*المهدي مبروك
ردّ الاتحاد العام التونسي للشغل (الخميس الماضي) على ما اعتبره تعدّياً على حرمته، حين عمد محتجّون خلال الأيام القليلة الماضية إلى تنظيم تجمّع أمام مقرّه بساحة محمّد علي بالعاصمة، مندّدين به، داعين إلى محاسبة قياداته، وذلك في إثر إضراب في قطاع النقل العمومي شنّته نقابات الاتحاد، حتى إنه شلّ العاصمة في شهرٍ تسجّل فيه البلاد ذروة الحرارة. تحدّثت قيادة الاتحاد عن هجوم لـ”مجموعات مجهولة” تجنّباً لإحراج النظام، غير أن رئيس الجمهورية دافع لاحقاً عن هؤلاء المحتجّين، واعتبر أن من حقّهم ذلك، خصوصاً أن التظاهر كان سلمياً بلا عنف. في إثر ذلك، انعقدت هيئة إدارية موسّعة، هي بمثابة برلمان الاتحاد، وقرّرت تنظيم مسيرة يوم الخميس 21 أغسطس/ آب.
مع ذلك، واصل رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، تصعيده حين نقل التلفزيون الرسمي تصريحاته أن قيادات العمل النقابي في أثناء الاستعمار، من أمثال محمد علي الحامي والطاهر الحداد والزعيم فرحات حشّاد، كانوا نموذجاً في التفاني والزهد، في حين أن الحاليين من قادة النقابة “قلوبهم في اليسار وحافظات نقودهم في اليمين”. وتلت ذلك إجراءاتٌ إدارية اتخذتها رئاسة الحكومة عُدَّت بدايةً لسلسلة من الخطوات التصعيدية التي شرعت فيها السلطة، لعلّ أهمها إنهاء العمل بالتفرّغ النقابي الذي تمتع بمقتضاه المسؤولون النقابيون (بالآلاف) بأجورهم المدفوعة من خزانة الدولة، رغم أنهم في حالة غير مباشرة لوظائفهم. كما ذكر الرئيس أن الاقتطاع الآلي لمعلوم الانخراط الذي قامت به الإدارة العمومية لجلّ المنتمين إلى قطاع الوظيفة العمومية (نحو 600 ألف موظف) أمر لا يستقيم قانوناً، علماً أن ذلك يظلّ المورد الأهم في ميزانية الاتحاد.
وهذه سلسلة من الإجراءات التي تطمح السلطة منها إلى تضييق الخناق على الاتحاد قبل أن تخوض صراعاً معه بشكل مباشر، خصوصاً أن سعيّد لمّح، في لقاءاته المتعدّدة مع رئيسة الحكومة، أن “لا أحد فوق المحاسبة”، ما يوحي أن السلطة قد تحيل بعضاً من أعضاء المكتب التنفيذي على القضاء بتهم فساد، التهمة الفضفاضة التي لا تميّز بين سوء التصرّف وأخطاء التقدير المالي والفساد، الذي يوحي في استعمالاته السياسية المتجوّلة منذ سنوات بدلالة أخلاقية ترتبط مباشرة باختلاس المال العام وإهداره من دون أيّ وجه حقّ، وهي تهم ردّ عليها الأمين العام نور الدين الطبوبي في جلسة الهيئة الإدارية قائلاً (بكثير من اليقين والتحدّي): “من لديه ملفّات فساد فليتوجّه إلى القضاء”.
وبعيداً من هذه المسألة المعقّدة التي لا يمكن الاطمئنان إليها في ظلّ افتقاد القضاء في تونس استقلاليّته، بعد أن عمدت السلطة إلى حلّ المجلس الأعلى للقضاء، وإقالة ما يناهز 50 قاضياً، لا يمكن أن يقف الأمر عند هذه الإجراءات الإدارية، لجملة من الأسباب، لعلّ أهمها أن الرئيس قيس سعيّد، وضمن منوال اشتغاله السياسي ما يقارب ستّ سنوات منذ تسلّمه السلطة، خصوصاً بعد إجراءات 25 يوليو (2021)، برهن أنه عادة ما ينفّذ ما توعّد به، وقلّما تراجع عن شيء، خصوصاً إذا كان يعتقد أن خصمه مُدان. وقد صرّح مرّات إن القضاة إذا ما برّؤوا متّهماً صاروا متورّطين معه، فالقضاء كما نصّ عليه دستور 2024، لم يعد سلطة بذاته، بل وظيفة.
كانت مسيرة الاحتجاج التي نظّمها الاتحاد ناجحةً إلى حدّ ما، واستطاعت أن تحشد أعداداً مهمّةً في ساحة محمّد علي، وتمكّنت من رفع شعارات في شارع الثورة، من دون أي صدام أمني لن يسكت عنه النظام، وهو الذي عمد سابقاً إلى معاقبة رموز جبهة الخلاص الوطني حين رفعت الشعارات نفسها تقريباً. ورغم أن بعضهم يرى أن اختيار قيادة الاتحاد يوم الخميس بالذات لتنظيم المسيرة، كان مقصوداً لتفادي تحشيد أعداد هائلة سيرى فيها النظام استعراضاً للعضلات. كما أن من مؤشّرات التهدئة التي يبديها الاتحاد أن المطالب التي رُفِعت يوم الخميس الماضي في أثناء المسيرة، أو التي صُرّح بها إعلامياً من أعضاء المكتب التنفيذي، كانت في جلّها اجتماعية على غرار استئناف المفاوضات الاجتماعية مع الحكومة، التي عمدت السلطة إلى تعليقها منذ ما يناهز سنتَين أو أكثر فضلاً عن مطلب تحسين الأجور… إلخ. في حين لم تحظَ مسألة الحريات العامّة، والمناخ السياسي عموماً، سوى بنقطة يتيمة في بيان الهيئة الإدارية.
ولكن هذه المساعي كلّها لتجنّب اشتباك محتمل مع النظام لن تثني الرئيس قيس سعيّد (بحسب مؤشّراتٍ عديدة) عن المضي في تحجيم الاتحاد لأسباب أيديولوجية مرتبطة بالعقيدة الشعبوية التي يتبنّاها الرئيس، التي لا يرى فيها للأجسام الوسيطة أي دور، بل إنها تهدّد مشروعه “القاعدي” الذي يتبنّاه، فضلاً عن تقديراتٍ ذاتية لسلوك قيادة الاتحاد، التي لمّح إليها الرئيس أكثر من مرّة مذكّراً بـ”أنهم ليسوا فوق المحاسبة”. المواجهة التي قد تندلع في الأشهر القليلة المقبلة، خصوصاً أن الاتحاد العام التونسي للشغل ترك إمكانية إعلان يوم إضراب عام واردة، وستكون فائقة الخطورة، بقطع النظر عن تكلفتها الباهظة على البلاد برمّتها، والنظام يستحضرها، خصوصاً أن للاتحاد تجارب مريرة خبر فيها كيفية المواجهة. إن ذاكرة البلاد تحتفظ في خزّانها بصورة مفادها بأن الاتحاد كلّما خاض معركةً خرج منها منتصراً، وإنْ بأثمان باهظة، في ظلّ تنظيم هائل وقدرة على التعبئة، وابتكار آليات تصرّف في الأزمة على غرار اللجان النقابية المؤقّتة (السرّية) في أثناء مواجهة يناير/ كانون الثاني 1978، فضلاً عن سمعة مشرّفة تجلب له كثيراً من التقدير والتعاطف الدوليَّين. ومع ذلك، يدرك النظام أيضاً أن الاتحاد الحالي، بأدائه النقابي خلال عشرية الانتقال الديمقراطي، قد خسر جزءاً مهمّاً من تقدير الرأي العام له، علاوة على ضعف النُّخب السياسة، وترهّل المجتمع المدني، اللذين ظلّا في الأزمات حاضنة الاتحاد المنيعة.
الأرجح أن الصدام بين السلطة والاتحاد آت، غير أن تفاصيل خوض المعركة واختيار توقيتها وأشكالها والجبهات التي ستفتح، علاوة عما إذا كان الأمر متعلّقاً بضربات جراحية دقيقة، أم بهجوم شامل، هي من المسائل التي ما زالت محلَّ تدارس لدى صنّاع القرار داخل السلطة. خلال عهدته السابقة فكّك الرئيس كلّ معمار الانتقال الديمقراطي، مؤسّسات وهيئات، ثمّ أجهز لاحقاً على الأحزاب السياسية، وقد ينتقل في عهدته الثانية إلى تفكيك المجتمع المدني، بما فيه من منظّمات وطنية عريقة خلنا إلى وقت قريب أنها (لتاريخها ولصلابتها) لن تمسّ مطلقاً، وفي مقدّمتها الاتحاد العام التونسي للشغل.
*نشرت في العربي الجديد يوم 25 آب / اغسطس 2025
