سعيد طانيوس ـ موسكو
جدل كبير تسبب فيه اضطرار الكرملين للإعتراف، بلقاء جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مع قادة مليشيا “فاغنر” العسكرية، وعلى رأسهم قائد التمرد يفغيني بريغوجين، في 29 يونيو الماضي.
المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، اضطر بعدما فضحت الصحافة الغربية سرّ هذا اللقاء الذي أخفاه الكرملين لما يزيد عن عشرة أيام، للقول إن اللقاء استمر لمدة 3 ساعات، واستعرض فيه بوتين مع القادة البالغ عددهم 35 شخصا، التمرد المسلح والقتال الدائر في أوكرانيا.
هذا الاجتماع أضفى المزيد من الغموض ليس فقط على وضع بريغوجين، واستمرار وجوده في روسيا رغم التمرد، بل وعلى آلية إدارة الحكم في روسيا، وكيفية صنع القرار في أكبر دولة نووية في العالم، وخلو البلاد من مؤسسات حكم ديمقراطية متوازنة وفاعلة، وانفراد القيصر الجديد، فلاديمير بوتين، باحتكار كل الحكم وكل المؤسسات الحكومية بما فيها البرلمان (الدوما) ومجلس الفيدرالية(الشيوخ) والقضاء والنيابة العامة وكل الأجهزة العسكرية والاستخباراتية وما إلى ذلك.
حاول الكرملين يوم الاثنين، 10 يوليو، الخروج من فضيحة الكذب والتدليس على الشعب الروسي، فعمد إلى توضيح اللوحة الضبابية التي كشفتها صحيفة ليبراسيون الفرنسية عن اجتماع بين بوتين وبريغوزين في 29 يونيو. فأكد المتحدث باسم الكرملين في محادثة هاتفية مع الصحفيين، وليست وجاهية خوفا من الإحراج، أن الاجتماع قد عقد، وقال إن بوتين التقى بقادة مجموعة فاغنر وناقش المزيد من الخيارات لعملهم، وأن الرئيس سمع منهم أنهم “مستعدون لمواصلة القتال من أجل الوطن الأم”! وفي محاولة للهروب إلى الأمام وإلقاء المزيد من الغموض، أضاف بيسكوف: “هذا كل ما يمكننا قوله عن هذا الاجتماع. لا أستطيع أن أقول أي شيء آخر “.
وهكذا، اتضح أن مواطني روسيا مثل الزوج المخدوع، فهم آخر من يعلم، ومضطرون مرة أخرى للتعرف على أهم الأحداث في بلادهم من الصحافة الأجنبية. وليس من صحافتهم التي تعمل لخدمة السيد الرئيس الضليع في الحيل الاستخباراتية، وفي تعمية الحقائق وتمويهها والتستر عليها.
قراءة رسائل الكرملين الكاذبة في هذا التاريخ، تشكل فضيحة مدوية وحدها، ففي 29 يونيو، أي في نفس اليوم الذي كان فيه زعيم ميليشيا فاغنر يأخذ بوتين في الأحضان ويعانقه طويلا، أكد بيسكوف على ما يبدو في هذه اللحظة بالذات أن “الكرملين ليس لديه معلومات حول مكان وجود بريغوجين!!!”
بالطبع، بوتين كان بريد التستر المطلق على هذا اللقاء السري، وإبقاؤه طي الكتمان، لأنه لا يملك ما يقول لعائلات الجنود الروس الذين قُتلوا على يد ميليشيا فاغنر أثناء تقدمها السبت في 24 حزيران باتجاه موسكو، ولا يعرف كيف يبرر لأهالي 7 طيارين أسقطت فاغنر طائراتهم وقضوا نحبهم في هذه الأحداث، عناقه مع بريغوجين، أي أن أقاربهم قتلوا بهذه الطريقة ولن يحصل أحد على شيء مقابل ذلك.
في ذلك اليوم الذي سالت الدماء الروسية بأسلحة روسية، بدا أنّ روسيا، القوّة النووية الهائلة، تقف على شفير حرب أهلية. وسارع القيصر الروسي فلاديمير بوتين فوراً للتحدث أمام الإعلام ووصف تحرّك فاغنر وبريغوجين بالخيانة وبالطعنة في الظهر.
واتهم قائد مجموعة فاغنر بـ”خيانة” روسيا بدافع “طموحات شخصية”، مؤكدا أن هذا التحرك هو “تهديد قاتل” للدولة الروسية.
لماذا يجتمع بوتين مع “الخونة”؟
بعد مرور 5 أيام فقط على وصف تمرد بريغوجين ومسلحيه بالخيانة، فجّر الكرملين مفاجأة من العيار الثقيل مقرّاً بما جاء في تقارير صحافية نشرتها ليبيراسيون الفرنسية الأحد الماضي، وقال إن بوتين التقى ببريغوجين ومجموعة من قادة فاغنر (34 ضابطاً) في التاسع والعشرين من حزيران/يونيو، أي بعد خمسة أيام فقط على التمرّد.
اعتراف الكرملين جاء بعد تصريح للرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، الذي يعتبر أقرب حليف لبوتين، قال فيه إن زعيم فاغنر ليس على أراضي بيلاروس وهو موجود في روسيا، ما أوحى في ذلك الوقت أن طباخ الرئيس السابق لا يزال مدعوماً في روسيا. التصريح أيضاً عارض تماماً تصريحاً سابقاً وغريباً لبيسكوف نفسه قال فيه إن الكرملين “ليس مهتماً بتعقّب تحركات بريغوجين، ولا يمتلك القدرة التقنية على القيام بذلك أساساً”.
خلال الاجتماع قدّم قادة فاغنر راويتهم لما حدث يوم التمرّد وفي الأشهر السابقة، وأكدوا أنهم من أشد المؤيدين لقيصر الدولة والقائد العام للقوات المسلحة، وأنهم مستعدون لمواصلة القتال من أجل وطنهم، بحسب ما ذكره بيسكوف في تسجيل صوتي.
في الإعلام الغربي أثار الإعلان عن اللقاء الدهشة وووصفه بعض المراقبين بالسريالي. لأنه “في قوانين الجيوش عامة، يتم رمي المتمرّدين في السجون”، و”لا يتم استقبالهم في الكرملين، خصوصاً بعد وصف زعيم الكرملين نفسه لهم بالخونة والمتمردين”.
وتوازياً مع الإعلان عن الاجتماع، نشرت وزارة الدفاع الروسية شريط فيديو لقائد الأركان فاليري غيراسيموف بعد إشاعات عن “تحييده من منصبه”. وتلك كانت المرة الأولى التي يظهر فيها الرجل الذي رغب بريغوجين في الإطاحة به.
عباس غالياموف، أحد كتاب خطابات الرئيس الروسي سابقاً قال إن “بوتين يريد أن يُظهر عبر الإعلان عن الاجتماع وعبر شريط غيراسيموف إنه لا يزال سيّد اللعبة وإنه سيّد التوازن”. غالياموف استنتج أيضاً “أن بوتين يحتاج إلى بريغوجين على الجبهة، فيما يحتاج الأخير إلى بوتين كمصدر مضمون للتمويل والتدفق المالي دون انقطاع”.
مدير مركز كارنيغي لروسيا وأوراسيا، ألكسندر غابويف، وافق غالياموف إلى حد ما وقال إن “بوتين ليس راضياً عن بريغوجين حالياً كأن شيئاً لم يكن. ولكنّ سحق زعيم فاغنر في هذه المرحلة بالذات لا يناسب الكرملين”.
أندريه سولداتوف وهو خبير في الأجهزة الأمنية الروسية، قال إن حديث بوتين الصارم عن الخيانة “كان يستهدف في المقام الأول الجيش الروسي لمنع أي قادة من الانضمام إلى التمرد”. أما بالنسبة للعلاقة مع بريغوجين، فأشار سولداتوف إلى “أنّ الرجلين يعرفان بعضهما جيداً ومن سنوات طويلة وبالتالي لا يزال بإمكانهما العمل معاً بعد الصفقة التي لا نعرف تفاصيلها”.
أما تاتيانا ستانوفايا ، مؤسسة موقع R.Politiks الروسي المستقل، فقالت إن اللقاء أيضاً إشارة إلى النخبة الروسية هدفها نشر الطمأنينة بعدما بدأ الكثير من روادها بالفرار من البلاد. وأوضحت “أن رجال الأعمال الروس كانوا في حالة من التيه وتساءلوا إذا كان بريغوجين معنا أو ضدّنا”، مشيرة إلى أن الهدف من الاجتماع “إيصال الرسالة التالية لهم: بريغوجين لا يزال ذئبا أوليغارشيا نظامياً”.
حملة إعلامية مستمرة؟
مع ذلك، فإن الحرب الإعلامية التي يشنها الكرملين على بريغوجين كانت لا تزال سارية حتى يوم الأحد الماضي وقد يكشف مستقبلها عن معالم مستقبل بريغوجين.
لكن الاستنتاج الأكيد من وجهة نظرنا، أن العلاقة بين بوتين وبريغوجين سرّية جدا ومخفية بنسبة 80٪ و 20٪ فقط يعرفها فقط أقرب المقربين من بوتين. وبريغوجين، بالطبع، يؤدي مهام معينة لمصلحة القيصر في إطار هذه العلاقة الحميمة الغامضة التي يكتنفها الكثير من الغموض والإلتباس.
ففي أعقاب التمرد المسلح الذي جرى أخيراً في روسيا من جانب يفغيني بريغوجين، قائد قوات “فاغنر”، ارتفع في أعلى عليين تساؤل مثير عن وضع القيصر الروسي فلاديمير بوتين، وهل انتهى زمانه وفقد صلاحيته، وهو حديث لم تنفك الدوائر الغربية المختلفة تتحدث عنه منذ سنوات، بحجة صحة بوتين المنهارة تارة، والصراعات المحتدمة بين حاشيته من الأوليغارشيين المحيطين به داخل كواليس الكرملين تارة أخرى.
جاءت حركة بريغوجين غامضة، وما من أحد قادر على فك شيفرات الحدث، ولا تفكيك دقائقه، وبخاصة الميكانيزمات التي أدت إلى إنهاء التمرد سريعاً وربما الأهم من كان وراء إطفاء لهيب المعركة بسرعة غير مسبوقة، وهل هو بالفعل رئيس بيلاروس لوكاشينكو أم شخص آخر سيكون له شأن كبير في قادم الأيام؟.
غير أن ما حدث، ومهما يكن من شأنه، أعاد فتح دائرة النقاش حول بوتين ورئاسته، وهل انتهت آماله في الترشح لولاية رئاسية جديدة، وبدأ البحث بالفعل عن خليفة له، أم أن بوتين لا يزال ممسكاً بقبضة قوية على زمام الأمور في الداخل الروسي، وما جرى لا يتجاوز زوبعة في فنجان؟.
عند أستاذة الشؤون الدولية، حفيدة الزعيم السوفياتي السابق نيكيتا خروتشوف، نينا خروشيفا، أن موقف الرئيس بوتين أصبح أضعف وأضعف، على رغم كونه “المنتصر” على يفيغيني بريغوجين في نهاية أعمال التمرد.
تحذر خروشيفا من توقع حدوث تغيير سريع، مضيفة “نشأت في ظل حكم بريجنيف. بدا الأمر وكأن حكمه سينهار تماماً في أي لحظة، لكن الأمر استغرق نحو 18 سنة أو أياً كان، 15 سنة، 10 سنوات، لكي ينهار”.
هل هذه هي بداية نهاية بوتين، والتي لن تحدث غداً حكماً؟
في كل الأحوال يفتح التساؤل الحديث عن الخليفة المنتظر وملامح معالمه، هل سيكون صديقاً للغرب، أم متشدداً مثل بوتين وربما أكثر؟ هل سيكون من النخبة المحيطة المقربة، أم سيكون الاسم مفاجأة؟ وعديد من التساؤلات التي نحاول أن نجد لها أجوبة.
Leave a Comment