فكيف إذا ترافق مع تعابير ضد بعض المختلفين لا تنم عن قلة تهذيب فحسب ، ووحشنة وطنجية، بل أيضاً عن نقص مراس يكاد يبلغ حداثة النعمة في فهم العيش المشترك.
يبقى أخيرا: لو تركتم بيروت على حريتها ومزاجها في دعم فلسطين لكانت أنتجت أشكالاً و مظاهر ومضامين دعم ومشاركة خلاقة ومبدعة ومؤثرة داخل وخارج لبنان بدرجة عميقة وفعالة جدا.
ثقوا بلبنان الوطن الصغير الكبير أكثر.. أكثر.
* نشرت في جريدة النهار بتاريخ 21-11-2023
Leave a Comment