سياسة

الحرب الاسرائيلية على غزة كالحرب على الضفة الغربية: نتنياهو يحقق جملة أهداف استراتيجية وسياسية من عدوانه

 زاهي البقاعي

بيروت 15 أيار 2023 ـ موقع بيروت الحرية

بينما كانت غزة ومعها الضفة الغربية تلملمان جراحهما، كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس يعلن من على منبر الأمم المتحدة الظلامة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ 75 عاماً بالتمام والكمال، والمتواصلة بعنف على يد الاحتلال الاستيطاني الصهيوني، وسط صمت دولي مطبق. مطالباً المجتمع الدولي إقرار العدالة والحرية لفلسطين وأهلها. ومع أنها من المرات القلائل التي يعتلي قائد فلسطيني مثل هذا المنبر، إلا أن هذه الرمزية لا تمنع من رؤية أن اسرائيل ما تزال تحظى بغطاء دولي (أوروبي ـ اميركي) في ممارسة احتلالها العنصري للاراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والعدوان المتواصل على غزة وقطاعها. وعليه، ليس أمام الفلسطينيين سوى الاعتماد على سواعدهم في انتزاع استقلال دولتهم من خلال وحدتهم، دون الإتكال على الآخرين من يكونون.

آخر منوعات العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني عملية “الدرع والسهم” التي شهدها قطاع غزة مؤخراً، مع ما رافقها من اغتيالات وتدمير، قبل التوصل إلى وقف اطلاق النار برعاية مصرية قبل يومين على ذكرى النكبة الموافق 15 أيار. وكما في كل مرة يندلع فيها القتال يتم التوصل إلى وقف لاطلاق النار بجهود مصرية مع الطرفين. ولا تختلف المبادرة المصرية الأخيرة عن سابقاتها، باعتبارها تحمل في طياتها عناصر انفجارها، ما يعني أن ما جرى التوصل إليه ليس سوى هدنة مؤقتة لوقف اطلاق النار. والواقع أن نص الاتفاق الاخير يحمل في داخله هذا الاحتمال الواضح، إذ من المؤكد معاودة اسرائيل سيرتها المعتمدة بممارسة الحصار وتنفيذ الاغتيالات لكبار القادة الفلسطينيين، كما حدث مراراً وتكراراً، وكان يتسبب دوماً باشتعال المواجهة التي تلقي خلالها اسرائيل بأطنان من حممها على المدينة ومخيمات القطاع وأهله، ما يؤدي إلى خسائر بشرية ومادية فادحة. والحقيقة أن اسرائيل لم تلتزم يوماً بموجبات اتفاقات الهدن، ليس على صعيد وقف الاغتيالات فقط التي تراها بمثابة حق طبيعي لها، بل إن رفع الحصار عن القطاع، والسماح بتدفق البضائع في الاتجاهين، والمرضى بالانتقال إلى مستشفيات الضفة الغربية للعلاج، الذي طالما تعهدت به، لم يجد مرة واحدة ترجمة له. وما ينطبق على القطاع يوازيه ما تتعرض له الضفة من اغتيالات وعمليات اعدام تطال الناشطين. حتى أنها بلغت خلال عام واحد حوالي 130 شهيداً قتلوا بدم بارد، بينما سقط 33 شهيداً في غزة من ضمنهم إحدى عشر من قادة الجهاد العسكريين مع عائلاتهم.

وبصرف النظر عن إشادة بنيامين نتنياهو بالإنجازات المحققة في أعقاب الاجتماعات الوزارية المصغرة، وجلسات تقييم الاوضاع بمشاركة قادة الأجهزة الأمنية ودعوته إلى ضرورة “جنى ثمار الهجوم” على حركة الجهاد الاسلامي، فإن ما أوضحه وزير الطاقة اسرائيل كاتس وهو عضو في المجلس الوزاري المصغر كان الأكثر فجاجة عندما قال إن “إسرائيل لن تتنازل عن حقها. من حقنا القيام بتصفية أي هدف يهددنا. لن يكون هناك اتفاق مع الجهاد، ما لم تتراجع وتتوقف عن إطلاق النار”.

حسابات نتنياهو

وقد اندلع القتال في أعقاب اطلاق حركة الجهاد صلية من الصواريخ باتجاه مستوطنات غلاف غزة بعد أن قضى القيادي في الحركة خضر عدنان نتيجة اضرابه عن الطعام لمدة تقارب الأشهر الثلاثة. كان واضحاً أن هذه الصواريخ هي رسالة احتجاج، وعليه بادرت القوات الاسرائيلية إلى شن عمليات قصف جزئية على مواقع معزولة تفصل غزة عن هذه المستوطنات. وهو ما أثار موجة من الاحتجاج داخل الحكومة اليمينية المتطرفة. ففيما كانت السلطات تعلن عن عودة المدارس والعمل إلى مستوطناتها كالعادة، سرعان ما أعلن بن غفير عن الهجوم عندما كتب على حسابه في “تويتر”: “حان الوقت”. فيما كان الاعلام العبري يشن حملة على رئيس الحكومة الذي سرعان ما إلتقط المناسبة لتحقيق العديد من الأهداف العسكرية والسياسية والاستراتيجية بضربة واحدة.

لقد رمى نتنياهو من خلال تنظيم حملة الاغتيالات لأبرز القادة العسكريين في حركة الجهاد الاسلامي إلى “جنى ثمار” الحملة. وهي ثمار تحملها شجرة المعاناة الفلسطينية المزمنة، منذ حط المشروع الاستيطاني رحاله على أرضها ومن حساب شعبها. يمكن حشد أبرزها على النحو التالي:

1 ـ من المعروف أن الأجهزة الأمنية والعسكرية الاسرائيلية، تعرضت لهزة سياسية كبرى في أعقاب رفض وحدات منها القيام بالمهام الموكلة إليهما، بالتوازي مع حملة الاحتجاج التي شهدتها المدن والبلدات الاسرائيلية بعد توجه الحكومة نحو فرض ما يسمى بـ “الاصلاح القضائي”. من هنا أراد نتنياهو امتحان قدرة هذه الأجهزة على القيام بمهامها التي لا تستطيع أن تتلكأ عن ممارستها باعتبارها تتعلق بأمن البلاد القومي. كما إنه يمكن لعملية عسكرية إعادة ترميم الهيبة الأمنية والعسكرية التي تعرضت لأضرار رغم الترسانة الحربية. كما إن شنّ العملية العسكرية كان بمثابة دفع العوامل الأمنية إلى موقع الصدارة على حساب الاهتمام بالاحتجاجات الواسعة على توجه الحكومة لتمرير التعديلات القضائية.

2 ـ كان من أهداف العملية العسكرية تلافي انهيار حكومة بنيامين نتنياهو وضمان استقرارها مع انتهاء أزمة العلاقة مع حركة إيتمار بن غفير “المنعة اليهودية” المتطرفة، التي كانت قد توقفت عن دعم مشاريع القوانين الحكومية في الكنيست، فضلاً عن قرار وزراء الحركة عدم حضور جلسات مجلس الوزراء احتجاجاً على سياسة التراخي. ومن شأن وضع الهجوم على القطاع أن يعيد البنية الحكومية إلى التماسك وراءه، وبما يسمح بتمرير مشروع ميزانية الدولة أواخر الشهر الجاري، لأن فشل الحكومة في تمريرها والحصول على أغلبية مطلقة يعني سقوطها بشكل تلقائي. وبالتالي تهديد مستقبل رئيسها على نحو فعلي، وهو ما يمكن أن يفتح على انتخابات مبكرة لن تكون في صالح نتنياهو.

3 ـ تعبئة الجبهة الداخلية التي بدت مفككة في غضون الأشهر السابقة على وقع الانقسام لدى الرأي العام الاسرائيلي حول “اصلاح القضاء” وغيره من مسائل. إذ من المعروف أن التظاهرات التي وصلت حدود محاصرة منزل نتنياهو،  وضعته في موقف حرج داخلياً ودولياً. فالرأي العام الاسرائيلي الذي يتدرج إلى اليمين واليمين الصهيوني المتطرف يتقاطع عند الموقف من المسألة الأمنية إزاء الشعب الفلسطيني والاستيطان وتوسيع نطاق المستوطنات وتسليح المستوطنين وغيرها. ولعله لم يكن من قبيل المصادفة أن تعلن مجموعات الاعتراض على سياسة الحكومة وقف حشد المسيرات في الشوارع هذا الاسبوع، بعد أن وصلت الصواريخ إلى ضواحي تل ابيب والقدس .

4 ـ إن الهجوم على غزة قبل يوم القدس الذي تحتفل فيه إسرائيل باحتلالها المدينة بالنظر إلى رمزيتها التوراتية، وتبادر خلاله الجماعات اليهودية المتطرفة إلى تنظيم مسيرة الأعلام، من شأنه أن يحجِّم ويحد من قدرة الفصائل الفلسطينية على التدخل والرد على ما تعبر عنه الاستفزازات الإسرائيلية، على اعتبار أن تنظيم “مسيرة الأعلام” في العام 2021، سبق وأشعل مواجهات عسكرية بين حركة حماس وإسرائيل، قادت إلى انضمام فلسطينيي الداخل إليها بشكل غير مسبوق. كما أن حساسية وضع القدس في ضوء ما يتعرض له المسجد الاقصى وكنيسة القيامة والاحياء العربية القديمة من شأنه أن يشكل بيئة صالحة لانفجار واسع.

5 ـ إن حصر المواجهة بالقطاع من شأنه أن يُسجّل لدى الإدارة الاميركية التي اعتبرته بمثابة دفاع عن النفس وعن المواطنين الاسرائيليين، واكتفت بإدانة اطلاق الصواريخ ولم تنطق بكلمة واحدة حول غارات الطيران وقصف المدفعية. وقد يفتح هذا الطريق أمام نتنياهو لزيارة الولايات المتحدة التي لم تُجز إلى الآن لقاءه بالرئيس الاميركي بايدن رغم مرور هذه المدة على انتخابه رئيساً للولايات المتحدة. بل قد بلغ الحظر مدى أوسع عندما امتنع الوزراء الاميركيون عن لقاء نظرائهم الاسرائيليين لدى زياراتهم اميركا.

6 ـ باستطاعة اسرائيل أن توظف وتستثمر العدوان بالعلاقة مع الدول الاوروبية التي تعتبر أمن اسرائيل من الأمور الجوهرية التي لا يمكن التساهل بها، بل وتمنح اسرائيل دوماً فترة سماح لصب نيرانها على الفلسطينيين كما حدث خلال الحروب السبعة الماضية. إن حصر الهجوم بالقادة العسكريين لدى حركة الجهاد، رغم إبادة عائلاتهم في الضربات الجوية، يراه الجانب الاسرائيلي مجالاً لتبييض صفحته أمام هذه الدول والشعوب.

7 ـ خلال الهجوم وجه نتنياهو وأركان حربه جملة رسائل إلى كل من ايران وحزب الله لجهة قدرة اسرائيل على الوصول إلى أهداف منتقاة بعناية كالقيادات الميدانية والعسكرية. وهي تحذيرات واضحة الدلالة، خصوصاً بعد القصف الصاروخي الذي شهده الجنوب اللبناني، وتبرأ منه الحزب، وجرى تسجيله حتى من جانب اسرائيل في خانة التنظيمات الفلسطينية الاسلامية. كما إن القيادة الاسرائيلية أرادت اختبار مقولة ” وحدة الجبهات ميدانياً” التي قيل إنها تشمل كلاً من ايران وسوريا وجملة القوى الفلسطينية واللبنانية والتي تدور في محورها وجبهاتها. جاء الردّ أيضًا بعد يوم واحد من إعلان دولة الاحتلال عن تدريبات في الشمال، وهو ما يضمر تحسباً إسرائيلياً من امتداد نطاق المواجهة إلى الجبهة مع لبنان، رغم ما حدث في رمضان الماضي، حينما اختارت إسرائيل الرد في غزة، رداً على أكبر رشقة صواريخ من لبنان منذ حرب تموز في العام 2006، متجاهلة بصمات “حزب الله” على مسرح  القصف الجنوبي.

السيناريو نفسه

اختصاراً للقول يمكن الجزم إن اسرائيل بدأت الحرب الأخيرة بالطريقة التي تبدأ بها حروبها دوماً، بعد أن تكون قد تجهزت لها ووضعت لها الخطط العملانية، وهو ما درجت عليه منذ العام 2008 عندما شنت هجومها المسمّى بـ “الرصاص المصبوب”، وتابعت النسق نفسه في اعتبار غزة ميدان اختبار لقدرات أسلحتها الجوية والبرية، والأهم مدى القدرات اللوجستية في الرصد والمتابعة التي يتمتع بها جهازها الأمني. وفي كل هذا تعمل اسرائيل على ثوابت أبرزها تحويل الاهتمام الداخلي نحو هذا الجيب المعزول والمفقر. والحفاظ على الفصل بين الضفة الغربية والقطاع، وهو فصل من شأنه أن يضعفهما معاً، ويحول بفعل كم من الارتباطات العربية والاقليمية دون القدرة على اعتماد برنامج عمل استقلالي ووطني مشترك له أدواته السياسية والعسكرية في مواجهة الاحتلال. مع التشديد على استمرار الحصار مفروضاً على القطاع وأهله ، ورفض التخلي عن سياسة الاغتيالات التي كانت دوماً في صلب طرائقها في التعاطي مع الوضع الفلسطيني ليس فقط في غزة، بل في الضفة أيضاً. مع فارق رئيسي أنها في المكان الاول تستعمل سلاح طيرانها، وفي الثانية وحدات قتالية واستخباراتية مدربة تنفذ جرائمها وسط المدن والبلدات والقرى في عمليات تصفية واعدام للمقاومين بدم بارد.   

Leave a Comment