أين بشّار الأسد ممّا يحدث كلّه؟ … يتفاعل مع الأحداث العاصفة، ولكن على طريقته. لا يتدخّل فيلفت الانتباه، ولا يبتعد تماماً فيُظَنّ أنّه لا يقيم على هذا الكوكب. منذ العدوان الوحشي على قطاع غزّة قبل نحو عام، والرئيس السوري يحسب كلّ خطوة يخطوها، حتّى لو كانت إلى غرفة نومه. وعندما كانت إسرائيل تقصف أهدافاً إيرانية داخل بلاده (وكثيراً ما تفعل) لم يكن شأنه بل شأناً إيرانياً، وليس مردُّ ذلك دوراً بالغ الأهمية في الإسناد يقوم به ويتكتّم عليه كيلا تنتبه إليه إسرائيل فتعطّله، بل البحث عن نجاة، وربّما الرهان على مسار إعادة تأهيله، حتّى لو كان دوره في مرحلة ما بعد حرب الإبادة الإسرائيلية وراثة حلفائه، والسطو على أدوارهم، بعد تفريغها من كلّ معنى.
على أنّ هذا لم يمنع الأسد من تقديم العزاء لأسرة الشهيد حسن نصر الله. صحيح أنّه تأخّر بعض الوقت، وأنّ الفنانة سلاف فواخرجي سبقته في ذلك بيوم، ولكنّه لم يدَع اغتيال نصر الله يمرّ من دون ردّ وإنشاء ينتميان إلى حقل دلالات تُعلي من شأن المقاومة، التي لا تنتهي و”لا تضعف باستشهاد قائدها، بل تبقى راسخة في القلوب والعقول”.
لم يتقدّم الأسد خطوةً واحدةً أكثر، فالشهادة عمل المقاومين، والتذكّر والتأسّي عمل المراقبين إذا تعاطفوا، وليس ثمّة شيء آخر بعد ذلك، لا خطوةَ واحدة إلى الأمام، ولا حتّى كلمةً قد تُفهم خارج سياقها، فلا ذكر للثأر أو الانتقام أو حتّى للردّ في المكان والوقت المناسبَيْن، ما يجعل من نعي الأسد أقلّ من أيّ بيان عزاء قد يصدره الحزب الشيوعي الإيطالي، لولا فقرة واحدة في رسالته التي وجّهها إلى أسرة نصر الله، قصيرةٌ، لكنّها دالّةٌ وجاءت في نهاية الرسالة، وتكشف عن شعور بالامتنان لدور نصر الله في إسناد الأسد الذي كان يتهاوى منذ 2013، لولا تدخّل حزب الله الحاسم في القصير، الذي شكّل نقلةً كبرى في مجريات الثورة السورية آنذاك، وقلب الموازينَ لصالح الأسد، وكاد هذا يلقى مصيراً شبيهاً بالرئيس الليبي معمّر القدافي.
لذلك، سيبقى نصر الله، بحسب رسالة الأسد، “في ذاكرة السوريين، وفاء لوقوفه على رأس المقاومة الوطنية اللبنانية إلى جانب سوريا ضدّ أدوات الصهيونية”، والأسد يقصد هنا نفسه ونظامه لا السوريين، كما يكشف إنشاؤه دلالياً أنّه لم يبادل نصر الله الإسنادَ بمثله، فالأمر يتعلّق بالتذكّر والشعور بالامتنان ليس أكثر، واللغة هنا تكشف وتفضح.
يتكشّف الأمر عن مفارقةٍ كُبرى بين من ساند ودفع ثمناً باهظاً من رأسماله الأخلاقي والنضالي (في حالة نصر الله)، ومن كانت عدّته الكلام وهدفه النجاة ولو على جثّة حلفائه ومناصريه (في حالة الأسد)، والكفّة ترجح أخلاقياً لصالح نصر الله، الذي شكّل تدخلُّ حزبه في مجريات الثورة السورية ثقباً أسودَ ابتلع مصداقيته، وحوّله مليشيا، بعد إجماعٍ يكاد يكون نادراً في المحيط العربي حظي به الحزب حركةَ مقاومةٍ فوق طائفية إلى حدّ كبير، بثقلٍ وازنٍ في الداخل اللبناني والمنطقة بسبب مقاومته، لا بتحوّله مليشيا عابرةً للدول على أساس طائفي فجّ.
كانت خسائر الحزب الكُبرى في سورية. كان يتقدّم ويفرض سيطرته لصالح الأسد، لكنّه كان يتآكل أخلاقياً، ويتناقص منسوب مقاومته لصالح مليشاويته، وينكشف أكثر على نحو قاتلٍ أمام إسرائيل، ما أودى به لاحقاً بعد أكثر من عشر سنوات من تدخّله في سورية، فبحسب تقرير فايننشال تايمز، شكّل ذلك فرصةً نادرةً لإسرائيل لرصد عناصر الحزب وقياداته، وجمع كمٍّ هائلٍ من المعلومات عنهم بعد أن كانوا يتحرّكون في مناطق معتمة جدّاً لعيونها، بحيث انتهى الأمر بإسرائيل إلى معرفة أدقّ التفاصيل الخاصّة بآليات عمل الحزب وتراتبيّته وقادته ووسائل اتصالاته ومناطق انتشاره، وعلاقته بحاضنته، ما يسّر لها اصطياد قادته، بمن فيهم نصر الله نفسه، كالعصافير، وحسم عدوانها عليه قبل أن تبدأ مدافعها بالقصف.
ذلك كلّه لم يستحقّ من الأسد أكثر من عزاء من بضعة أسطر، لم يتوعّد فيها بالانتقام لدماء نصر الله، رغم أنّه يعرف أنّه لا يوجد أحدٌ على هذا الكوكب، بل مجرّة درب التبّانة كلّها، يأخذ أيَّ تهديدٍ يصدر عنه على محمل الجدّ.
* نشرت على موقع العربي اجديد بتاريخ 3 تشرين الاول 2024
Leave a Comment