أقفل العام 2018 أبوابه والانهيار الذي تغرق فيه البلاد مقيم، ليس فقط على الصعيد السياسي، بل على المستوى والمؤشرات الاقتصادية العامة، من دون أن يحرك هذا أو ذاك ساكناً لدى الطبقة السياسية التي لا يعنيها في كثير أو قليل شؤون الناس ومصالح البلد الآنية والمستقبلية. ومعه ثبت أن ما يحركها ليس سوى المحاصصات وحصول أطرافها على الحصص الوازنة في المقاعد الوزارية، لحسابات في نفس يعقوب. ونفس يعقوب تتراوح بين إلحاق البلد بمحور “الممانعة” وغيره، أو الاستعداد لانتخابات رئاسة الجمهورية، أو توظيف المؤسسات العامة في خدمة مشاريعها، والمثابرة على تقديم الخدمات لجمهورها عبر التوظيف العشوائي على حساب الدولة وماليتها العامة.
والواقع أن التقارير الدولية التي وضعت لبنان واقتصاده في خانة السلبية لم تكن مفاجئة، فقد سبقت ذلك بتحذيرات عبرت عنها في مواقف معلنة، لم تجد آذاناً صاغية لها، أو أي تجاوب مع مضمونها، ما قاد لبنان واقتصاده إلى وضعه في تصنيفه الإئتماني في الخانة الأكثر انخفاضاً بين الدول المدينة. وهو ما كان بمثابة نتيجة طبيعية للكثير من المؤشرات المتراكمة على الصعيدين السياسي والاقتصادي معاً. ومن المرجح أن ينسحب ذلك على النظرة المستقبلية للاقتصاد اللبناني ما يضع لبنان في موقع لا يحسد عليه تجاه الخارج سواء أكان حكومات ودول أو قطاع خاص، وهو ما لم يعد يغيِّر فيه تشكيل حكومة مهما كانت مكوناتها وتوازناتها، ما دامت الطبقة السياسية الممسكة بزمام الأمور تمارس سياساتها التدميرية، غير عابئة بكم المخاطر التي تتراكم وتفتح الطريق نحو الأسوأ.
ومن المعروف أن المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية التي تراكمت في غضون العامين المنصرمين تواصلت على مختلف الصعد في ظل عجز متصاعد عن ضبطها أو الحد من نتائجها. وهو ما تتحمل تبعاته السلطة السياسية بمكوناتها كافة، وخصوصاً منها الممسكة بالقرارات والتوجهات الخطيرة، إضافة إلى السلطات المالية والنقدية بدءاً من وزارة المالية ومصرف لبنان وصولاً إلى القطاع المصرفي، الذي لا يعنيه سوى مراكمة الأرباح، ولو على حساب البلاد والقطاعات والمواطنين. فالإجراءات المالية التي جرى اعتمادها لم تتجاوز “الهندسات المالية” ورفع معدلات الفائدة على ديون الدولة ما مثَّل أرباحاً صافية للمصارف، بينما تواصل الطبقة السياسية الإنفاق والاستدانة لتمويل الدولة سواء عبر سندات الخزينة للمصارف أو من مالية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتحديداً من صندوق نهاية الخدمة الذي هو عبارة عن ديون مؤجلة للمضمونين بذمة الصندوق، ليس له حق التصرف بها على هواه و”توظيفها” في قروض عالية المخاطر لتدبير دفع الرواتب والأجور للمالية.
وقد راهنت بعض الأوساط الحكومية أن تكون مقررات مؤتمر “سيدر” في باريس خشبة الخلاص للمأزق الذي يعيشه الاقتصاد اللبناني ومالية الدولية على الأخص، وهو ما تمّ استنزافه عبر الثمانية أشهر التي استغرقتها عملية تشكيل الحكومة من جهة، ومواصلة سياسة الإنفاق الحكومية دون ضوابط، بعد أن باتت كل وزارة من الوزارات بمثابة اقطاعية قائمة بذاتها ومستقلة عن سواها، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بالوضع الاقتصادي ومآلاته الخطيرة. هذا دون أن ننسى الأعباء التي يحملها المؤتمر وتطال نواحي ضريبية متعددة ويدفع ثمنها المواطن، ما يعني أن “سيدر” في أفضل أحواله هو مجرد مسكّن بؤخر عجلة الانهيار ما دام الأداء السياسي هو هو دون تعديل. ثم أن الكثير من المؤتمرات السابقة جرى استهلاك ما حصل لبنان منها على قروض ومساعدات دون أي بارقة تحسن في أداء الدولة المالي. وعليه يبدو أن البلاد تعيش وسط حلقة مقفلة لا فكاك منها ولا مخرج. ومثل هذا الوضع له أسبابه المعروفة ممثلة في مواقف قوى السلطة التي تريد تمويل مشاريعها على حساب المكلف اللبناني، حتى ولو كان الثمن المرجح ليس سوى الإقامة في قاع الانهيار الذي تغرق فيه البلاد. ولعل عجز الطبقة السياسية يتجلى بأوضح صوره في إدارة الملفات التي تتسبب في النسبة الأكبر من الهدر. فقطاع الكهرباء رغم الكلفة الباهظة التي تتحملها الدولة والمواطنون ما زال في أسوأ حال. وضبط مجالات التهريب في المطار والمرفأ والحدود البرية يتصادم مع مصالح وفئات نافذة ومحمية تتعيش على التهرب والتهريب الضريبي، وينطبق الأمر نفسه على محدودية الضرائب التي تطال الفئات المستفيدة من الأوضاع، وعلى رأس الهرم يقف أصحاب القطاع المصرفي الذين يحيلون كل انهيار إلى فوائد إضافية في حساباتهم المصرفية.
راهنا أخذت بعض الأوساط تسوِّق لضرورة تحرير أسعار صرف العملة اللبنانية أمام الدولار والعملات الأجنبية، باعتبار أن هذا التثبيت لم يعد له من مجال بعد أن خدم طوال ربع قرن المهمة التي قام من أجلها، غير عابئين بالنتائج التي يمكن أن تترتب على مثل هذه الخطوة من مخاطر على الصعد الاجتماعية والمعيشية والاقتصادية العامة التي تطال معظم المواطنين. ومثل هذا التوجه لا ينفصل عن توجه سابق أيضاً، ويتمحور عند إستعادة أموال سلسلة الرتب والرواتب من الموظفين والإداريين الذين قبضوها، باعتبار أن إقرارها ساهم في إيصال الوضع إلى ما وصل إليه. هذا مع العلم أنها لم تصل بعد إلى كل المستحقين من مدنيين كالمعلمين في القطاع الخاص وبعض فئات العسكريين المتقاعدين وغيرهم. وعليه يمكن القول أن عناصر الخلل تتراكم في المالية العامة والديون العامة دون الحد الأدنى المطلوب من الضبط بدءاً من أعلى الهرم وليس من أسفله كما يجري التصريح.
كل هذه المخاطر تقود إلى جمود وإفلاسات وشلل في الكثير من القطاعات، ومعه تتراجع نسب العاملين وتتعزز البطالة وتتضاعف الهجرة، ولاسيما بين فئات الشباب خريجي الجامعات وغيرهم. وتتصاعد كمية العجز في ميزان المدفوعات والميزان التجاري وتندر الأموال المحوَّلة إلى لبنان، وسط تكالب متصاعد لخصخصة القطاعات التي ما تزال تدر بعض الربح على الدولة، ما ينذر بكارثة اجتماعية معالمها أخذت تتجمع في تحركات متفرقة، لا بد وأن تجد سبيلاً لتتجمع في مجرى واحد يلجم الانهيار المحدق و”أبطاله”.
[author title=”محرر الشؤون الاقتصادية” image=”http://”]محرر الشؤون الاقتصادية[/author]