سياسة صحف وآراء

 سيرة “مسيحية سياسية” تتكرر

أيمن جزيني*

بين ميشال عون وسمير جعجع وسامي الجميّل تباينٌ قليل. رئيس الجمهورية قلق على الأقليّات التي يزخر بها الشرق وتشكّل جوهر تنوّعه. وقلق الحكيم أيضاً يصبّ في المصبّ نفسه. سامي الجميّل يسابق الاثنين في هواجسهما. كلّ منهم يترجم قلقه في السياسة بموقف يختلف عن موقف الآخر قليلاً أو كثيراً. المهمّ ألّا يحضر اتفاق الطائف في أدبيّاتهم السياسية. على نحو أوسع، هم مهجوسون من الكتلة السنّيّة السياسية ـ الاجتماعية. هذا يقوله الانكفاء عن تسمية رئيس حكومة. حتماً، فإنّ نجيب ميقاتي ليس الشخص الذي يُدافَع عنه. أقلّه لم يحُز شرعية انتخابية. من هذا المدخل يمكن التشكيك فيه، إلى قضايا أخرى كثيرة في سيرة الرجل السياسية.

لنذهب أبعد من هذا الثلاثي. ثمّة أصوات “مسيحية سياسية” عالية النفير تصرخ بأقوى ما عندها مطالبةً بـ “الفيدرالية”، ذلك أنّ “العيش المشترك” غير ممكن مع المسلمين. بُحّت حناجرهم وهم يُظهرون نزعات انفصالية. ما زالوا ينشدون ماضي الجمهورية الأولى و”هستيريا الصلاحيّات”. أكثر من ذلك، يريدون العودة إلى “زمن الطائفة المُميّزة”. لا يُرضيهم ما قدّمه اتفاق الطائف من ثلاثيّة ضامنة: نهائيّة الكيان، عروبته، والعيش المشترك. هذه لا تقنعهم.لا يُناقش هؤلاء في التاريخ. هؤلاء يعرفون العزف على نغمة واحدة وحيدة. أمّا الثلاثي فحدّث ولا حرج عن رحابة صدورهم السياسية. المناقشة إنّما تتمّ مع مَن يبدي استعداداً للتفهّم والتفاهم على أنّ التعنّت الطائفي والاستئثار بالسلطة إنّما كانا يطيحان بالبلد.

بمعنى أدقّ، حالف “التيار الوطني الحر” “حزب الله” في مواجهة “الاعتدال السُنّيّ”. يفيد تبرير التيار أنّ الطائفة السنّيّة هي طائفة الأكثرية في المنطقة، وأنّ حضورها في البلد سيُجلس الأقلّيات كلّها، بما فيها الطائفة الشيعية المسلّحة، في مقاعد الدرجة الثانية. لذلك يتحدّد مستقبل مسيحيّي لبنان بناء على هذه المعركة. فإمّا تُهزم “طائفة الأمّة والدولة” في لبنان، ويبقى المسيحيون والأقلّيات الأخرى في سدّة السلطة والحكم، وإمّا تنتصر طائفة الأمّة ويقبع الجميع في المقاعد الخلفيّة.

حزب “القوات اللبنانية” بدوره تمنّع عن تسمية “سُنّيّ” للرئاسة الثالثة، علماً أنّ ما أعطوه إيّاه السُنّة منذ إقرار العفو العامّ عن رئيسه حتى دخوله طرابلس مدينة الرئيس رشيد كرامي لا يأخذه من أحد. والأرجح أنّ انكفاءه لن يكون بلا أثمان سياسية.

ولا يتأخّر “حزب الكتائب” عن الاثنين، فهو يكابد في أدبيّاته السياسية كي لا ترِد عبارة “اتفاق الطائف” في وثيقة له عليها توقيع. هذا حصل في “حراك 17 تشرين”، وكذلك في توليد ما سُمِيّ “أطر سيادية”.

هذا في قريب التاريخ. أمّا بعيده، فمأساة. فـ”الثلاثيّ” هذا، على تباين طفيف، لا يشكّل حالة خاصّة أو ظاهرة في التعاطي مع فكرة لبنان ومكوّناته. هو استئناف أو إعادة تجديد وتأهيل لفكرة قديمة تتجدّد عند المسيحيّين بحضرة الأزمات الكبرى. فمع انهيار الإمبراطورية العثمانية وبداية الانتدابين الفرنسي والبريطاني على المنطقة، انقسم المسيحيون في لبنان إلى فريقين: فريق طالب بلبنان وطناً قوميّاً مثّلته “الكتلة الوطنية” مع إميل إدّه. والآخر كان تقدّميّاً ومثّلته الكنيسة مع البطريرك إلياس الحويك الذي طالب فرنسا بإحلال “الوطنيّة السياسية بدلاً من الوطنية الدينية”.

لبنان الكبير برأيهم لا يكون إلا من خلال بقاء الانتداب الفرنسي. إذاً ربطوا ضمانة لبنان الكبير ببقاء الانتداب الفرنسي لأنّ غالبيّة المسيحيّين كانت مع لبنان وطناً قوميّاً مسيحيّاً، فيما غالبيّة المسلمين كانت مع لبنان كجزء من سوريا. وبالتالي فإنّ الغالبيّتين لم تشكّلا ضمانة لهذه الفكرة الاستثنائية.

في العام 1943 عندما خرج رَجُلا الاستقلال بشارة الخوري ورياض الصلح بفكرة لبنان فقد فعلا ذلك بضمانة العيش المشترك، وبضمانة الوفاق الوطني في لبنان. كانا يعلنان عمليّاً رفض ضمانة الانتداب الفرنسي. الرجلان شكّلا استثناءً. بشارة الخوري يمثّل أقليّة مسيحية. فغالبيّة المسيحيين رفضت في حينه ضمانة العيش المشترك، ولحقت بأفكار إميل إدّه عن “الطائفة المميّزة”، ناهيك عن طلبه من المسلمين الذين يرفضون العيش في ظلال “المسيحية السياسية” بالذهاب إلى مكّة..

كان رياض الصلح أيضاً أقليّة في الوسط السنّيّ وبالوسط الإسلامي العريض الذي كان يطالب بأن يكون لبنان جزءاً من سوريا. وهذا ما دفع جورج نقّاش عام 1947 إلى القول “سلبيّتان لا تصنعان وطناً” (deux négations ne font pas une nation).

عمليّاً كان نقّاش يقول: نعرف ما الذي لا يريده بشارة الخوري والمسيحيون الذين معه، فهم لا يريدون أن يكون لبنان جزءاً من سوريا. ونعرف ما الذي لا يريده رياض الصلح، فهو لا يريد بقاء الانتداب الفرنسي، لكن لا نعرف ما يريده بشارة الخوري ورياض الصلح معاً، بمعنى أنّ ضمانتَيْ العيش المشترك والميثاق الوطني كانتا ناقصتين. هكذا كان العيش السياسي للّبنانيين قائماً على التقابل في المعادلات منذ العام 1943 حتى العام 1975.

“المسيحية السياسية” في حينه كانت ترفض الشراكة مع المسلمين، وتعتقد بأنّ هذه الشراكة ليست ضمانة كافية لبقاء لبنان الكبير، وكانت ظروف المنطقة ماضياً تعطي أسباباً: مرّة بميل المسلمين باتجاه عبد الناصر، ومرّة بميلهم باتجاه “المقاومة الفلسطينية”. هذه المواقف كان يستفيد منها فريق عريض من المسيحيين لينادي بعدم وجود ضمانات تكفي إلّا بـ “تسيُّد” دستوري ـ اقتصادي.

بالمقابل فإنّ المسيحيّين الذين كانوا بالحكم لم يتفهّموا مطالب المسلمين. رفضوا كلّ المطالب الإصلاحية، حتى من كمال جنبلاط الآتي من العام 1860 وسرديّته. كان ردّ المسيحية السياسية على الدوام بالرفض واعتبار “لبنانيّة المسلمين منقوصة” وبحاجة إلى برهنة.

كان الردّ الإسلامي أسوأ، فذهب إلى الطعن بـ “عروبة المسيحيّين” واعتبار هؤلاء “غربيّين” ثقافةً وأسلوبَ عيش. نجح المسلمون في تثبيت موقفهم السياسي عند العرب من طريق التدليل على أنّ “هذا التنوّع اللبناني” الذي يمثّله المسيحيون هو عبارة عن احتكار الوكالات والمصارف والمستشفيات، وعلاقة مع الفاتيكان والغرب، وعليه فهو “سفارة للاستعمار” على أرض عربية.

لم ينقسم اللبنانيون فقط حول قضيّة فلسطين. انقسموا حول القضايا الجوهرية في البلد في الـ20 والـ43 والـ58 وفي كلّ المراحل. بدأ الكلام عن إصلاحات دستورية في بداية الـ75 والـ76، والرفض الحاسم كان من قبل المسيحيّين. في عام 1982 أتت مرحلة بشير الجميّل الذي كان يقول من خلال إخراج أبي عمّار من لبنان إنّه لا إصلاحات والقديم على قدمِهِ.

اتّفاق الطائف في العام 1989 عندما فُرضت الإصلاحات الدستورية نتيجة ظروف المنطقة من خلال وثيقة الوفاق الوطني، عاشت “المسيحية السياسية” في لبنان والمنافي الطوعيّة وثيقة الوفاق الوطني على أنّها أنزلتها درجة في النظام، بينما أعطت المسلمين درجة إضافية. ما زاد من وطأة هذه الوجهة دخول الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى السلطة بعد العام 1992 وتشكيله علامة فارقة في الأداء السياسي، إذ افتتح صفحة جديدة في العلاقات مع فرنسا، وصفحة جديدة في العلاقات العربية والإسلامية مع الفاتيكان. وهذا يضاف إلى صفحة جديدة في العلاقات العربية والإسلامية مع الولايات المتحدة.

عزّز هذا الواقع الجنوح المسيحي وشكّل قناعة مفادها أنّ المسلمين ينقسمون إلى اثنين: سُنّي يملك المال والسياسة الخارجية وقاعدته السعودية بما هي أرض الحرمين، وشيعيّ مسلّح حتى الأسنان وجذره في إيران الإسلامية. عليه، فإنّ “التيار المسيحي” الذي دافع عن الشراكة والعيش المشترك في العام 1943، وثبّت العروبة في العام 1958 مع عبد الناصر من خلال خيمة فؤاد شهاب – عبد الناصر ، ثمّ عاد ودافع عن عروبة لبنان في اتفاق الطائف والإصلاحات الدستورية.

الإطار الذي كان بعد الطائف أصبح اليوم ضعيفاً جدّاً، خاصة بعد عودة سمير جعجع وميشال عون عام 2005. الرجلان أطبقا على “الجوّ المسيحي” وذهبا باتّجاه التنظير عبر شكلين من الممارسة أزعجا المسلمين:

ـ الأوّل مثّله عون حليف حزب الله وتولّى “شيطنة” السُنّة معتبراً إيّاهم نوعين: من يتأنّق منهم فاسد، أمّا من يرخي لحيته فهو “إرهاب”.

ـ الثاني عبّر عنه “القوات” و”الكتائب”، وبدل أن يتمسّكا بالشراكة والعيش المشترك كانا ينأيان بذاتهما كلٌّ على طريقته، لكن بمضمون سياسي واحد. ففي كلّ مرّة يقع اشتباك سياسي سُنّي ـ شيعي كانا يريان أنّها حرب مسلمين مع مسلمين.

هذا الانسحاب من جهة والتواطؤ من جهة أخرى جعلا المسيحيّين اليوم غير قادرين على التفاعل الوطني مع أيّ فريق من اللبنانيين. والأرجح أنّهم سيعيشون عزلة في الانتخابات الرئاسية المُزمعة، أو سيحلّ في بعبدا رئيس من طينة هم لا يريدونها، لكنّ ذلك سببه الانشداد إلى الماضي واعتبار أنّ لبنان لهم، فيما دعاهم البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير إلى أن يكونوا من أجل لبنان.

*نشرت على موقع أساس في 16 آب/ أغسطس 2022                    

Leave a Comment