حادثه: زهير هواري
بيروت 1 حزيران 2023 ـ بيروت الحرية
صدر في شهر نيسان الفائت عن دار الرماتان الفرنسية للدكتور سامي دورليان، الأستاذ المحاضر في جامعة السوربون، كتاب “محسن إبراهيم من خلال كتاباته ـ الأعمال المجهولة لقائد يساري لبناني”. وفي كلمة الناشر على الغلاف الخارجي نقرأ أن محسن ابراهيم ظلَّ أميناً عاماً لمنظمة العمل الشيوعي ما يقرب من الـ 50 عاماً، وهو المتحّدر من حركة القوميّين العرب، وبالتالي كان لديه أذن عبد الناصر، ثم كان العقل المدبّر للاحزاب والحركات اليسارية خلال الحرب. وقد حظي بتقدير كبير من قبل زعيم الحركة الوطنية كمال جنبلاط، وقائد منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح ياسر عرفات
كما أنه من المساهمين الرئيسيين في شكل من أشكال اشتراكية ما بعد الماركسية، يقدِّم هذا الزعيم السياسي، الذي توفي في يونيو 2020، من خلال مسيرته، وقبل كل شيء، من خلال عمله المكتوب حيث تتوافر زاوية فريدة لإعادة قراءة تاريخ اليسار اللبناني، وجزئيّا،ً تاريخ اليسار العربي. لكن المؤسف أنه غير معروف في مجال دراسات الشرق الأوسط في فرنسا …
والكتاب الذي يقارب عدد صفحاته المائة صفحة، يستهدف سدّ فجوة في الابحاث باللغتين الفرنسية والانكليزية المتعلقة بإبراهيم. ومع أن المؤلف يتناول سيرته باقتضاب منذ ولادته في أنصار ودراسته في صيدا وانتسابه إلى حركة القوميين، ثم مساهماته في تغيير مسارها يساراً، الا أنه يركز جهده على تحولات المنطقة بالعلاقة مع ما شهدته مصر على يد الرئيس جمال عبد الناصر، ثم انطلاقة المقاومة الفلسطينية ومضاعفاتها على صعيد القضية الفلسطينية والدول العربية، وقيام اليسار اللبناني والعربي والحركة الوطنية اللبنانية. ويستعرض الرحلة التي قطعها محسن ابراهيم من القومية العربية إلى الماركسية اللينينية، وممارسته النقد الذاتي في كل مرحلة تتويجاً بكتابه “في الاشتراكية”، عبر التخلي عن الفلسفة الماركسية لصالح اشتراكية يراها “حمالة ّأوجه”. ويتوقف المؤلف ملياً عند النقد والنقد الذاتي خلال الحرب الاهلية في لبنان، باعتبار ابراهيم كان بمثابة العقل المدبر للحركة الوطنية. ويعرض للتطورات التي عرفتها بوضع الحركة الوطنية البرنامج المرحلي للاصلاح السياسي الانتقالي صيف العام 1975، والهادف إلى إلغاء الطائفية السياسية في النظام السياسي اللبناني، والإشكاليات التي حملها، واغتيال قائد هذه الحركة كمال جنبلاط، وتنكب ابراهيم مسؤوليات الأمانة العامة التنفيذية فيها، مروراً بكتاب “الحرب وتجربة الحركة الوطنية اللبنانية”، تتويجاً بالخطاب الذي ألقاه في قاعة الاونيسكو في ذكرى مرور أربعين يوماً على اغتيال رفيقه أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي، وما حمله من نقد مزدوج لسياسات الحركة الوطنية اللبنانية إزاء مفصل الحرب واستسهال خوضها بهدف تغيير النظام، وبالعلاقة التي نسجتها مع المقاومة الفلسطينية لجهة سماحها باستباحة البلد لسلاحها. ويعّرج على اتفاق الطائف الذي وافق عليه ابراهيم مع ادراكه أنه لا يمثل قطيعة مع النظام الطائفي، بل أنه تعديل مؤسسي وإعادة توازن بين السلطات الدستورية أكثر من كونه قطيعة حقيقية مع النظام القائم…
بالطبع يتناول المؤلف رحلة “اليسار الجديد” ممثلاً بمنظمة الاشتراكيين اللبنانيين، ثم منظمة العمل الشيوعي، ونطاق وحدود التحدي الذي طرحته على كل من الحزبين التقدمي الاشتراكي والشيوعي اللبناني، وما عبرت عنه مؤتمراتها الثلاثة الأخيرة وكيف صاغ المؤتمر الخامس ـ الاخير، الاسم و المشروع والرؤيا انطلاقاً من النقد الذي أرساه محسن ابراهيم .
ما نشير إليه ليس عرضاً للكتاب، بل إشارة إلى بعض الموضوعات التي تتجاوز المحلي، اللبناني وصولاً إلى الفلسطيني والعربي بطبيعة الحال ومنه إلى الدولي، ليس على مستوى الاوضاع السياسية، بل على صعيد الطروحات الفكرية. ومن أجل إلقاء المزيد من الأضواء على الكتاب وعمل المؤلف لمناسبة الذكرى الثالثة لرحيل محسن ابراهيم ، كان لموقع “بيروت الحرية” الالكتروني لقاءً حوارياً مع المؤلف سامي دورليان، أعيد صياغته دون أسئلة وأجوبة حول عمله، والدوافع التي أملت عليه كتابته، على أن يتبع لاحقاً عرض مفصل ونقاش حول الكتاب، وهنا أبرز ما قاله المؤلف سامي دوروليان :
بدأتُ الاهتمام منذ ملاحظتي أن ما نشر عن محسن ابراهيم لمناسبة وفاته هو عبارة عن مقالات سريعة، معظمها يمكن أن يوصف بأنه شهادات كتبت على عجل. أي أن ما قرأته لا يرقى إلى مستوى الدراسة أو المقاربة الاكاديمية. عندها قلت لماذا لا أبادر إلى كتابة تتجاوز ما هو منشور. والحقيقة أنني منذ عشر سنوات لاحظت أن ما كُتب عنه هو مجرد القليل القليل من مقاربات سريعة لا تعطي الرجل حقه. أكثر من ذلك لم أجد في مواقع تتحدث عن اليسار العربي ما يذكر عنه. كما أن الذين كتبوا العديد من المقالات عن حركات اليسار العربي تناولوا كتابات وضاح شرارة وياسين الحافظ وغيرهما ولم يشيروا إليه. على سبيل المثال، في كتاب صدر مؤخراً تحت إشراف ليلى سورا وجيهان صفير يجمع ترجمات لكتابات الفكر السياسي العربي في القرن العشرين، وتحديداً “مركسة” حركة القوميين العرب في الفصول التي تتناولها في أواخر الستينيات، لم يتم اختيار أي نص من نصوص محسن ابراهيم. وهو ما أشرت إليه في مقدمة كتابي.
الأمر نفسه ينطبق على الكتب التي أخذت على عاتقها تجديد تأريخ حرب لبنان. فكتاب ديما دوكليرك وستيفان مالسان الذي صدر قبل ثلاث سنوات لا يذكر البتّة إسم محسن ابراهيم، مع أن القاصي والداني يعرف أن محسن ابراهيم كان العقل المفكر للحركة الوطنية، بدليل بصماته على كل مفاصل أدبياتها وصراعاتها الفكرية .
فباستثناء مقال نشره حسن الحاف على موقع المدن الالكتروني، لم أجد نصاً في العربية حول أفكار الرجل. علماً أن ما كتبه الحاف على أهميّته وصوابيته، كان بحاجة، في نظري كأستاذ جامعي، إلى تعميق وإلى تدعيم المصادر، أي كتابات محسن ابراهيم، بمراجع، أي أبحاث أكاديمية بالفرنسية والانجليزية تناولت موضوعّي اليسار العربي والحرب اللبنانية.
على ضوء كل ما ورد، قررت، من موقعي في باريس، تقديم محسن ابراهيم لزملائي وطلابي المعنيين بالتاريخ السياسي والفكري العربي من الفرنسيين والفرانكوفونيين ولجمهور أعرض مهتم. ومن خلال العنوان الفرعي للكتاب، كنت أهدف إلى تقدير كتابات الرجل حق قدرها. والحقيقة أنني خلال دراستي الليسانس في جامعة القديس يوسف قبل أكثر من عشرين عاماً كان أبرز أساتذتي هو سمير قصير. وكان واضحاً مدى تأثره بفكر وتحليل محسن ابراهيم، لا سيما فيما يتعلق بإتفاق أوسلو، وفي نقاط أخرى مرتبطة بالحرب اللبنانية، كتحليله حول عناصر قوة وتماسك مناطق نفوذ الجبهة اللبنانية، وتشرذم وتفكك مناطق الحركة الوطنية اللبنانية في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات. وكان قصير دوماً يأسف لأن محسن ابراهيم قد لاذ بالصمت فيما البلد بأمس الحاجة إلى مساهماته الفكرية في تفسير التحولات التي تطرأ تباعاً.
والواقع أنني كنت منذ قدمت إلى فرنسا قبل حوالي العشرين عاماً قد أدرت ظهري إلى المحلي اللبناني لصالح مناطق أخرى من العالم العربي. لذلك كان اليمن ميدان أطروحتي لنيل شهادة الدكتوراة. ثم أصبحت الجزائر موضوع اهتماماتي. ومع عودتي إلى الاهتمام بالشرق الأدنى عموماً وتحديداً بالتحولات الفكرية عند مثقفي النصف الثاني من القرن السابق وبداية القرن الحالي، وبلبنان خصوصاً، كان أول عمل قمت به هو ترجمة كتاب حازم صاغية” هذه ليست سيرةً”، الذي عرض فيه تنقلاته من القومية العربية إلى الليبرالية مروراً بالقومية السورية والماركسية والاسلاموية. وفي حين اتسمت تحولات حازم صاغية بوتيرة عالية، فإن تحولات محسن ابراهيم ذات وتيرة متوسطة إذ بقي يسارياً على الرغم من تخطيه الماركسية.
هذا فضلاً عن أن محسن ابراهيم يختلف عن أي مثقف تنقلت سيرته من… إلى، إذ هو إلى جانب كونه مفكراً كان قائداً سياسياً. أما العمل المقبل، فسيتطرق إلى شخصية أو شخصيات اتّسمت تحولاتها بوتيرة متدنية. وأنوي ختم هذا المشروع بنص نظري حول مفهوم التحّول.
وعليه، فأنا لا أدّعي أنني أكتب سيرة محسن ابراهيم، أو تاريخ منظمة العمل الشيوعي في لبنان، فما قمت به هو توليفة للتحولات التي طرأت على شخصيته كسياسي ومفكر يجسد الارتباط العضوي بين النظرية والممارسة، إذ تفادى التنظير الخاوي من جهة، والسياسة السياسوية من جهة أخرى.
ومن خلال تتبّعي لكتاباته َمحَورت كتابي حول النقد الذاتي الذي أخذ أشكالاً عدة في سيرته عبر شكل التصفية الذاتية في كتاب “لماذا منظمة الاشتراكيين اللبنانيين”؟. ثم شكّل الجردة الشاملة في كتاب “الحرب وتجربة الحركة الوطنية”، وهي مقابلات أجراها معه كل من حسن بزون وزهير هواري، وكتب مقدمته فواز طرابلسي. وأقصد بالجردة الشاملة، ما للحركة الوطنية وما عليها خلال المفصل الاول من سنوات الحرب الاهلية 1975 ـ 1990، وأخيرا شكل التخطي من دون الإلغاء، وذلك في كتاب “في الاشتراكية”. هناك الكثير من المصطلحات التي ألقاها محسن ابراهيم وتدعو إلى التفكر. فمثلاً يتحدث عن مفهوم “اشتراكية حمّالة أوجه”، و”الاشتراكية أعلى مراحل الديمقراطية” و.. كما تبرز حنكته السياسية في أكثر من موضوع. فعندما يتحدث عن حزب الله يؤكد رفض هيمنة الحزب على الدولة، وفي الوقت نفسه يرفض مقولة نزع سلاحه لادراكه إلى أين تقود مغامرة من هذا النوع. وحتى موقفه من الحزب الشيوعي والعلاقة بين المنظمة والحزب يصفها أنها علاقة انقطاع وليست قطيعة.
الموقف من اتفاق الطائف هو أبرز تجل لدقة موقف ابراهيم، فقد وصفه بأنه اصلاح طائفي للنظام الطائفي، دون أن يدعو لاسقاطه. كذلك موقفه من المعارضة السياسية بتلاوينها. والملِفت وصفه لموقع بشير الجميل. ففيما اعتبره يساريون كثر عميلاً اسرائيلياً، رأى ابراهيم في علاقة بشير باسرائيل أشبه ما تكون بعلاقة مقاطعجي بسلطانه، أي تبعية ثقيلة، وليست عمالة. يدخل في هذا الباب ما شابه من مفاهيم نحتها هو. ولعل هذا ما أعجبني فيه هو اصراره على ممارسة النقد المنهجي لما له وما عليه.
محسن ابراهيم بالنسبة لي كباحث عاش حياته على مرحلتين واسعتين امتدت إلى نحو ستين عاماً. أنا لا أتحدث عن عمره الزمني، بل عن عمره السياسي والفكري. الـ 30 سنة الأولى وضعته تحت الأضواء، وهي المرحلة التي عاصر وتفاعل فيها مع ثورة عبد الناصر في مصر، ومع المقاومة الفلسطينية وقائدها ياسر عرفات، وكذلك مرحلة الحركة الوطنية اللبنانية وقائدها كمال جنبلاط. أما مرحلة الـ 30 سنة التالية فقد مارسها من خلال حضور خجول. على أن هذا “الخجل” لا يظهر في تقارير مؤتمرات منظمة العمل التي انعقدت طوال العقدين الأّوَلين من القرن الحالي، إذ تتمحور معظمها حول شخصية “الأمين العام” التي لاحت لي أنها أقرب ما تكون إلى “الشخصية الروائية” منها إلى “الشخصية السياسية”. ولفتتني الاطراءات على دوره “القيادي” و” الجهد الاستثنائي الملحوظ الذي بذله” وإلخ… هذه السطوة على رفاقه دفعتني إلى التساؤل: هل كان رفاقه موافقون على هذه السطوة؟ أم جرى التنازل لها بحكم ما اعتبروه خلاصة تجربة وريادة وإقناع؟
طبعاً لم أختم الكتاب بهذا التساؤل الوعر، إذ أشرت إلى عدة سمات إيجابية عند الرجل، من بينها تمتّع تحاليله ليس بطبقات عدة، بل برقائق متكاملة، وبطابع رؤيوي أحياناً. مثالاً ما قاله عن “النموذج” الصيني في العام 1993 بدأت أقرأ عنه في الادبيات الفرنسية والاوروبية في العام 2006 – 2007. وعليه، فقد قدم محسن ابراهيم مساهمات ثمينة للحياة السياسية في بلد معقد، وفي منطقة تغلي من جميع الجوانب الفكرية والسياسية والايديولوجية. عندما تغوص في فكر الرجل وأحكامه تعتقد أن لبنان آخر كان ممكنا .
Leave a Comment