*عمر قدور
في الظاهر أتت كلمة ماكرون، الموجَّهة إلى اللبنانيين مساء الخميس، كأنها مجرد استئناف لدور فرنسا “الفلكلوري” في لبنان، استئناف لدور “الأم الحنون” التي تهرع لمواساة ابنها حتى عندما لا تستطيع مساعدته حقاً. أما اتصال ماكرون في اليوم ذاته بنتنياهو، وبميقاتي وبرّي وقائد الجيش جوزيف عون، فهو يشير إلى ما هو أبعد من دور المواساة. إذ يطرح ماكرون نفسه فاعلاً على خط التهدئة، بل يطرح نفسه وسيطاً حيث فشل الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين قبل أيام قليلة.
قد تذكّر بادرة ماكرون بما فعله إثر انفجار مرفأ بيروت، وهذا ليس بالفأل الجيد عطفاً على فشله وقتذاك. أما راهناً، فهو يقرأ من كتاب عجز إدارة بايدن، ليطرح وساطته كبديل لا يخرج عن إرادة البيت الأبيض. فمن المفهوم له أن إدارة بايدن مكبَّلة الآن بالاستحقاق الانتخابي الذي ستظهر نتائجه بعد سبعة أسابيع، وهي لا تستطيع خلالها ممارسة ضغوط على نتنياهو المتحفّز أصلاً لاستغلال هذا التوقيت الحرج.
اليوم، تُحسب سياسات البيت الأبيض على نائبة الرئيس كامالا هاريس أكثر مما تُحسب على الرئيس بايدن، وسيستغل منافسها في انتخابات الرئاسة “ترامب” أي ضغط من واشنطن على تل أبيب كي يصوّره بمثابة تخلٍّ عن إسرائيل، بل مساهمة أميركية في دمارها. وهو، للتذكير، حذّر في المناظرة التلفزيونية التي جمعته بهاريس من أن وصولها إلى البيت الأبيض سيعني دمار إسرائيل، ولم يتوقّف بعدها عن محاولة التكسّب من هذه المخاوف التي تجد لها صدى لا في أوساط الناخبين اليهود فحسب، وإنما أيضاً في أوساط واسعة مؤيدة لإسرائيل تقليدياً أو بسبب معتقدات دينية؛ أتباع الطائفة الإنجيلية على سبيل المثال.
لقد تحاشى ترامب حتى خوض مناظرة تلفزيونية ثانية لإدراكه أن أي خطأ قد يكون له مفعول خسارة الانتخابات، وهذا ما تعرفه بالتأكيد هاريس ومن خلفها البيت الأبيض الداعم لها. ففي حين تتقدم بما يقارب من خمس نقاط على الصعيد الوطني فإن النسب متقاربة جداً بينها وبين ترامب في سبع ولايات متأرجحة تقليدياً، وتشير بعض الاستطلاعات إلى تقدّمه عليها في أربع ولايات من أصل سبعة. الأهم أن ترامب وهاريس يتقاسمان الولايات السبع بنسب شديدة التقارب، والأحرى أنها ضمن ما يُحتسب كهامش للخطأ، ما يجعل المعركة شديدة الحساسية وأية “زلة” لأيّ منهما قد تكون القاصمة.
تغيرت موازين القوى بين تل أبيب وواشنطن كثيراً عمّا كانت عليه قبل شهور، تحديداً في قدرة بايدن على “إقناع” نتنياهو بممارسة الضغوط عليه. من أهم أدوات الضغط كان وجود بيني غانتس وغادي آيزنكوت في حكومة الطوارئ الإسرائيلية، وتهديدهما بمغادرتها الذي كان يُنذر بإسقاطها، وقد استطاع نتنياهو النجاة من سيناريو إسقاطه مع مغادرة غانتس وآيزنكوت المركب في حزيران الماضي، ولم يبقَ من الأصوات الناقدة على “يساره” سوى وزير الدفاع يوآف غالانت.
في الأيام الأخيرة صار شائعاً أيضاً أن نتنياهو سيقيل وزير دفاعه، بدل أن يهدد الأخير بالاستقالة، والأخبار الأخيرة تنص على أن نتنياهو سيضمّ إلى حكومته جدعون ساعر وزيراً للدفاع. ساعر هو رئيس حزب “اليمين الوطني”، وكان قد انشقّ عن الليكود، ومن المحتمل أن يؤدي انضمامه للحكومة إلى عودته لاحقاً إلى صفوف الليكود. ويتوقّع لانضمام ساعر أن يقوّي الحكومة الحالية بتوسيع قاعدتها البرلمانية، لكن تصدّر نتنياهو الحياة السياسية لم يعد يتوقف على الأغلبية البرلمانية البسيطة، فهو عاد في استطلاعات الرأي الأخيرة إلى صدارة الشخصيات المفضَّلة لدى الإسرائيليين في منصب رئاسة الحكومة.
كل المعطيات المتوفرة تشير إلى أن نتنياهو، وائتلافه الحكومي المتطرف، هما الآن في أفضل حال. حتى مظاهرات أهالي المختطفين لدى حركة حماس لم تستقطب على نحو ملحوظ مؤيدين جدداً، خصوصاً بعد مقتل ستة مختطفين قبل استعادة جثثهم. وإدراكاً منه لقوته حالياً، لم يعد نتنياهو يشعر بالحرج أمام أهالي المخطوفين، وهو يعرقل الاقتراحات الأميركية المتعلقة بوقف إطلاق النار، والتي لا تتوافق مع رغبته في الاستمرار بالحرب على غزة إلى أجل غير مسمّى.
أيضاً، على صعيد استطلاعات الرأي، تريد غالبية الإسرائيليين شنّ هجوم استباقي على حزب الله، وهذه الغالبية متحققة منذ شهور، ولم تنخفض نسبة مؤيدي الحرب بعد استهداف الحزب بتفجير الأجهزة اللاسلكية والتصعيد اللاحق عليه. من بين هؤلاء، ثمة ما يقارب المئة ألف كانوا قد وُعِدوا بالعودة إلى مساكنهم في الشمال مع حلول فصل الخريف، سواء باتفاق سياسي يضمن هدوء الجبهة نهائياً، أو بعمل عسكري يبعد تهديد حزب الله إلى ما بعد نهر الليطاني. توالي المسؤولين على التلويح بالخريف كموعد للحسم في الشمال ربما لم يكن بدوره بعيداً عن موعد الانتخابات الأميركية، بوصفه تقليدياً التوقيت الذي يحابي فيه مرشّحو الرئاسة إسرائيل أكثر من الأوقات الاعتيادية.
من المؤشّرات التي يُستحسن الانتباه إليها عدم صدور رد فعل أميركي يوازي خطورة أحداث الأيام الأخيرة، ولو كان ردّ فعل تقليدي من قبيل دعوة جادة إلى التهدئة، فالإعراب عن القلق مما يحدث لا يرقى إلى منزلة ردّ فعل أميركي جادّ. ومن المرجّح أن يكون هوكشتاين قد سمع من نتنياهو ما يعكس نواياه عشية التصعيد، ورغم ذلك لم تتحرك الدبلوماسية لإحباطه أو لتفادي أقسى السيناريوهات المتوقعة. وإذا كانت إدارة بايدن تفضّل الاتفاق على وقف إطلاق للنار في غزة، يؤدي إلى نزع فتيل الحرب شمالاً، فإنها كما يبدو أقلّ رغبة “أو قدرة” على المضي بذلك، ولا يُستبعد أن يكون هذا في مقدمة دوافع ماكرون وهو يُبرز نفسه كوسيط محتمل.
ردّاً على الخطر الماثل، لم يهدّد زعيم حزب الله في خطابه يوم الخميس بعشرات آلاف الصواريخ التي كرر التهديد بها من قبل، بل رحّب على سبيل التحدي باحتلال إسرائيل شريطاً في الجنوب اللبناني، كنايةً عن ترحيبه بحرب استنزاف طويلة. يدرك نصرالله أن استخدامه ترسانة الصواريخ الثقيلة سيُترجَم بالسيناريو القياميّ الذي يتحاشاه، وسبق لإسرائيل أن اختبرت كلفة البقاء في شريط حدودي، ومن غير المرجّح أن تحاول تكرار تجاربها السابقة. الأسابيع الإسرائيلية السبعة المقبلة ستبقى بين هذين الحدين، مع دأب إسرائيلي على تجاوز كل ما كان يُدعى بقواعد الاشتباك.
سيكون من الخفة الاقتناع بسيناريو تصعيد متدحرج، وغير متعمّد في آن، وهو ما طُرِح أولاً مع تسريب فرضية مسارعة تل أبيب إلى تفجير شحنة أجهزة اللاسلكي قبل ساعات من انكشافها. فالتصعيد اللاحق من جانب تل أبيب يضع التفجير في موقعه كشرارة تبدأ بها الحرب. تفادي الحرب سيقع على عاتق الحزب غير الراغب فيها، إلا أن الضغط الإسرائيلي المتوقع خلال الأسابيع المقبلة سيصعّب عليه ذلك إلى حدٍّ أثقل مما تطيق قياداته.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم السبت 2024/09/21
Leave a Comment