سياسة

استمرار الإقامة في المتاهة القاتلة ليس قدراً

كتب زكـي طـه

    تزدحم المناسبات والاستحقاقات وتتراكم الأزمات وملفاتها دون انقطاع، والبلد أمام مصير معلّق ومستقبل مجهول. والإقامة المديدة والمستمرة للبنانيين تحت وطأة الأزمات وتفرعات دهاليزها المتشابكة والمتقاطعة بين الداخل والخارج، هي إقامة في متاهة مستدامة من حيث الزمان والمكان مما يصعب معه معرفة حدودها أو موعد الخروج منها.  خصوصاً في ظل إصرار أهل السلطة المخيف على ادمان إضاعة الفرص المتاحة وهدر الامكانات القائمة وتبديد الإنجازات المتحققة، مما يستحيل حصره.

    وفي هذا السياق، ليس  مصدر أمان للبنانيين أن يستمر تجدد أزمات النظام والحكم، وأن يتكرر تعطيل تشكيل الحكومة كما هو الحال راهناً، رغم هذا الكم الهائل من الكوارث والأزمات والمخاطر المتداخلة التي تهدد البلد.  أو أن يتمادى أهل الحكم  بتصعيد صراعاتهم المفتوحة حول اتفاق الطائف بكل الوسائل والاساليب، وما هو ممكن من بدع لا تمت بصلة للدستور، في محاولاتهم لتعديله أو إلغائه  من خلال تكريس أعراف مخالفة له في  كل الاحوال.  ولأن ذرائع وحجج الصلاحيات وحقوق الطوائف لا بد وأن تسندها أسباب وتبريرات، لم يتردد أهل الحكم  في استسهال دفع البلاد إلى الفوضى وتعميم شلل مؤسسات الدولة وأجهزتها، وتكريس الانهيار الشامل لقطاعات الخدمات واستباحة ما بقي منها، وتشريع كل الأبواب أمام  عودة الحرب الأهلية التدميرية التي شكل اتفاق الطائف بديلاً عن استمرارها.

    أما ارتفاع مستوى مخاوف اللبنانيين مما هو آت، فيشهد عليها أن التحرير من الاحتلال الصهيوني، ورغم عقدين ونيف على إنجازه، لم يزل أسير الانقسام الأهلي معلقاً على رافعة  المقاومة ودورها في  تزخيمه بقوة أدائها وسلاحها. كما تؤكدها الاحتفالات بمناسبته. وهي التي شكلت محطة  لتبرير هذا الدور والتحكم بإدارة البلد، عبر رهن  مصيره وربط  معالجة أزماته بمسارات الحروب والصراعات الأهلية المدارة أميركياً  وسط جميع التدخلات الإقليمية والدولية في العراق واليمن وسوريا و… إلى جانب الاستثمار في الانقسام بين الفلسطينيين حول خياراتهم النضالية في إطار صراعهم المستمر والمتجدد على أرضهم  في سبيل قضيتهم الوطنية ووجودهم وحقوقهم المشروعة. وأن يُستَغل الدور والمشاركة، في خدمة محور “الممانعة” وسياساته التفكيكية والتدميرية، ووسائل للتغطية على مسارات التفاوض المعقدة بين قيادة هذا المحور ممثلة بالنظام الإيراني مع أميركا وشركائها، حول حصته من السيطرة والنفوذ في المنطقة تحت إشرافها ورعايتها.

   وما يزيد الوضع تعقيداً وخطورة، ما شهده البلد من انقسام حول التعامل مع قضية مشاركة النازحين السورين المتواجدين على الاراضي اللبنانيية، في الانتخابات الرئاسية المزوَّرة في بلدهم. وبصرف النظر عن مآلات الصراع الدولي والاقليمي والمعارك  الدائرة في سوريا وعليها، وهشاشة ورقة النظام والرئيس معاً باعتبارهما واجهة وأدوات للحروب فيها. فإن الأداء العنصري والميليشياوي لأطراف السلطة في لبنان، يعكس طبيعتها الأصلية، سواء تعلق الأمر بالجهات التي مارست البلطجة تحت راية الولاء والوفاء للنظام السوري، واستخدام كل وسائل الابتزاز والتهديد والوعيد ضد النازحين، وجلبهم قسرأ إلى ما سمي صناديق الاقتراع المضحكة والمبكية في آن. أو الجهات الأخرى التي رأت  في مواكب هؤلاء فرصة لإشهار حقدها وكراهيتها حيال النازحين من خلال إدعاء العداء للنظام السوري، وعبر الانتقام من ضحاياه والتحريض ضدهم والمطالبة برحيلهم. وفي كلا الحالتين لم يكن الأمر سوى استعادة وتذكير بممارسات مدانة سادت خلال الحرب الأهلية ومحطات التدخل والوصاية السورية في لبنان.

  ما جرت الإشارة إليه، وما يمكن أن يضاف له وفي امتداده، هوعينة عن إداء أهل الحكم وأطراف السلطة حول جوانب من  قضايا البلد الأساسية المتعلقة بموقع الكيان والنظام والهوية الوطنية والعلاقة بالمحيط في ظل الانقسام الاهلي الموروث والمستمر.  وهو الأداء المصحوب بسجالات تدعي استهداف معالجة أزمات البلد ومشكلاته المزمنة، هي أقرب ما تكون إلى حوار الطرشان. ولأن الحقوق الطائفية والفئوية هي المقدس، والمصلحة الوطنية وجهات نظر، فإن الهدف من تلك  السجالات كان دوماً ولم يزل التغطية على الصراعات بشأنها وما يجري في اطارها من ممارسات، والتحصن بالمشاريع الطائفية والفئوية التي تفتقد للحد الأدنى من القواسم المشتركة، بديلاً عن البحث عنها والانطلاق منها لمعالجة الأزمات وصياغة الحلول للمشاكل الناجمة عنها.

   وما يزيد طين البلد بلّة، أن منطلقات وأداء قوى الاعتراض قوى واحزاباً ومجموعات، لا يختلف عن أطراف المنظومة الحاكمة. ما يؤكد ذلك افتقاد أكثريتها لحصانات الاستقلالية والوطنية الجامعة، جرَّاء هشاشة بُناها المجتمعية وهامشيتها، وسطحية مقاربتها لأزمات البلد واشكالياته وعوامل تجددها راهناً واتصالها بالموروث منها. مما يسهل معه طرح الشعارات والمبادىء العامة والاكتفاء بها والوقوف عندها. ولدى البحث والتدقيق في اسباب العجز عن  الفعل والتأثير،  يسود الاكثار من التبريرات وتبادل التهم بينها والقاء المسؤولية على الآخرين. هذا عدا استسهال استعارة خطب أهل السلطة وقواها، وإعادة صياغتها واستخدامها باسم الانتفاضة، أو المعارضة لتغطية سرعة العودة الى الاصطفافات التي ترسم معالمها وتديرها تلك القوى. 

وعليه ليس أمراً عجباً أن تتقاسم أطراف السلطة خطاب قوى الاعتراض وشعاراتها، واستعمالها لتحريك أدواتها وملاحقها، كما هو الحال مع البُنى والأطر النقابية التابعة أو العاجزة، من الاتحادات العمالية إلى هيئة التنسيق وغيرها. بالإضافة إلى استغلال ما يتيسّر لها من تحركات دُعاة النطق باسم الانتفاضة ومشاريع التغيير الورقية التي تردد  شعارات التغيير والثورة ومكافحة الفساد والقضاء المستقل و.. أو تلك الجبهات والتشكيلات الصوتية التي تتوهم الاستجابة لمطالباتها بتشكيل الحكومات بحثاً عن مقعد لها فيها.  كل ذلك يقع  في  إطار مساعي منظومة السلطة لإعادة اختزال الحياة السياسية في البلد بصراعاتها المتعددة الأوجه، وسط الانهيار الشامل وتغطية ممارساتها برايات التحقيق الجنائي وحكومة  اختصاص ومستقلين، أو عبر  الانتصارات الوهمية وتجاهل الدمار والخراب والمصلحة الوطنية ومبادارات الخارج .

ولأن أطراف السلطة لن تغير من طبيعتها الطائفية والفئوية ولن تتخلى عن مشاريعها للهيمنة، وبما أن الثقة بها لم يعد لها مكان، فإن استمرار الرهان عليها يشكل انتحاراً بل نحراً للبلد وأهله. وامام زحف الفوضى في ظل الانهيار الاقتصادي والمالي بالتزامن مع انهيار وتفكك بنى الدولة واجهزتها وشلل مؤسسات الحكم فيها. وأمام انسداد الأفق ومع رفض ترشيد الدعم للسلع الضرورية واقتراب استحقاقات رفعه، واستمرار محاصرة اللبنانيين باليأس والاحباط، يكبر التحدي وتتكاثر الأسئلة حول امكانية  الخروج المتدرج من المتاهة، والاستجابة لتحمل المسؤولية من قبل القوى المستقلة واصحاب المصالح الحقيقية في بقاء البلد، والمبادرة إلى التلاقي للبحث الجاد والعمل معاً في سبيل انقاذه من جحيم الانهيار وقبل فوات الأوان.

Leave a Comment