سياسة

  أنظمة الإستبداد والأصوليات الطائفية والمصير المجهول

زكـي طـه

 بيروت 23 أيار 2024 ـ بيروت الحرية

لا شك في أن حادثة سقوط الطائرة التي أودت بحياة رئيس جمهورية ايران ووزير خارجيتها ومرافقيهما، ستبقى موضع متابعة وتحليل إلى أمد طويل. وعلى أهمية الاسباب يبقى الأهم هو مفاعيل هذا الغياب في ميدان الصراع المعلن والمفتوح على السلطة، قبل الحادثة وبعدها، في ظل الوضع الصحي لمرشد الجمهورية، الذي تحيط به جملة من التكهنات تتعلق بقدرته على التحكم بالتوازنات القائمة بين مؤسسات وأجنحة النظام. بالنظر لما تواجهه إيران راهناً من أزمات داخلية سواء على الصعيد الاقتصادي، جراء مضاعفات الحصار والعقوبات الاميركية والاوروبية عليها. أو لجهة علاقة النظام بالأقليات الايرانية المتعددة والمتنوعة. وهي التي لم تكتفِ بمعارضة سياسات التهميش لها، بل انتفضت ضدها ونظمت محطات كبرى من الاحتجاجات الشعبية الواسعة،  واجهها النظام بالقمع العاري.

ولا يختلف عن ذلك ما ينتصب في وجه سياسات ايران الخارجية من تحديات حيال دورها في أزمات المنطقة وبلدانها، جرّاء مساهمتها اللامحدودة في تسعير الإنقسامات الأهلية والتدخل المباشر فيها، بالتقاطع مع استراتيجية الفوضى الاميركية الخلاقة في المنطقة. أو من خلال تكليف أذرعتها الطائفية في تلك البلدان، خوض معارك “مساندة غزة” في إطار الحرب الاسرائيلية المفتوحة على الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه الوطنية.  وهدفها تغطية انصياعها للتهديدات الاميركية وتحذيراتها من مغبة الدخول في الحرب. ومحاولة توظيف تلك المعارك من أجل حماية مصالحها وتكريس نفوذها الاقليمي على حساب المصالح الوطنية لبلدان المنطقة، وقد اصبحت ساحات مفككة بفعل الدمار والخراب الاقتصادي والعمراني الذي حل بها في موازاة انهيار مؤسسات الدول فيها.

وما يعزز احتمالات انفلات الصراع على السلطة في إيران، ليس عزلتها  الخارجية وحسب. بل مأزق قوى معارك المساندة المحاصرة داخل بلدانها، بنتيجة صراعاتها المفتوحة مع سائر مكونات مجتمعاتها، ومفاعيل الحروب المدمرة مع اسرائيل عليها، والتي قررتها خلافاً لإرادة الاكثرية فيها. وهي حروب مرشحة للتصعيد  في ظل اختلال موازين القوى القائمة على سائر جبهاتها لمصلحة اسرائيل، على نحو غير قابل للتعديل في المدى المنظور،  رغم  خسائرها البشرية التي تجاوزت لغاية الآن كل ما خسرته في حروبها السابقة مجتمعة. والتي يضاف لها ما حل بها من تراجع اقتصادي واهتزاز اجتماعي، ومن سقوط مدوّي لادعاءات قادتها في الميدان العسكري والامني. والأهم هو انهيار السمعة السياسية والاخلاقية لهذا الكيان دولة وقوى حزبية ومؤسسات عسكرية وأمنية، جراء عمليات الإبادة والمجازر البشرية التي قامت بها باعتبارها جرائم ضد الانسانية. ومن نتائجها أيضاً إنكشاف طبيعتها العنصرية وتهاوي صورتها امام الرأي العام العالمي، وتعريض قادتها للمحاكمة والمساءلة أمام المحكمة الجنائية الدولية، واحتمال اصدار مذكرات توقيف بحق رئيس حكومتها ووزير حربها بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية.

صحيح أن خسائر اسرائيل كبيرة جداً جداً، وغيرُ مبرر الاستهانة بها أو التقليل من مضاعفاتها على أوضاعها راهناً وفي المستقبل، عدا ما ستتكشف عنه من ازمات في ميادين السياسة والاقتصاد والامن عند نهاية الحرب، كما على صعيدي الاستيطان والاستقرار الاجتماعي. والأهم هو مأزق القوى السياسية والمجتمع الاسرائيلي بشأن التعامل مع الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية وخيار حل الدولتين في ظل صموده الاسطوري ورفضه كل اشكال النزوح والتهجير رغم  النتائج الكارثية على أوضاعه.

وصحيح أيضاً أن خسائر اسرائيل لا تزال تتوالى على سائر الجبهات، سواء في قطاع غزة والضفة الغربية، أو على جبهتها الشمالية مع لبنان. لأن الحرب مرشحة أيضاً لأن تطول  وتتصاعد، ليس بذريعة استمرار  عمليات المقاومة ضدها، وصعوبة تحقيق أهدافها المعلنة والمضمرة.  سواء تعلق الامر بقطع الطريق على حل الدولتين، أو ضمان حماية حدود اسرائيل وأمنها. يؤكد ذلك استطالة فترة الحرب وأكلافها، والالتزام الاميركي المعلن والصريح بتحقيق أهدافها الاسرائيلية، بغض النظر عن التباينات والخلافات مع  حكومة الحرب فيها، التي تتهاوى تباعاً تحت وطأة احتدام معركة الانتخابات الرئاسية الاميركية، وتنافس الجمهوريين والديمقراطيين على تقديم الدعم لاسرائيل على جميع المستويات.

والصحيح أيضاً وأساساً، أن ما يسهل لاسرائيل متابعة حربها هو الاجماع الداخلي   المستمر حول أهداف الحرب، الذي لا ينال منه تصاعد الخلافات بين القوى السياسية حول أداء الحكومة الحالية والمطالبة بإقالتها ومحاسبة وزرائها ورئيسها، لأنها تدور تحت سقف متابعة الحرب لتحقيق أهدافها بأقل الخسائر الممكنة.

لكن الأهم في هذا المجال، هو الإطار الفلسطيني والعربي المُسهِل للحرب. وهو المتمثل أولاً، باستمرار الانقسام الفلسطيني، جرّاء رفض الالتزام المتكرر بنتائج الحوار بين فصائل منظمة التحرير وحركة حماس، التي لا تزال تبحث عن نصر اعلامي لتعويم موقعها، على رافعة الاحتفاظ بالاسرى الاسرائيليين، وبقوة استمرار مقاومة الاحتلال الذي اصبح أمراً واقعاً. ولذلك تتجاهل نتائج عمليات القتل والإبادة والمجازر والحصار والمجاعة وما حل بأهالي قطاع غزة والضفة الغربية من دمار وخراب. وهم الذين تحولوا طوال ما يزيد عن سبعة أشهر، جموعاً هائمة تبحث عن طعام  وماء ودواء وأمن، فلا تجد سوى المجاعة والموت وبقية أمل بالحياة بين المقابر والركام. فيما السلطة الفلسطينية لا تزال تراهن على المجتمع الدولي وعلى الدور الاميركي.

غير أن الاهم بالنسبة لأميركا واسرائيل، هو ما آلت إليه أوضاع المجتمعات العربية المحكومة بالاستبداد والتهميش، أو تلك التي ارتدت أولوياتها نحو البحث عن أبسط حقوقها في الحياة ومحاولة الحصول على المأوى والغذاء والدواء، ومواجهة القتل  والتشرد  داخل بلدانها أو إلى خارجها على يد سلطات الامر الواقع المشكلة من بقايا أنظمة وميليشيات وقوى خارجية. كما هو الحال في سوريا واليمن والسودان والعراق ولبنان، وهي التي لم تختلف في أوضاعها الراهنة عما يتعرض له الشعب الفلسطيني على يد قوات الاحتلال الاسرائيلي، الذي يفتقد للحد الادنى من اشكال التضامن المجتمعي العربي. في الوقت الذي تتقاسم فيه الأنظمة الحاكمة أو بقاياها، أدوار الوساطة وسياسات التطبيع مع العدو، واصدار بيانات الاستنكار والادانة لممارساته  وجرائمه. في موازاة اجترار الرهان على الدور الاميركي  سواء لانقاذ سمعتها وحفظ ماء وجهها عبر المطالبة بحل الدولتين كما هو الحال مع القمم الاسلامية والعربية وآخرها في البحرين، أو لحماية انظمتها على قاعدة استجابتها لطلبات التطبيع مع اسرائيل.

….، فإن أهميتها تكمن في فضح سردية الضحية الاسرائيلية المُدّعاة، وبدء مسار تصفية الحساب مع ما تدعيه من قيم ومبادىء ثبت بطلانها بالنسبة لهم، بعدما تكشفت أمامهم طبيعة الكيان الصهيوني العنصرية…..

أما التظاهرات التي تشهدها البلدان الاوروبية والاميركية، والحركات الطلابية في جامعاتها، تحت راية ادانة ممارسات اسرائيل والتعاطف مع الشعب الفلسطيني، فإن أهميتها تكمن في فضح سردية الضحية الاسرائيلية المُدّعاة، وبدء مسار تصفية الحساب مع ما تدعيه من قيم ومبادىء ثبت بطلانها بالنسبة لهم، بعدما تكشفت أمامهم طبيعة الكيان الصهيوني العنصرية والاساس الايديولوجي لدور مؤسساته العسكرية والامنية وعقيدة قادة قواه السياسية.

غير أن فاعلية تلك التحركات تبقى محدودة الأثر لاسباب عديدة. أبرزها، انكشاف حجم أزمة قوى واحزاب المعارضة الديمقراطية واليسارية في تلك البلدان، وعدم  قدرتها على تعديل سياسات أحزاب اليمين واليمين المتطرف الحاكمة والداعمة لاسرائيل، وعدم وجود رديف لها في شوارع العواصم والمدن العربية وجامعاتها الوطنية، وكلاهما تتحكم به نظم الاستبداد والتيارات الاصولية التي تختزل مجتمعاتها ولا تقيم وزناً لدورها وتضحياتها ونضالاتها وحقوقها.

وفي هذا السياق تتكشف مضاعفات تهميش المجتمعات العربية  في فلسطين  ولبنان، وسائر البلدان العربية. بينما تتوالى فصول الحرب التدميرية على كل الجبهات، ويتعمق مأزق قوى المقاومة التي تستسهل التلاعب بوحدة مجتمعات بلدانها، وهدر تضحياتها، والتفريط بما تراكم لديها أو تحقق لها من انجازات سابقة.  وعليه تتضخم أوهام الانتصارات  وزوال اسرائيل. وبينما تتصاعد وتيرة الخسائر المهولة على نحو كارثي، وتسود سياسة الاختزال والاخضاع وتخوين الآخر المخالف أو المعترض  ويُصنَّف كمتآمر وخائن ومسؤول عن الهزائم.  وفي امتداد ذلك يستمر الصراع على السلطة ويكبر مأزق أنظمة الاستبداد والاحزاب الاصولية، وتشتد عزلتها عن مجتمعاتها وعداؤها لها. بينما تزحف الأزمات والمخاطر على مصير البلدان العربية وتدفع بها نحو المجهول. في المقابل تتعيش قوى المعارضة الموروثة على شعارات  مقاومة الامبريالية والاستعمار، ويستمر الهروب إلى الأمام وتتكرر المغامرات غير المحسوبة وأخطاء التجارب السابقة.

في المقابل تتجدد الاسئلة حول امكانية الحد من الخسائر، والبحث في قضايا المنطقة وحقوق الشعوب العربية والديمقراطية المفقودة وإعادة البناء وشروط المواجهة، وما سواها من تحديات تتناول الراهن والمستقبل الآتي.

Leave a Comment