زهير هواري
بيروت 2 تشرين الثاني 2025 ـ بيروت الحرية
خلال الأيام الماضية صعدت إسرائيل مواقفها ضد لبنان إلى الحد الذي كانت تصدر في اليوم الواحد عدة مواقف تندرج جميعا تحت شعار التلويح بتفجير الوضع وقصف العاصمة بيروت والضاحية. وأعلنت أنها لن تسمح بعودة قرى بلدات الحافة الأمامية المباشر في الجبهة الجنوبية إلى ما كانت عليه حفاظا على أمن مستوطناتها الشمالية. ولذلك لن تقبل بأي حال من الأحوال تهديد حدودها الشمالية ثانية، واستمرار مستوطنيها خارج منازلهم مع ما يقود إليه من تعطل أعمالهم الزراعية وغيرها. وعليه فهي ستحافظ على تمركزها في المواقع التي تحتلها في جنوب لبنان. كل ذلك بذريعة أن حزب الله بدأ يستعيد قدراته القتالية بعدما نجح بتهريب آلاف الصواريخ القصيرة المضادة للدروع من سوريا وتخزينها جنوب وشمال الليطاني. التهديدات وردت على ألسنة كل من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس وغيرهما من المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين. وتواتر هذا الكم من التصريحات رافقه تصعيد في عمليات الاغتيال التي تمارسها المسيّرات الإسرائيلية في شمال وجنوب الليطاني على حد سواء. وكأن هذا الاحتلال الجوي الذي يتحكم بالأرض اللبنانية ومن عليها ليس كافيا، حتى يتم التلويح بمضاعفة الاعتداءات لتطال المناطق الحيوية التي لم تصل إليها بعد، علما أن مسيّراتها وطيرانها الحربي “تفلح” السماء اللبنانية من أقصاها إلى أقصاها.
وبدا من المواقف التي أعلنها المسؤولون الإسرائيليون أن الحرب على لبنان باتت “قاب قوسين أو أدنى” مما كانت عليه في الأشهر الماضية. ومع أن البعض فسر ذلك بالانتهاء عمليا من جبهة غزة مع التقدم في تسليم جثامين الاسرائيليين، وتفرغ الجيش الإسرائيلي للجبهة على الحدود اللبنانية، الا أن الموضوع على الصعيد الفعلي أكثر ارتباطا بالتحرك السياسي الأميركي الذي شهدته المنطقة، وما رافقه من مواقف سياسية وإعلامية. وهو ما أغرى الجيش الإسرائيلي على القيام بمناورات دفاعية وهجومية على الحدود مع لبنان. وقد فسرته أوساط عسكرية بأنه تدريب على ما يتجاوز قصف جوي من هنا وآخر من هناك. وأنه بمثابة تمرين على التقدم البري، باعتبار أن الضربات الجوية سواء تولتها المسيّرات أو الطائرات الحربية دون تقدم بري غير كافية ولا تحقق النتائج المرجوة منها.
من نتنياهو إلى كاتس وساعر
نتنياهو اعتبر أن حزب الله يحاول إعادة التسلح والتعافي مجددا، وهو ما لن نسمح به كي لا يتحول لبنان ثانية إلى جبهة ضدنا. ولذلك فنحن سنمارس حقنا كما نص عليه وقف اطلاق النار. ولذلك على الحكومة اللبنانية تنفيذ التزاماتها بتجريد حزب الله من السلاح. ويستفاد من كلام نتنياهو أن ما ينطبق على حزب الله ينطبق على المحور من ايران إلى حماس والحوثيين.
وزير الأمن الإسرائيليّ إسرائيل كاتس من جانبه أطلق سلسلة مواقف تصعيديّة، معتبرًا أنّ “حزب الله يلعب بالنّار”، ومتّهمًا “الرّئيس اللّبنانيّ بممارسة سياسة المماطلة”. ودعا الحكومة اللّبنانيّة إلى “تنفيذ تعهّدها بنزع سلاح حزب الله وإبعاده عن الجنوب”، مؤكّدًا أنّ إسرائيل “لن تسمح بتهديد سكّان شماليّ إسرائيل “.
وأفادت “القناة 14” الإسرائيليّة أنّ الجيش الإسرائيليّ بصدد تقديم توصيةٍ إلى القيادة السياسيّة لاتّخاذ إجراءاتٍ تهدف إلى إضعاف حزب الله، وسط تزايد التوتّرات على الجبهة الشّماليّة وتصاعد التّهديدات الإسرائيليّة الموجّهة إلى لبنان. وهدد كاتس “باستهداف العاصمة بيروت إذا أقدم حزب الله على إطلاق النّار باتّجاه المستوطنات الشّماليّة”. وأضاف بأنّ إسرائيل “تعمل ضدّ أيّ تهديد”، مشيرًا إلى أنّ “الولايات المتّحدة تعوّل على الحكومة اللّبنانيّة لنزع سلاح حزب الله”، بينما “تواصل إسرائيل عمليّاتها الميدانيّة”.
أما وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، فقد أكد أن جهود حزب الله لإعادة تسليح نفسه في لبنان ستكون لها تداعيات خطيرة على أمن إسرائيل ومستقبل لبنان، وفق ما ذكرته صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”. “لقد ترسَّخ الإرهاب في غزة ولبنان واليمن على مدى العقود القليلة الماضية… واقتلاعه ضروري لاستقرار المنطقة وأمنها”.
المراقبون الذين يتابعون المواقف هذه أصدروا الكثير من التنبوءات حول موعد الهجوم الإسرائيلي. البعض قال إنها بعد زيارة البابا للبنان في الشهر المقبل، والبعض الآخر قال إنها لن تحدث قبل نهاية العام الجاري بالنظر إلى المواعيد التي سبق وترددت قبلا، والتي ارتبطت بها كل من اميركا وإسرائيل. على ضوء ما سبق وتعهد لبنان بدوره به من أن تنتهي المرحلة الأولى من خطة تسليم سلاح حزب الله للجيش اللبناني مع نهاية العام الجاري. لذلك يجري اتهامه بالتباطؤ عما سبق ووعد به في المباحثات التي أفضت إلى الاتفاق على تنفيذ القرار 1701 في العام 2024، وأكده في قراري مجلس الوزراء.
باراك ودولة لبنان الفاشلة
من الواضح أن المواقف الأميركية قد أغرت إسرائيل باعتماد هذه النبرة الهجومية. صحيح أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب هذه الأيام أكثر انشغالا بمشكلات دولية ليس بينها لبنان وجبهته، حيث الاغتيالات اليومية لمناضلين جنوبيين والاعلان صراحة عن حظر مجرد التفكير، بإعادة الإعمار تمهيداً لعودة الحياة إلى القرى والبلدات التي تعرضت للتدمير، وهذا يفسر تدمير مجمعات الآليات الثقيلة في منطقتي المصيلح وأنصار. الا أن حركة الموفدين والمبعوثين الاميركيين إلى المنطقة لم تنقطع عن التردد على لبنان، أو وضعه في صدارة المواقف التي يجاهرون بها في المحافل التي يتحدثون أمامها. ولعل ذروة هذا المنحى هي التي عبر عنها المبعوث الأميركي توم باراك الذي وصف لبنان بـ “الدولة الفاشلة”، مشيراً إلى أن “الجيش اللبناني يعاني من نقص في الموارد المالية والبشرية”، ولافتاً إلى أن “القيادة اللبنانية صامدة لكن عليها التقدم أسرع بشأن سلاح حزب الله”، الذي ” يجني أموالا أكثر من مخصصات الجيش اللبناني”.
بارّاك الذي كان يتحدث أمام منتدى حوار المنامة قال إن “إسرائيل مستعدّة للتوصل إلى اتفاق مع لبنان بشأن الحدود، وعلى اللبنانيين اللحاق بركب المفاوضات والحرص على حدودهم”، معتبراً أنه “من غير المعقول ألا يكون هناك حوار بين لبنان وإسرائيل”. لأنه “لن تكون هناك مشكلة بين لبنان وإسرائيل إذا تم نزع سلاح الحزب. فإسرائيل تقصف جنوب لبنان يوميًّا لأن سلاح حزب الله لا يزال موجوداً”، مشيراً إلى أنّ “آلاف الصواريخ في جنوب لبنان لا تزال تهدد إسرائيل”. وشدد بارّاك على أنّه “لم يعد هناك وقت أمام لبنان وعليه حصر السلاح سريعاً”. الواضح من كلام باراك تحميله مسؤولية ما يعانيه الجنوب وما قد يستجد من معاناة للدولة اللبنانية التي لم تنزع السلاح من حزب الله. أما المواقع العسكرية وعمليات الاغتيالات والاعتداءات اليومية والتوغلات التي ينفذها الجيش الإسرائيلي فهذه لها مبرراتها بآلاف الصواريخ التي يملكها الحزب. وكأن إسرائيل نفذت من جانبها ما كان عليها تنفيذه وانسحبت من الأراضي اللبنانية.
أورتاغوس على الجبهة الأمامية
ولم يقتصر الأمر على ما ذكره باراك انطلاقا من المنامة بل أن الموفدة الأميركيّة مورغان أورتاغوس التي حضرت إلى لبنان للمشاركة في اجتماعات الميكانيزم في اطار جولاتٍ دبلوماسيّةٍ وأمنيّةٍ بين تل أبيب وبيروت، بلغ بها الأمر قبل أن تصل إلى لبنان أن جالت على الحدود الشماليّة مع مسؤولين عسكريين إسرائيليّين في سياق معاينة الاستعدادات و”الجهود الدفاعية والهجومية” العسكريّة التي تشهدها منطقة الشمال. الصحافة الإسرائيلية التي واكبت الجولة رأت أنها تحمل رسالة إلى بيروت مفادها أن الولايات المتحدة الأميركية هي على اطلاع ومعاينة لما يجري على الأرض، ولن تبادر إلى ممارسة أي ضغط على إسرائيل اذا ما قررت التحرك لمواجهة تصعيد حزب الله جنوب الليطاني. وأن أميركا في الوقت نفسه مستعدة لإدارة مفاوضات بين الجانبين للتوصل إلى “مشروع تسويةٍ” يجنب المنطقة حربا شاملة في حال ترجم لبنان و”حزب الله” التهدئة عمليًّا على الأرض من خلال انسحاب الأخير من جنوب الليطاني وتسليم سلاحه. مع ما يتوجب أن يرافق ذلك من إعطاء الجيش اللبناني هامش انتشارٍ أوسع، مع مبادرته إلى ضبط الصواريخ النوعيّة المتموضعة على مقربةٍ من الحدود، وأمّا أنّ إسرائيل ستنتقل إلى “خطواتٍ أهم” ميدانيًّا، قد تسوّق دوليًّا كعمليّاتٍ “موضعيّةٍ لفرض الانضباط” لا كحربٍ شاملة. وهذه الوجهة كررتها وتكررها وسائل الاعلام العبريّة، وتعاد صياغتها اليوم بوضوحٍ أكبر على لسان ضبّاطٍ في الشمال من خلال قولهم “نحن قريبون من لحظة الحسم على الجبهة الشماليّة”.
أخطر من التهديد
وعلى طريقة تبادل الأدوار لم تحمل أورتاغوس تهديداً صريحاً بحربٍ قريبة على لبنان، لكنها قالت ما هو أصعب. شرحت كيف أنّ إسرائيل اليوم تختلف عن ماضيها، وكيف أنّ نتنياهو بعد السابع من أكتوبر بات مختلفاً عمّا سبق، فهو يعيش هاجس حفظ أمن سكان الشمال، وأن تبقى إسرائيل بمأمن من ضربات حزب الله. وقالت إنه بات سريع الغضب، ومستعداً لحماية إسرائيل بأيّ ثمنٍ ومن أيّ خطرٍ يراه قريباً.
وخلال وجودها في إسرائيل، عرض نتنياهو للموفدة الأميركية تقريراً يشير إلى أنّ حزب الله يستعيد عافيته، وأنه حصل على كميات من السلاح المضاد للدبابات عن طريق سوريا. ويواصل تخزين السلاح داخل منازل المدنيين شمال الليطاني وجنوبه.
على أي حال في ضوء الأخذ والرد اللبناني – الأميركي حول المفاوضات يمكن القول إنه بات ممكنا الجزم بأنّ سكة المفاوضات غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل قد بدأت تحركها. بعد أن تبلورت بين الرؤساء الثلاثة وبموافقة حزب الله، مع الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس. أياً تكن الصيغة من حيث الشكل، فالأمر بات تفصيلاً، فالتفاوض سيجري إن وافقت إسرائيل، بحضور أميركي، وبعض الدول الممثّلة في “الميكانيزم”، إلى جانب ممثلين عن لبنان من خارج الجيش.
أورتاغوس نفسها لم تمانع في أن تكون المفاوضات من ضمن الميكانيزم، ما دام سيُصار إلى تطعيم ممثلي لبنان بما يتناسب وطبيعة المفاوضات. غير أنّ العقبة الأساسية في هذه المفاوضات، من وجهة أميركا، تكمن في اشتراط لبنان وقف العدوان الإسرائيلي على أراضيه براً وجواً بوصفه مقدمة لأيّة مفاوضات. أورتاغوس لم تمنح لبنان تعهّدا نيابةً عن إسرائيل. وحول آلية عمل “الميكانيزم”، بحثت أورتاغوس في تصوّر لبنان لتطوير عملها، فالتقى عون وبري على ضرورة أنّ تضمّ اللجنة ممثلين عن كلّ الأطراف، وعندها يمكن أن تؤدّي غرضها المتعلق بالمفاوضات.
وقد وافقت أورتاغوس على موقف لبنان بأن البداية يجب أن تكون وقف الاعتداءات، تمهيداً للشروع في المفاوضات. وتبلّغت على نحوٍ رسمي وصريح أن لبنان لا يمانع مبدأ التفاوض غير المباشر، لكن ليس قبل وقف العدوان، وبدت متفهمة لكنها لم تجزم بأنّ نتنياهو سيلتزم بوقف العدوان على لبنان أو لا يرتكب عدواناً جديداً. وتحدثت عن اختلاف في النظرة بين ترامب ونتنياهو: ففي حين يهتم ترامب بتحقيق السلام وجني المزيد من الاتفاقات ووقف الحرب، لا يريد نتنياهو وقفها قياسا إلى المنحى الهجومي لسياسته ومصالحه الذاتية قضائيا.
هذه المواقف التي تبدو متضاربة بين أميركا وإسرائيل هل هي من ضرورات فن “الاخراج” المشترك بينهما، أم إنها سياسية حقيقية قد تجنب لبنان عملية تدمير إضافية.
