*نجوى بركات
في منطقة الحازمية، القريبة من بيروت، تنهض أنقاض مستشفى العصفورية، أوّل مصحّ عقلي حديث في المشرق، شاهدةً على مشروع حداثي فشل في احتواء “الجنون” والاختلاف. في كتابها الصادر بالإنجليزية: “Asfūriyyeh: A History of Madness, Modernity, and war in the Middle East”، تقدم الباحثة والطبيبة، جويل أبي راشد، قراءةً نقديةً تدمج بين التاريخ والسياسة والطبّ النفسي، لتجعل من العصفورية رمزاً مكثّفاً لمسارات لبنان والمنطقة.
تبدأ المؤلفة كتابها بوصفٍ محزنٍ لأطلال المستشفى الذي صار “هيكلاً عظمياً لمشروع نفسي طموح، مدفوناً تحت طبقاتٍ من الغبار والنسيان”. هذا النسيان، كما تؤكّد، ليس بريئاً، بل هو تغطية لصراعات اجتماعية وسياسية طويلة، حول تعريف “العقل” و”الجنون”، ومرآة لتاريخ مضادّ للحداثة في الشرق الأوسط، فالجنون في زمن الانتداب الفرنسي لم يكن مجرّد حالة طبّية، بل كثيراً ما تحوّل تهمةً يُعاقَب بها الخارجون عن الأعراف أو السلطة. هكذا تظهر في الأرشيفات حالاتٌ لأشخاص أُدخلوا إلى العصفورية بسبب أفكارهم أو تمرّدهم، لا لعلّة مرضية واضحة. ولعلّ الحالة الأشهر هنا حالة الأديبة مي زيادة، التي نُقلت إلى المستشفى بقرار عائلي – قضائي بحجّة الاضطراب العقلي، بينما تشير الوثائق إلى أنّ السبب الأعمق كان استقلالها الفكري، ورفضها الخضوع لعلاقات الهيمنة داخل العائلة والمجتمع.
لم يكن هذا التداخل بين السياسي والطبّي استثناءً، بل إنّه سمة جوهرية للمؤسّسة، فالعصفورية لم تكن منعزلةً عن صراعات القوى الدولية التي تنازعت النفوذ في لبنان. لقد كانت، كما تُبيّن أبي راشد، مختبراً للاستعمار الناعم، إذ حاول الفرنسيون والأميركيون فرض تصوّراتهم عن “السلوك السليم” والعقلانية الغربية، من خلال الطبّ النفسي، لا عبر المدافع. لكنّها كانت أيضاً مسرحاً لفشل هذا المشروع، فمع تفكّك الدولة اللبنانية خلال الحرب الأهلية، انهارت العصفورية، وأُغلقت أبوابها عام 1982، وتحوّلت الرعاية النفسية إلى مجال خاص، وأحياناً طائفي. لم يكن انهيار هذه المؤسّسة الطبّية منعزلاً عن انهيار الدولة، بل كان انعكاساً مباشراً له، أو كما تقول المؤلفة: “انهيار المصحّ كان مرآةً لانهيار الدولة”.
وما يضفي على هذا العمل تميّزاً إضافياً اعتماده (ضمناً) على الإطار التحليلي الذي طوّره ميشيل فوكو في أعماله عن الجنون والانضباط. لا يرى فوكو الجنون مجرّد انحراف طبّي، بل يراه تصنيفاً تنتجه السلطة لتحديد من يستحقّ أن يكون مواطناً كاملاً، ومن لا يندرج في معاييرها. هذا ما تحاول أبي راشد إظهاره، إذ ترى أن العصفورية لم تكن مكاناً للشفاء فحسب، بل كانت جهازاً يعيد إنتاج النظام الاجتماعي من خلال تصنيف الانحراف، سواء أكان سياسياً، جنسياً، أم وجودياً. تقول في موضع دقيق: “الطبّ النفسي لم يكن للشفاء فحسب، بل أيضاً للفرز والإسكات والانضباط”. هنا تتجلّى رؤية فوكو بكل وضوح، فالسلطة لم تعد تعمل من خلال القمع المباشر، بل عبر أدوات ناعمة مثل العلم والتشخيص والعلاج.
وتتعامل الكاتبة مع أطلال المستشفى بوصفها موقعاً أخلاقياً وذاكرةً مثقلةً بالتاريخ، داعيةً القارئ إلى الإصغاء إلى ما تقوله الحجارة المهملة، إذ ترى أن إعادة كتابة تاريخ العصفورية، ليست مجرّد جهد أكاديمي، بل مسؤولية أخلاقية تجاه الماضي والمهمّشين. فالمحو المؤسّسي لذاكرة الجنون جزء من العنف الرمزي الذي مارسته الدولة والمجتمع على مَن اعتُبروا غير منضبطين، غير طبيعيين، أو لا يُحتمل وجودهم خارج الأسوار.
وما يميّز هذا الكتاب القيّم، أنه ليس مجرّد دراسة أرشيفية جامدة، بل كتابة هجينة تنبع من تقاطع الطبّ والتاريخ والفلسفة. أبي راشد ليست مؤرّخةً فحسب، بل طبيبة تعرف اللغة السريرية، وتسعى لكشف الأبعاد الخفية وراءها. كتابها يشتبك مع مفاهيم الحداثة والجنون والسلطة والهوية، ويقدّم قراءةً لحداثة مأزومة من موقعها الهشّ، لا من مركزها النظيف. ينجح كتاب “العصفورية” في تحويل مستشفى مهجور إلى مرآة نقدية للمجتمعَين اللبناني والعربي بأسره، من خلال سردية رصينة تعتمد على أرشيف لم يُحلّل من قبل، ولغة تمتزج فيها الدقّة بالحساسية الإنسانية. إنه عمل يطرح أسئلةً جوهرية عمّا اعتدنا اعتباره طبيعياً أو معقولاً، ويعيد نكء الجراح التي حاولت الحداثة أن تغطّيها بضمادات التشخيص.
في الختام، ربّما كانت العصفورية في ظاهرها مصحّاً عقلياً، لكنّها في هذا الكتاب تتحوّل أرشيفاً روحياً للحظة انهيار الإنسان في صراعه مع الدولة والسلطة والعقل والتاريخ.
*نشرت في العربي الجديد يوم 24 حزيران / يونيو 2025