صحف وآراء

قصّة انتفاضة اللبنانيين ضدّ الطبقة الحاكمة… إخفاق وخيبات أمام قوى متجذّرة في السلطة!

ابراهيم حيدر*

سيمرّ كثير من الوقت، وربما عقود قبل أن يستفيق اللبنانيون على انتفاضة جديدة جامعة ضدّ الطبقة السياسية وأركان الحكم، الذين أخذوا البلاد إلى الهاوية. استعادة تلك اللحظة التاريخية لساحات الربيع اللبناني الناشئ، لم تعد ممكنة بعدما أُجهضت انتفاضتهم وتآكلت من داخلها. تعرضت الانتفاضة التي شكلت علامة مضيئة في تاريخ البلد، لشتى أشكال الضغوط، فمنذ اليوم الأول اتّخذ تحالف القوى المقرّرة في الحكم، قراراً بتطويق التظاهرات وإخماد الانتفاضة، ووأد الربيع اللبناني من الجنوب إلى الشمال وبيروت، ليس من طريق القمع المباشر، وإنما من خلال تمرّس قوى الأمر الواقع، وهيمنتها بأساليب مصادرة حقوق الناس، وتطويعها عبر استنفار الغرائز واستثارة العصبيات لدى جمهورها، لتفكيك الحراك الشعبي، ولكسر النبض اللبناني العابر للطوائف.

عاش ربيع الانتفاضة الذي جمع اللبنانيين من كلّ الطوائف والمذاهب، بعد 5 أيام من اشتعال التحرّكات التي كسرت الولاءات المطلقة في 17 تشرين الأول 2019 على مفترق طرق خطير. بدا أنّ شعار إسقاط النظام كان سابقاً لأوانه، فيما المطالبة بتشكيل حكومة مستقلة بعد استقالة سعد الحريري من خارج الاصطفافات تقود عملية الإصلاح، كانت أقرب لقسم غالب من المتظاهرين. حتى هذا الشعار لم يكن جامعاً بين الذين نزلوا إلى الساحات، إذ إنّ الجيل الجديد من تلامذة المدارس وطلاب الجامعات، كانوا يريدون إجراءات ملموسة تتعلق بقضاياهم في الدراسة والعمل والمعيشة، إلى إلغاء الضرائب وغيرها من المطالب المعيشية. وعلى هذا كانت الساحات بداية، عصية على الاستثمار السياسي، وواجهت محاولات تطييف التظاهرات ومذهبتها، حيث شهد الجنوب اللبناني المحطة الأبرز في الانتفاضة، إلى حدّ أنّ السلطة الحاكمة لم تدرك أن المشكلة الأولى والحقيقية فيها ليست في طرح أوراق إصلاحية، وإغداق وعود خبرها اللبنانيون طوال السنوات الماضية.

في الغرف المغلقة كانت تحضيرات السلطة تتمّ على قدم وساق لإخماد الانتفاضة. الحملات التي بدأت بتخوين المشاركين فيها، وارتهانهم لأجندات أجنبية لم تنجح، وكذلك خرق الحراك وإحداث انقسام فيه. استمرار الانتفاضة كان بالنسبة إلى السلطة يهدد مواقع قوى أساسية فيها، لذا شهدنا عمليات قمع في مناطق سيطرة طائفية وحزبية خصوصاً في الجنوب، ولكنها لم تمنع الناس من النزول الى الشارع. فكانت المعركة مكشوفة بين جمهور لبناني قرر الانتفاض على الفساد والتجويع والمحاصصة والضرائب، وبين السلطة وخططها لإنهاء الانتفاضة، خصوصاً وأنّ “حزب الله” أبلغ الجميع حينها بمنع إحداث أيّ تغيير سياسي في البنية السياسية للحكم، ومنع التعرّض لرئاسة ميشال عون، ولا بالتوجّه الى انتخابات نيابية جديدة كما طالب المتظاهرون.

صمدت انتفاضة اللبنانيين ضدّ السلطة والفساد لأسبوع كامل، لا بل أن ساحاتها استقطبت المزيد من الشبان والشابات، فلم تنفع محاولات إخمادها ولا وأد ربيعها، الذي كان عصياً على الوصاية والتجيير السياسي، وإن كانت قوى سياسية حاولت الانخراط في الحراك الشعبي لتحقيق مكاسب في التوازنات، لكنّها لم تتمكّن من حرف الانتفاضة عن أهدافها.

بدت تظاهرات الانتفاضة في أسبوعها الأول بعد 17 تشرين عصية على القوى السياسية، حتى القوى المدنية التي شاركت في الحراك لم تستطع جمع الناس حول خطاب موحّد، فأخذ البعض منهم، الحراك إلى مصرف لبنان، وهم أقلية لها أهداف محددة تتصل بأجندات سياسية، فيما الأكثرية الساحقة من المتظاهرين رفعت شعارات ضدّ السلطة كلها، لكنّها تختلفت بين من يريد إسقاط النظام، وبين المطالبين بإسقاط الحكومة كمرحلة أولى، تفتح الطريق على إصلاحات جدية في المشهد العام في البلد، إلى أن يحين الوقت لإسقاط أسلحة السلطة كلها، ومن بينها مجلس النواب، ثمّ إقرار قانون انتخابي عادل وإجراء انتخابات نيابية جديدة.

ما ميّز الانتفاضة في الساحات أن اللبنانيين نزلوا عفوياً ومن تلقاء أنفسهم وبلا دعوات مسبقة، وظهر ذلك في عفوية الشعارات في ساحات العاصمة بيروت وفي الجنوب في شكل رئيسي، إذ إنّ مجموعات الشبان والشابات أطلقوا هتافات مختلفة، وإن كان ظهر فيها الغضب ضدّ السلطة، وهذا كان يعني أنه من المبكر توحيد المطالب، أو ظهور قيادة موحدة للانتفاضة، طالما أنّها بدأت تحقق جزءاً من أهدافها. وبدا أنّ هذه الساحات تعبّر عن نفسها فتحولت مساحة للتعبير، وهذا الذي جعلها عصية على التوظيف السياسي أو الطائفي، الذي حاول الإمساك بالحراك وتجييره سياسياً لحساباته، وهذا أيضاً الذي أجهض محاولات السلطة وقواها في خرق المتظاهرين، فأخفقت في احتوائها بالرغم من استخدام أساليب متعددة، من بينها القمع ثمّ استنفار الغرائز والشوارع المقابلة.

لم يستطع جمهور السلطة أن ينزل الى الشارع لمواجهة انتفاضة الناس، فاستعاضت القوى الحاكمة بالحصار، ثمّ التخريب من بعض الأتباع، كما حصل في مناطق الجنوب تحديداً، وهي البيئة التي يعتبرها “حزب الله” خزّانه وساحته الداخلية التي قاتل إسرائيل من خلالها، لكنّه اكتشف أن الحراك بمداه كسر جزئياً الولاءات، فلم يتمكن من احتوائه، وإن كان سعى الى تفريق الناس، لكن رغم استمرار الانتفاضة من خارج الوصاية، ونزول الناس إلى الشارع بلا أجندات أو دعوات مسبقة، لم تستطع تشكيل أطر جامعة بقاسم مشترك، أولها شعار إسقاط الحكومة، بدل الذهاب إلى شعارات لا يستطيع الحراك تحمّلها، إذ إن إسقاط النظام يستدعي تراكم إنجازات للانتفاضة.

ملأت انتفاضة اللبنانيين الساحات والشوارع احتجاجاً على ما حلّ بهم، لكنها اليوم تجرجر أذيال الاخفاقات والخيبات بعد تفككها، وعدم القدرة على استقطاب فئات تشكل حاضنة شعبية لها جراء التفكك وفوضى الأهداف والشعارات، وزاد من مأزقها أن قوى حزبية دخلت إلى الانتفاضة والتحقت بالساحات أملاً في علاج أزماتها وتبرير وجودها، وساهمت في توظيفها، إلّا أنّ مأزق الانتفاضة كان في داخلها أوّلاً، حين تناسلت منها مئات المجموعات، وولدت من رحمها من دون أن يكون لديها بوصلة واضحة، تستطيع أن تجدّد الانتفاضة واستقطاب حركة شعبية حاضنة لها.

غابت عن الانتفاضة الفئات التي كانت تشكل في الماضي الحركة النقابية، من العمال إلى المعلمين وغيرهم، وهي حركات نقابية يفترض أنها متضررة من سياسات السلطة، فشكلت إحدى نقاط ضعفها. ثمّ وقعت مجموعاتها في فخّ استسهال التغيير، وارتفعت أوهام في أن قوى الانتفاضة قادرة سريعاً على إسقاط المنظومة الحاكمة، إلى حدّ أن التنافس ظهر بين قواها لتسلم السلطة، وهو ما يعبر عن قراءات قاصرة لإشكاليات البلد، وتركيبة نظامه السياسي القائم على المحاصصة الطائفية، ومصادر وقوته وتجذره في الحكم. ففي إمكان النظام دوماً ورغم الأزمات والانهيار أن يعوّم نفسه، ولا تسمح قواه بسقوطه أو استسلامه، وهذا ما كان واضحاً بهجومها المعاكس على ساحات الانتفاضة متسلحة بمواقعها الطائفية، ورسوخها في السلطة لحماية مواقعها واستمرار هيمنتها.

تحالف السلطة الحاكمة بالمحاصصة كان قوياً، إلى درجة منع قوى الانتفاضة من إحداث أيّ خرق في البيئات السياسية والطائفية المهيمنة، وهذه الانتفاضة العفوية لم تكن تملك القوى ولا الحركة الشعبية لمواجهة سلطة شرسة، فتحولت نتيجة الفوضى والتشرذم الى مجرّد تجمعات في الساحات يُرفع الصوت فيها ضدّ السلطة من دون تأثير كبير.

لكن انتفاضة اللبنانيين كتبت تاريخاً جديداً، رغم الاخفاقات والتفكّك، فهي فاقمت معضلات السلطة وقواها، من دون أن تستغل مجموعاتها هذه اللحظة التاريخية بتطوير أدائها، وقراءة الازمة وقياس الخسائر والأرباح، وجدوى الشعارات التي رفعتها، فتصاعدت أزماتها، وذهبت الانتفاضة إلى مسار آخر، وبعضها غرّد في خدمة السلطة. ولذا قطعت الطريق على إمكان انتفاضة جديدة لن تكون ممكنة لعقود.

*نشرت في الزميلة النهار في 17-10-2022

Leave a Comment