كتب أحمد مغربي
لنبدأ من البحر. لنبدأ من ميناء “جاسك”. ليس صعباً على هواة الخرائط مقارنة مشهد بحر البلطيق الذي يمتد في أعماقه “نوردستريم 01 و02”. وقد كانا في صلب أزمة الغاز التي خنقت أوروبا والعالم أخيراً، وبين الخليج العربي ومضيق هرمز الذي يشكل أحد خمسة مضائق مؤثرة على حركة التجارة العالمية. قبل المقارنة على الخريطة، لنتعرف على الموضوع: ميناء “جاسك” الذي أعلنت إيران تشغيله والبدء في تصدير النفط منه رسمياً في 22 تموز (يوليو) 2021، بعد أن تكلف بناؤه قرابة ملياري دولار، هو نقلة استراتيجية في توازن القوى في الخليج، وكذلك على خط الحرير الجديد” الذي خصصت الصين له قرابة عشرة تريليون دولار. ولنتذكر أيضاً أن إيران وقعت معاهدة تحالف استراتجي مع الصين قبل تشغيل “جاسك” بزمن يسير.
ثمة ملمحان قد يكونان الأبرز في “جاسك”، أولهما أنه ميناء متخصص في تصدير النفط بأنواعه كافة، مع ملاحظة أن النفط ما زال الثروة الرئيسية لبلدان الخليج العربي بما فيها إيران، على الرغم من محاولات متعددة للخروج من سيطرة النفط على تلك الاقتصادات. وتذكيراً مرّة اخرى، إن تلك المشهدية التي أرسيت في زمن “الحرب الباردة” أساساً، شهدت قفزتها الكبرى بالنسبة للدول الخليجية مع “أزمة النفط” التي رافقت حرب 6 أكتوبر 1973. منذ ذلك الوقت، اندفعت ظاهرة “البترودولار” ثم تكرست، وتواصلت اندفاعتها وتضخمها عالمياً. بقليل من المجازفة، قد توصف أزمة الغاز الأخيرة بأنها بداية الـ”غاز دولار”، مع التنبه الى الدور الروسي الحاسم فيها. إذ سبق تلك الأزمة إعلان الشركات المشغلة لخط “نوردستريم 02” جهوزيتها لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا. وعلى الرغم من إزالة الرئيس بايدن عقوبات على ألمانيا مرتبطة بذلك الخط، إلا أن الضغط الأميركي على تشغيله استمر. ولم تضع أزمة الغاز أوزارها إلا بعد تصريح الرئيس بوتين عن زيادة روسيا ضخ الغاز إلى أوروبا، ما دفع الأسعار نزولاً بقرابة 45% في أقل من يوم. بعدها، بدا أن “نوردستريم 02” يتجه صوب مرحلة اخرى تكرسه في قلب مشهدية الطاقة أوروبياً وعالمياً.
الغاز بين “نورد ستريم” والخليج العربي
ومع تذكر أن إيران تعتبر الثالثة عالمياً، بعد أميركا وروسيا، في انتاج الغاز (قطر الخامسة)، والثانية في احتياطاته العالمية بعد روسيا (تليها قطر)، يتضح أهمية ميناء “جاسك”، باعتباره منفذ خارج الخليج العربي، وخارج مضيق هرمز، ويفتح مباشرة على مياه المحيطات الدولية بداية من المحيط الهندي.
واستناداً إلى الملمح الأول، تسهل الإشارة إلى الملمح الثاني في أهمية “جاسك”، بمعنى أن وجوده خارج مضيق هرمز، يعني أيضاً أنه لا يتأثر بكل ما قد يؤدي إلى عرقلة أو توقف الملاحة عبر هرمز التي تتكون أساساً من النفط المصدر من دول الخليج العربي. وبالتالي، يصبح كل تهديد لأمن الملاحة في الخليج العربي ومضيق هرمز، مشكلة استراتيجية واقتصادية للدول الخليجية العربية بشكل أساسي لأن معظمها ما يزال معتمداً في تصدير نفطه على حرية الملاحة عبر مضيق هرمز. إنها نقلة استراتيجية غير مسبوقة في تاريخ الملاحة عبر ذلك المضيق، خصوصاً في النفط، بل تشمل معظم التجارة العالمية عبر ذلك المضيق الحساس استراتيجياً.
ويزيد تشابك المشهد أن ما رشح عن المفاوضات حول المشروع النووي الإيراني في فيينا، تشير إلى شبه موافقة غربية وأميركية على عودة إيران إلى أسواق الطاقة بأنواعها. ولنتذكر أن قطر المعتمدة بصورة شبه كلية على الغاز، كانت الدولة الوحيدة في العالم التي تضاعف حجم اقتصادها أثناء جائحة كورونا بقرابة أربعة مرات! ثمة تفصيل مهم يرجع إلى زمن ما قبل كورونا بكثير، هو الصعود المتواصل لأهمية الغاز في مجمل مشهدية الطاقة عالمياً، وأنه يحل محل الوقود السائل في محطات الكهرباء التي تستأثر تقليدياً بثلث استهلاك الوقود السائل عالمياً.
بقول آخر، يتجه مشهد الطاقة إلى الاعتماد المتزايد على الغاز الذي يعتبر أكثر كفاءة وأقل تلوثاً للبيئة، بالمقارنة مع الوقود السائل، سواء في استخدامه في توليد الكهرباء أو في غير ذلك من الاستخدامات، بما في ذلك المنازل.
بالتالي، ليس الحديث عن عصر الـ”غاز دولار” جزافاً، بل يقتضي تأملاً واسعاً فيه.
هل يكون المفاعل السعودي الأول فرنسياً؟
لعله من المفيد التفكير في التشابك بين تلك المعطيات، مع ربطها بالمتغيرات في النظام العالمي. وبالطبع، تحتاج هذه النقطة إلى تفاصيل واسعة، ليس من شأن المقال التطرق لها.
إذاً، لنعاود إمساك خيط التشابك بين الغاز وإيران ومنظومة القوى في الخليج العربي ومداه الإقليمي، وعلاقته الحساسة مع “طريق الحرير الجديد” الذي يسمى أيضاً “مبادرة حزام وطريق” Belt & Road Initiative.
واستناداً إلى ما تقدم، قد لا تصعب رؤية خيوط تربط الغاز ومتغيراته في المنطقة، بما في ذلك الخطوط البرية التي تسعى إلى تجنب مضيق هرمز وبعضها يمر أو مخطط له أن يمر عبر إسرائيل، وبين إيران وسعيها الواضح لتكون دولة إقليمية في المنطقة. ثمة تشعبات لا نهاية لها في ذلك الشأن، بما في ذلك مثلاً أن الوضع في أفغانستان مترابط بقوة، مع الغاز في منطقة بحر قزوين، التي تملك معظم دولها حدوداً مع أفغانستان. ومنذ أزمنة طويلة، تسمى أفغانستان “مفترق طرق آسيا” بالنظر إلى موقعها على “طريق الحرير”، ما يعطي بعداً آخر للنظر إلى طريقة تعامل إيران مع وصول حركة “طالبان” إلى السيطرة على ذلك “المضيق” البري الحساس. ومرّة اخرى، يحتاج ذلك إلى نقاش مستقل ليس مجاله كلمات هذا المقال.
وعند الحديث عن الموضوع الإيراني، يبرز فوراً علاقته مع السعودية، أكثر من أي بلد عربي وخليجي آخر، لأسباب لا تفوت القارئ.
لكن، لنحاول النظر إلى ذلك الأمر من زاوية مختلفة قليلاً، عبر وضع النبرة على الطاقة وتحولاتها وأموالها وطرق إمداداتها، وهو ما حاولت الكلمات السابقة تلمسه بإشارات سريعة.
إذاً، لنحاول تلمس بعض الملامح من ذلك المشهد المعقد، انطلاقاً من الجزيرة العربية، تحديداً المملكة العربية السعودية.
كيف يمكن أن تتعامل السعودية مع الآفاق التي يحملها ميناء “جاسك”؟ بالطبع، الإجابة تبدو شبه مستحيلة لكن يمكن تلمس بعض المعطيات المتعلقة بها.
وبداية، لا مفاعلات ذرية في السعودية، لكنها تملك رؤية بخصوص امتلاكها مفاعلات نووية، تحت إشراف “وكالة الطاقة الذرية”. وتأتي الحاجة إلى المفاعل لتحرير المملكة من عبء الاستهلاك المحلي للنفط في استخراج الكهرباء، وبالتالي إحداث قفزة في قدرتها على تصدير النفط، بما في ذلك الغاز، الذي تعتبر من كبار مصدريه وتحتوي أراضيها سادس أضخم احتياطاتها. ربما لا يعرف كثيرون أن واحدة من أهم المعطيات في مشهد الطاقة في دول الخليج العربي، تتمثل في الحاجة الضخمة لتلك الدول التي تعيش قفزة حداثية تصاعدت منذ “أزمة النفط” بعد حرب أكتوبر 1973. إذ تستهلك كميات مذهلة في توليد الكهرباء، وكذلك في تحلية مياه البحر، إضافة الى الاستعمالات الاخرى. إذا استطاعت تلك الدول التخلص من العبء الداخلي في الطاقة، فتستطيع زيادة تصديرها ومضاعفة وزنها في أسواق الطاقة العالمية. من ذلك المنظور، قد تشكل المشاريع السلمية في الطاقة النووية حلاً مهماً، بالنظر إلى غزارة الطاقة التي تتولد منها.
أسئلة عن فرنسا والغواصات النووية
في ذلك الإطار، أسست السعودية “مركز الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة”، في 2010. وبعد ذلك، وقعت السعودية مجموعة اتفاقيات مع شركات دولية متخصصة في مجال الطاقة النووية ومفاعلاتها، ويشمل ذلك فرنسا والصين واليابان [الدولة الأشهر بين دول العتبة النووية] وكوريا الجنوبية وغيرها. وعلى نطاق واسع، ينظر إلى الطاقة النووية، خصوصاً مفاعلاتها الحديثة، باعتبارها جزءاً من الطاقات غير الملوثة للغلاف الجوي، ما يجعلها منسجمة مع مبادرات السعودية في ذلك المجال. وفي 2015، وقعت المملكة مذكرة تفاهم مع فرنسا التي تعتبر من رواد تصدير الطاقة النووية السلمية عالمياً، مع تذكر أن فرنسا تتفرد بين دول العالم بأنها تحصل على 90% من كهربائها بواسطة مفاعلات ذرية من أجيال متنوعة. [لا يعني ذلك أن الأمر لا يثير بعض المشاكل مع توجهات بيئية تحذر من المفاعلات النووية، سواء لجهة ما يتأتي عن احتمال انفجارها أو النفايات النووية المشعة التي تخلفها، ويعتبر التخلص منها من الموضوعات الشائكة عالمياً. بالمناسبة، هل من متابعة لتلك المسألة في لبنان؟].
وبالتالي، تفتح الطاقة النووية السلمية أمام السعودية إمكانية تغطية حاجتها الداخلية من الطاقة استناداً إلى ذلك المصدر. وبالتالي، تضاعف وجودها الضخم أصلاً في أسواق الطاقة العالمية. ويعني ذلك أيضاً، أن اعتمادها على الملاحة في مضيق هرمز قد تغدو أقل، وقد شرعت أصلاً، منذ زمن الحرب العراقية الإيرانية، في نقل نفطها إلى مطلاتها على البحر الأحمر المؤدي إلى قناة السويس.
هنالك نقطة اخرى، يجدر ملامستها ولو بسرعة أو ربما بتسرع.
ثمة مجال للتفكير بأن فرنسا قد تكون محتاجة إلى تسريع إيقاع الخطى في مشروع بناء مفاعل نووي سلمي في السعودية. وإضافة إلى المعطيات السعودية والخليجية، هنالك المعطى الفرنسي بحد ذاته. هل يكون ذلك المفاعل النووي الفرنسي في السعودية “تعويضاً” عن الإخفاق الاستراتيجي الذي شكله خروجها من صفقة الغواصات مع أستراليا، مع ملاحظة أن غواصات تعمل بالطاقة النووية حلت بديلاً من الغواصات الفرنسية؟ هل تبدل النظام العالمي إلى حد يتيح لفرنسا بناء مفاعل في بلد مهم بشكل حاسم بالنسبة إلى أميركا والصين معاً، إضافة إلى روسيا بالطبع التي تتشارك مع السعودية قيادة مجموعة “أوبك+” مثلاً؟ هل تبقى ذكرى مؤرقة من زمن قصف المفاعلين الفرنسيين النوويين في عراق صدام حسين؟ إنها أسئلة قد تفتح على مزيد من الأسئلة. ولم لا؟
Leave a Comment