صقر أبو فخر*
منذ نحو خمسين سنة مشت ليلى بعلبكي كغزالة مرتعبة إلى غروبها الذي اختارته بنفسها. مرّت كما تمر الغيوم، لكن الشجيرات التي نمت على قطراتها بقيت لتشهد تبدّل الفصول وموت أوراق الغصون. أومضت ليلى بعلبكي قبل نحو سبعين سنة في سماء بيروت، وأشعلت لهيبًا في الحياة الثقافية اللبنانية، وخُيِّل لكثيرين يومذاك أن شجاعة بعلبكي كانت مثل السنونوة التي يبشر مقدمها بالربيع، حتى لو كانت وحيدة. وتلك الأحلام الزاهية جعلت جيلًا من الكُتّاب والشعراء والأدباء والمفكرين يعتقد أن بيروت ستكون المدينة الوثابة والمتلألئة التي ستحمل مشاعل التنوير والتقدم والنهضة إلى العالم العربي. غير أن هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1967 بددت ذلك كله، وغوّرت عناصر التحفز، وأرغمت بعض الأقلام على الانطواء قسراً في الجيوب الداخلية. ولعلّ ليلى بعلبكي التي كفّت عن الكتابة قبيل هزيمة 1967، كانت قد استشعرت، بعد صدور مجموعتها القصصية “سفينة حنان إلى القمر”، ما كان كامناً في الحياة العربية من ارتجاع وعنصرية وتعصب، وعلمت بحدوسها الثاقبة أن الجمهور الثقافي العربي الحديث هو وارثٌ لجمهور الحكواتي القديم؛ جمهور الزير سالم أبو ليلى المهلهل وأبو زيد الهلالي وذياب بن غانم، أي العيش في العصر والتفكير كما كان يفكر السلف، وهو انفصام مميت.
ولا شك في أن مجموعة “سفينة حنان إلى القمر” (1963) كانت مغامرة أدبية شجاعة حيث لا إبداع من دون مغامرة. والمغامرة الأدبية أو الفنية أو الفكرية تفترض حرية لا ضفاف لها في ارتياد آفاق بلا قيود أو حدود، وتتضمن التعرض لموضوعات “محرّمة” كالوحي والنبوءة والمعجزات والله واليوم الآخر والجنس… إلخ. وربما اكتشفت ليلى بعلبكي مبكرة أن الثقافة العربية، حتى في لبنان المنفتح آنذاك، ذات مبنى ديني، أي أنها ثقافة إتباعية في جوهرها، ثقافة ترفض الإبداع وتدينه في الوقت نفسه. وربما كان لاحتجازها لدى شرطة الآداب، ثم محاكمتها بالطريقة المهينة، أثر مباشر في نكوصها عن الكتابة، واختيار دروب أخرى للحياة بعيدة عن التحدي والمواجهة.
ظهرت ليلى بعلبكي في بيروت في أواخر خمسينيات القرن المنصرم، وانخرطت في عالم الكتابة، وتمكنت في فترة وجيزة من أن تحجز لنفسها مكانًا إلى جانب أديبات تلك المرحلة ممن سبقنها، أو لحقنها أمثال إميلي نصر الله وليلى عسيران وحنان الشيخ ومنى جبور (انتحرت في 24/1/1964 بعدما نشرت رواية “فتاة تافهة” متأثرة برواية “أنا أحيا” لليلى بعلبكي). وفي تلك الأجواء كانت الأديبة والروائية السورية غادة السمّان تهز الوسط الثقافي في بيروت بجرأتها وبالموضوعات التي تناولتها وبإبداعها المتفرد. وبهذا المعنى كانت ليلى شوطًا يانعاً في مسيرة الثقافة في لبنان إبان صعودها وازدهارها.
المحاكمة المشينة
كانت محاكمة ليلى بعلبكي في عام 1964 مشينة بلا شك؛ مشينة لمن حاكمها، ولمن دعا إلى محاكمتها. والقصة من بابها إلى محرابها على النحو التالي: نشرت ليلى بعلبكي قصة “سفينة حنان إلى القمر”، أول مرة، في مجلة “حوار” التي كان يصدرها الشاعر الفلسطيني، السوري الأصل، توفيق صايغ (راجع: مجلة “حوار”، العدد الرابع، أيار – حزيران 1963). وفي العام نفسه أصدرت مجموعة قصصية بالعنوان ذاته، أي “سفينة حنان إلى القمر”. ولم تُثر المجموعة، في بداية الأمر، انتباه أحد إلا القليل من الأدباء والنقاد. لكن، بعد نحو ثمانية شهور على صدور المجموعة القصصية إياها عمدت إحدى الكاتبات المصريات إلى نشر مقالة في مجلة “صباح الخير” القاهرية بتوقيع “نادية”. وقد هاجمت الكاتبة المجموعة القصصية ومضمونها مستخدمة طرائق الردح المصرية مثل: “أدب إيه وكلام إيه… روحي يا شيخة”. وعلى الفور تحركت جهات لبنانية رجعية لدى السلطات اللبنانية لمصادرة الكتاب ومحاكمة الكاتبة. وهذا ما جرى بالفعل؛ فقد احتجزت شرطة الآداب اللبنانية (نعم شرطة الآداب) ليلى بعلبكي، وأخضعتها لاستجواب دام ثلاث ساعات ونصف الساعة، ثم أحيلت على المحاكمة بتهمة “الإساءة إلى الأخلاق العامة!”.
وكانت تلك المحاكمة هي الأولى من نوعها في تاريخ القضاء اللبناني. وتولى المحامي محسن سْليم (والد لقمان سْليم وزوج الكاتبة المصرية – اللبنانية، السورية الأصل، سلمى مرشاق) الدفاع عن ليلى بعلبكي. والغريب في الأمر أن رئيس تحرير مجلة “صباح الخير” كان آنذاك الروائي المصري إحسان عبد القدوس الذي كثيراً ما تعرض للنقد، واتُهم مراراً بأن رواياته، خصوصاً رواية “أنف وثلاث عيون”، تروّج للانحلال الخلقي والتحرر الجنسي.
استنكر ما لا يقل عن خمسين كاتبًا ومفكراً وأديباً وفناناً من العالم العربي تلك المحاكمة، وشبّه بعضهم محاكمة الرواية وصاحبة الرواية بما أثارته رواية “مدام بوفاري” لغوستاف فلوبير، أو ديوان “أزهار الشر” لبودلير، أو رواية “عشيق الليدي تشاترلي” للروائي دي. إتش. لورنس، أو رواية “لوليتا” لنابوكوف. وقد دافع عنها شعراء وصحافيون ومثقفون في لبنان من عيار خليل تقي الدين وأنسي الحاج ويوسف الخال وابراهيم سلامة وجميل جبر. وفي المقابل استنكرت بعض الهيئات النسائية اللبنانية الرجعية المجموعة القصصية لاحتواء بعض الفقرات كلمات إيروسية، وطالبت بحرقها. وشنّت جريدة “الشعب” البيروتية حملة ضد الكاتبة متهمة إياها بـِ “القذارة”. ورفضت الباحثة ثريا ملحس وقاحة الكتاب، وحذا الصحافي سعيد فريحة حذوها، فيما تناولت صحف أوروبية، خلافاً لبعض الصحف العربية، هذه القضية بحماسة وتعاطف مثل الأوبزرفر والدايلي إكسبرس وجون أفريك وفرانس سوار. وفي نهاية المطاف حكمت المحكمة في 23/7/1964 بوقف التعقبات بحق ليلى بعلبكي. وكان من عقابيل ذلك، على ما أعتقد، أن الكاتبة، جراء خيبتها بالوسط الثقافي في بيروت، وغصتها من المحاكمة بحد ذاتها، أنْ توقفت عن الكتابة. والعجيب أن ليلى بعلبكي انزوت في حقبة كانت مدينة بيروت تشهد تحفزاً فكرياً وأدبياً مميزاً، ومحاولات نهوض جريئة، وتسطع بكثير من الأحلام الثورية الزاهية.
سيرة الغياب
ولدت ليلى بعلبكي في بيروت في عام 1934، وتعود جذور عائلتها إلى قرية حومين التحتا في منطقة النبطية الجنوبية. والدها هو الشاعر الزجلي علي الحاج البعلبكي، الذي أصدر عدة دواوين مثل “بسمة الفجر” و”خيمة الصحراء”، علاوة على كتاب “الأمجاد البادية من عرب البادية”. وقد درست ليلى بعلبكي في المدرسة الرسمية في حي عين المريسة على شاطئ بيروت، ثم انتقلت إلى كلية المقاصد الاسلامية، فأنهت فيها المرحلتين المتوسطة والثانوية. ثم تابعت دراستها في معهد الآداب الشرقية التابع لجامعة القديس يوسف في بيروت، لكنها لم تكملها.
بدأت الكتابة في الرابعة عشرة، ثم عملت موظفة في مجلس النواب اللبناني بين 1957 و1959. وفي عام 1958 أصدرت روايتها الأولى “أنا أحيا”، وهي رواية وجودية المضمون تصور اغتراب الانسان عن ذاته، وتمرد المرأة على الرجل. وقد لقيت هذه الرواية صدى إيجابياً لدى النقاد، وترجمها إلى الفرنسية الأديب الفرنسي ميشال باربو (منشورات دار النشر العربية في باريس)، وتحدث عنها المستعرب جاك بيرك في دراسته الموسومة بعنوان “القلق العربي في الزمن المعاصر”، ما وضع ليلى بعلبكي على عتبة الشهرة الأدبية، وجعلها أحد الوجوه المعروفة في ميدان الثقافة في بيروت آنذاك. ومكنتها شهرتها حينئذٍ من الإقامة الموقتة في باريس نحو سنة بين 1959 و1960.
في تلك الأثناء نشطت في ميدان الكتابة وفي إلقاء المحاضرات مثل محاضرتها في “الندوة اللبنانية” (11/5/1959) التي اختارت لها عنوان “نحن بلا أقنعة”، والتي صبّت فيها نقدها على المجتمع اللبناني والمجتمعات العربية، وعلى العائلة والقيم السائدة. وفي خضم ذلك التألق كانت مقالاتها تُنشر في المجلات الأكثر انتشاراً في لبنان كـ”الأسبوع العربي” و”الحوادث” و”الدستور”، كما نشرت بعض مقالاتها في مجلات مثل “أدب” و”شعر” و”حوار” و”الآداب”. وبعد نحو سنتين على صدور “أنا أحيا” صدرت لها رواية “الآلهة الممسوخة”، فلم تحظَ بالصدى الذي حظيت به روايتها الأولى. لكن، ما إن صدرت مجموعتها القصصية “سفينة حنان إلى القمر” في عام 1964 حتى هبّت في وجهها جميع كائنات الكهوف، وكان ما كان مما ذكرناه عن محاكمتها وعن ردات الفعل الأدبية والنقدية. ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975 غادرت لبنان إلى إنكلترا. وفي تلك الأجواء تزوجت أنطون وديع تقلا (توفي في 1/8/1993)، وأنجبت ابنتين وابناً. وفي عام 1979 عادت إلى لبنان بعدما قرّ قرارها على اعتزال الكتابة والصحافة والناس إلا القليل من أصدقائها، وعاشت منذ ذلك الزمان بين إنكلترا ولبنان، ولم تظهر إلا مرات قليلة كظهورها في معرض الكتاب العربي في بيروت في عام 2009 غداة إعادة إصدار دار الآداب اللبنانية جميع مؤلفاتها، وتوقيع تلك الكتب لرواد المعرض. هكذا تناثر أَعلام ذلك الجيل مثل أوراق الخريف، وتطايروا هنا وهناك مثل غبار الطلع، وانتشروا في أوطان الشعوب الأخرى حيث لم تكن لديهم بلاد لتحمي أجسادهم، ولا أوطان لتحضن إبداعهم. كانوا غرباء في عالم غرائبي، وكانت ليلى بعلبكي غريبة كغزالة هاربة.
*نشرت في العربي الجديد في 15 حزيران / يونيو 2022
Leave a Comment