أمير مخّول*
إذا اعتمدنا توصيف “ساحة الاشتباك”، فإنّ هذه الحالة ليست جديدة، اذ تعود إلى بداية المشروع الصهيوني الأوروبيّ المنشأ، الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، والقائم على طرد شعبها، مدعوماً بتصريح بلفور. ويمكن عزو ذلك إلى معاهدة سايكس بيكو لهندسة المنطقة، وتقاسم نفوذها ما بين البلديْن الاستعمارييْن الأكبريْن في حينه بريطانيا وفرنسا، إلا أن الأطماع فيها سبقت هذه الأحداث. لم تكن فلسطين يوماً خارج حالة الاشتباك الذي فُرض عليها، وبات شعبها ضحيته المباشرة. بل وتواصلت طموحات المشروع الصهيوني بعد نكبة العام 1948 في السعي العملي إلى “تصحيح الخطأ التاريخي” المتمثل بإبقاء حوالي الـ 160 ألف فلسطيني ضمن حدود إسرائيل، وذلك بطردهم من البلاد وتطهيرها من كل وجود عربي. لقد أدركت المؤسسة الصهيونية ودولتها الناشئة مدى التحدي الذي يشكّله، بنظرة مستقبليّة، بقاءُ هذه المجموعة من الشعب الفلسطيني، حتى وإن كانت مهزومة، ولذلك أخضعاها إلى منظومة الغيتوهات والحكم العسكري والرقابة والضبط إلى حين يتسنى طردها. وقد أتي ذلك استكمالا للهدف الجوهري في منع عودة اللاجئين، سعياً لإنهاء قضية فلسطين.
لقد أعادت الثورة الفلسطينية ومسيرة التحرر الوطني بقيادة “م ت ف” في الستينيات والسبعينيات رسم قضية فلسطين وبقوة على خارطة العالم وفي جدول اعماله. بل إن معظم العمليات – وليس جميعها – كانت ساحتها خارج الوطن أو على حدود الوطن، ومهما بَعُدَ ميدانها، فقد كانت أعين الفدائيين والفدائيات على فلسطين ومن أجل فلسطين. في موازاة ذلك تحوّل نضال فلسطينيي الـ48 الذين بقوا في وطنهم من نضال من أجل البقاء، إلى نضال اشتباك، بدءاً من التصدي للحكم العسكري، مرورا بيوم الأرض 1976، والحركة الطلابية العربية الفلسطينية في الجامعات الإسرائيلية، وبالذات سنوات السبعين والثمانين، ومساحات الثقافة وأدب المقاومة الفلسطيني، وهبّة القدس والأقصى من العام 2000 وفي هبة الكرامة من العام 2021. خلال هذه المواجهات انتقل هذا الجزء من الشعب الفلسطيني من التمحور في وعي الهوية الفلسطينية وفي مواجهة مشاريع الأسرلة، إلى وعي القضيّة الفلسطينية وضمنها حماية الوجود في الوطن، ومن ضمن ذلك، ما شهدته مؤخراً المدن الفلسطينية الساحلية التاريخية، وما شهده النقب الذي يخضع لمخطط تطهير عرقي وغزو صهيوني للقضاء على الوجود العربي فيه، خدمة لعقيدة التهويد الصهيونية الراسخة، وخدمة لمشاريع استراتيجية مع دول “الاتفاقات الإبراهيمية” في مجال التجارة العالمية والتعاون الأمني.
في مقابل التصعيد العدواني الإسرائيلي المتعدد الأوجه والأذرع عليهم، هناك ثلاثة تحولات متنافرة يشهدها فلسطينيّو 1948 هي: تراجع دور الحركة السياسية ومشروعها الوطني السياسي الوحدوي. دخول حزب عربي فلسطيني الائتلاف الحاكم تعبيراً عن نخب وقطاعات باتت تقبل بهذا الاندماج المشوّه، الذي يعترض على مجمل المسيرة الكفاحية لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني، وبالذات فك الارتباط بين النضال الوطني الفلسطيني وتحصيل الحقوق. بينما التحول الثالث هو ما شهدناه في هبّة الكرامة ولا يزال، وله جذوره، من حراكات شعبية وحصرياً شبابية في غالبيتها في حالة قرار ذاتي، وترى نفسها في حالة اشتباك دائم، بل وتتبنى مقولة الاشتباك، ولا تنصاع للأحزاب والحركات السياسية، ولا لسقفها الجامع لجنة المتابعة العليا، وهي الهيئة الكيانية التمثيلية لفلسطينيي الـ48. هذا كله جار في سياق أوسع وهو قبول النظام العربي لإسرائيل طرفا فعالاً وحليفاً إقليمياً ممكناً.
إنَّ كَون المشروع الصهيوني قد نجح في التغلغل وكسْب حزب عربي فلسطيني في الائتلاف الحاكم، فهذا إنجاز له. وبانضمام الحركة الإسلامية الجنوبية – القائمة العربية الموحدة للائتلاف الصهيوني الحاكم إضعاف للحركة الوطنية، وإحداث شرخ جوهري ليس نتاج نزوة، بل نتاج مشروع سياسي بديل ونقيض لها. يعيدنا هذا التطور إلى خطاب الهوية التي شكّلت محوراً ضرورياً في سنوات التسعين والعقد الأول من القرن الحالي، بينما اليوم لم تعد الهوية المعلنة بحدّ ذاتها معياراً، بل تآكلت في هذا الصدد، فالقائمة العربية الموحدة، الشريكة في ائتلاف حكومة بينت الفاشية والعدائية لكل ما هو فلسطيني، تعتبر نفسها فلسطينية وعربية وإسلامية. بينما على النقيض منها على سبيل المثال، فإن الحركة الاسلامية الشمالية المحظورة إسرائيلياً تعتبر نفسها حركة عربية وفلسطينية وإسلامية، إلا أنها على النقيض من الموحدة ترفض المشاركة في انتخابات الكنيست، وهي صاحبة مشروع “الأقصى في خطر” والذي حظرته إسرائيل، وهي جزء عضوي من الحركة الوطنية في الداخل.
إن الصهيونية فكراً وممارسةً لا تقبل بعدم الاشتباك حتى مع الفلسطينيين الموالين لها، لأنّ مجرد وجودهم في وطنهم هو حالة اشتباك بالنسبة لها، في حين أنها كجهاز دولة تملك القوة والقدرة على الاستعاضة عن أدوات الاشتباك المكشوف، بالاشتباك الناعم أي بالضبط والرقابة وصنع السياسات التفتيتية للفلسطينيين. ولا تكتفي بذلك بل تذهب إلى استخدام آليات الردع العدوانية بعد أن اعتبرت بكل مؤسساتها السياسية والقضائية والأمنية والعسكرية أن فلسطينيي 48 هم جبهة دائمة الحضور في كل مواجهة، مع أية جهة فلسطينية شعبية كانت أم فصائلية أم كيانية سلطوية. كما أنها تسعى من خلال إتاحة اقتصاد السلاح والجريمة بين فلسطينيي 48 إلى تبديد الدور المتصاعد فلسطينياً والذي يلعبه هؤلاء، بينما الهدف هو تدمير مجمل المشروع الوطني الفلسطيني.
ليس من الدقة بمكان حصر مفهوم المواجهة في مستوى المظاهرات والمواجهات الميدانية رغم عظمة دورها، بينما نرى مثلاً أنّ مجمل تعاظم القوة السياسية الشعبية والبرلمانية والحقوقية لفلسطينيي 48 وتحدّيهم للدولة اليهودية، هو ما دفع بالدولة إلى تشريع قانون القومية، والذي تواصل سنين عديدة، وهو قانون أساس قد يبدو بالمفهوم الصهيوني حصناً منيعاً لإسرائيل في نظر ذاتها، إلا أنه لم يغيّر المعادلة ولا جوهر هذه الدولة، فإسرائيل هي فعلياً أكثر عنصرية واستعماريّةً من مجموع قوانينها بما فيها قانون القومية. بل إنّ هذا القانون قد عزز الخطاب الحقوقي لدى الفلسطينيين، وكشف جوهر إسرائيل الاستعماري الاستيطاني العنصري أكثر.
تظاهرة فلسطينيي الداخل رفضاً لجرائم الاحتلال في القدس
مسيرة “استقلالهم نكبتنا” السنوية في يوم “استقلال إسرائيل” والتي يشارك فيها الآلاف إلى إحدى البلدات المهجّرة نيابة عن كل فلسطين ولاجئيها، هي مسيرة تحمل رواية أهل البلاد الفلسطينيين والمتصارعة مع رواية المستعمر المستوطن، ليس فقط في المجاز، وإنما على أرض الوطن وحتى في الاتجاه المعاكس من ذات الشارع، حيث ترى في جهة إعلام فلسطين تتحدى إعلام الصهيونية الاحتفالية، وتضع المرآة أمام المجتمع الاسرائيلي.
ضمن ما ذكر آنفا عن وعي القضية، هناك جهوزية شعبية لافتة تجمع ما بين العفوي والمنظم، وسرعة التحرك والتواصل، ووعي دورها في مواجهة كل ما يحدث مع مركبات الشعب الفلسطيني الأخرى. سواء في مساندة صمود أهالي حي الشيخ جراح في القدس، أم في مساندة الأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال، أم في نفق الحرية الذي أكد أن المستحيل ليس مستحيلاً، أم في مناهضة العدوان على غزة، وفي مسيرات العودة والدفاع عن الوجود بكل أشكاله، بما فيها مخططات التهويد وهدم البيوت والجريمة المنظمة. كما تم تحويل مَلَكَة الجيل الشاب بالتحكم بوسائل الاتصال الاجتماعي، أم بالتنادي والتجند متعدد المواقع، كما أنها أتاحت المجال لخلق فلسطين متكاملة، ولالتئام شمل شعبها بأدوات افتراضية، تتيح له أن يتصرف كشعب وأن يلتقي في كل لحظة، وأن تجتمع قضيته.
لقد أنتجت النضالات الشعبية إنجازا استراتيجياً، وهو انتداب مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة في مايو/ أيار 2021 لجنة للتحقيق في الجرائم الإسرائيلية تشمل كل فلسطين بمن فيهم فلسطينيو 48. ثم تبع ذلك تقارير كبريات المنظمات الدولية لحقوق الإنسان التي تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، وجرائم فصل عنصري وحالة استعمارية. وقد أدركت إسرائيل أن المركّب الأكثر حساسية بالنسبة لها هو اعتراف هذه الجهات ضمنياً بأن فلسطينيي الـ48 هم جزء من القضية الفلسطينية، وفي هذا تحدٍّ لمفهوم السيادة الإسرائيلية الذي تعتبره ذخراً في معاييرها للأمن القومي. إنه نقيض اتفاقات أوسلو التي رسّخت تجزئة الشعب الفلسطيني واعتبرت فلسطينيي الـ48 خارج القضية.
إشكالية المراكمة الفلسطينية للإنجازات
تشهد الحالة الفلسطينية اليوم تعاظما للفجوة القائمة بين طموحات الشعب، وبالذات أحلام الأجيال الصاعدة، وبين قدرات وإرادات وآفاق عمل الحركة السياسية الفصائلية والحزبية على السواء. إنها حالة تعوّق تراكم الإنجازات، بل أشبه بمعادلة ملء برميل من دون قاع بالماء. فالأمر ممكن نظرياً، لكنه يحتاج إلى مجهود مضاعف عدة مرات، وسكب الماء بقوة وبوتيرة أسرع من قدرة التبذير في القاع. هذا هو فائض الثمن الذي يدفعه الشعب الفلسطيني، وعليه فإن غياب المشروع التحرري الفلسطيني يشكل العائق الأكبر أمام مراكمة الإنجازات، ويؤدي بالشعب إلى دفع ثمن أكبر، ليس ثمناً سياسياً فحسب، بل من أرواح خيرة أبنائه وبناته ومن آفاق تطوره.
ليس الفلسطينيون في حالة صراع متكافئ مع إسرائيل، لكن الشعوب لا تسير فقط حسب توازنات القوى ولا حسب قواعد لعبة المستعمر. بل إن اصرارها على الحق هو قوة ،وإرادتها إن توافّرت هي قوة هائلة. الشعب الفلسطيني ينتج روح الاشتباك والمقاومة الشعبية التحررية، إلا أن منظومة المراكمة لا تقوم بالاستفادة من روح الشعب. لذلك فالأولوية بنظري هي تعزيز قوة الشعب الداخلية على أساس إعادة الاعتبار لمشروعه الوطني التحرري وثوابته التاريخية، وهذا ما تُنتِج ملامحَه الحراكاتُ الشعبية، إلا أنها غير قادرة بمفردها على إنتاج مشروع سياسي وليست مطالبة بذلك.
لا بد من أن يقوم الفلسطينيون بإعادة الاعتبار لمشروع التحرر الوطني القائم على الثوابت التاريخية بما هي العودة والتحرير وتقرير المصير. هذا ممكن فقط إذا اجتمعت كل مركبات الشعب الفلسطيني وتقاسمت المهام، وإذا تمّ الاستناد إلى كل مواطن قوة الشعب بكلّ مركّباته في الوطن والشتات، وكلّ بأدواته حسب وضعيّته. لذلك تتعدد المبادرات بهذا الصدد وفي هذا التعدد قوة من ناحية، وفيه تشتيت أيضا للجهود من جهة ثانية. ولا بد من تجميعها في إطار فلسطيني جامع يتيح المجال لكل القوى والشرائح والاجتهادات المعنية بالانعتاق في مجرى المسيرة الكفاحية، وبشكل يقوم على تجميع مركبات الشعب الفلسطيني دونما أي استثناء، وضمن ذلك فلسطينيو 48، في وضع التصورات المستقبلية، وقبلها الخروج من حالة الإخفاق السياسي الحالية، كل ذلك في مواجهة سياسات التفتيت والتجزئة، ونحو إعادة بناء المشروع التحرري. ففي تكامل الدور الفلسطيني نقلة هامة في التصدي للمشروع الصهيوني التجزيئي.
إن الدور المتصاعد لفلسطينيي 48 مهدَّد إذا لم تتدارك الحركة السياسية الوطنية والقوى الشعبية الكفاحية، خصوصاً اذا لم تستطع هذه الحركة أن تعيد الروح إلى المؤسسات الجامعة كي تشكل مساحة لكل الاجتهادات وعلى تعدديتها.
*نشرت في ملحق فلسطين الصادر عن ” العربي الجديد في 30 نيسان | ابريل 2022 . وقد طرأ تعديل على العنوان الأصلي للمقال من محرر موقع ” بيروت الحرية” .
Leave a Comment