باسم السبع*
عندما اعلن محسن ابراهيم انطلاق المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي ، كان يدرك ان الاعلان سيكون الطلقة الأخيرة في مسيرته السياسية.
كان ذلك في ١٦ ايلول العام ١٩٨٢ ، اي بعد شهر من الاتفاق الاسرائيلي – اللبناني – الفلسطيني – السوري – الاميركي على دخول قوات حفظ سلام دولية لترتيب خروج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان، وبعد يومين على مصرع بشيرالجميل وارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا وإغراق أحياء بيروت بشائعة اجتياح سعد حداد لمنطقة الطريق الجديدة ، وقبل اثني عشر يوماً على إجلاء التنظيمات الفلسطينية وقائدها ياسر عرفات من المرفأ.
لم يكن محسن ابراهيم وحيداً في ذلك اليوم . كان معه شريكه وتوأم كفاحه الوطني والركن الأساس في المثلث الذهبي للحركة الوطنية اللبنانية الى جانب الشهيد كمال جنبلاط ، شهيد انتفاضة الرابع عشر من آذار ٢٠٠٥الشهيد جورج حاوي.
أطبق الحصار الاسرائيلي على بيروت من الجو والبحر والبر، لأكثر من ثمانين يوماً، الى ان تم ترحيل عرفات وقيادات منظمة التحرير الفلسطينية وسط مراسم وداعية رسمية شارك فيها رئيس الحكومة، وعاش ابو خالد حينها ما يشبه الأسر الذاتي، يتنقل ليلاً ويختفي نهاراً ويواكب الأخبار عن بُعد. يقتفي آثار المفاوضات التي يرعاها الموفد الاميركي فيليب حبيب والمخططات الاسرائيلية للسيطرة الأمنية على بيروت، ويتقصى المعلومات عن وليد جنبلاط وتطورات الاوضاع في الجبل والمشروع الذي يُطبخ لاندلاع الفتنة المسيحية – الدرزية ، ويخصني بمراسلات بخط يده، ينقلها لي احد الرفاق الى مكتبي في جريدة “السفير” وفيها مقاربات سياسية وامنية واعلامية، واضاءات على تحركات الاجتياح الاسرائيلي والمفاوضات التي يتولاها الرئيس امين الجميل وخلافه من اهتمامات ووقائع المرحلة أثناء الحصار وبعده شكل خروج القيادة التاريخية الفلسطينية من بيروت هزيمة شخصية لمحسن ابراهيم، فلم يكابر في التعامل معها والتعايش مع تداعياتها والاعتراف بوقائعها الامنية والسياسية، فأخرج نفسه من الواجهة السياسية وأبحر في قارب الانكفاء مواكباً السفن التي ابحرت بعرفات ورفاقه.
وسرعان ما واجه ابو خالد بعد فترة وجيزة انكساراً ثانياً بالاعلان عن تعليق العمل بالحركة الوطنية اللبنانية، وهي الإطار التنظيمي الذي تزعمه كمال جنبلاط، ولكنه كان من بنات أفكار الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي و” السيد ” الآتي من كنف عائلة تعتمر العمامات الخضر والسود، ولها في التمرد على الحرمان والطغيان رموز وأعلام في تاريخ جبل عامل، شأنها شأن عمامات كثيرة تخرجت من وهجها شخصيات يسارية شكلت طلائع التغيير داخل طائفة نشرت قواها الحية في الاحزاب والتيارات، فكان حبيب صادق وكريم مروه ورعيل من الراحلين الحاضرين امثال حسين مروه وحسن حمدان وموسى شعيب وهاني فحص ونصير الأسعد ومروحة واسعة من الشعراء والكتاب والنقاد والصحافيين الذين طوتهم الأحداث وغيبتهم التحولات الكبرى من ساحة النضال ضد الاقطاع السياسي الى ساحة الإنطفاء تحت وطأة الاقطاع المذهبي.
محسن ابراهيم ابن هذا البيئة والمتقدم في صفوفها. الألمعي الظريف الذي امتلك مهارة السخرية والنقد اللاذع وسرعة البديهة مع مهارة الحكمة والرأي السديد والقراءة في غياهب السياسة.
دينامو الحركة الوطنية ونكهتها وعقلها السياسي ولسان حالها مع جورج حاوي من العام ١٩٧٣ الى يوم انطفائها بعدالاجتياح الاسرائيلي.
لقد كان الاعلان عن تعليق العمل بأطرها التنظيمية بتراً موجعاً لحقبة من أغني سني عمره، لا تقل مأساوية عن النهاية الدرامية لخروج ياسر عرفات من بيروت .
في اول تشرين الثاني العام ١٩٨٢ وصلتني منه رساله بعد عودتي من زيارة عمل الى باريس وفيها : “… يؤسفنا أننا أصدرنا نعي الصيغة التنظيمية للحركة الوطنية في غيابك، وكنا نريدك في الجناز. ارسل اليك اليوم بياناً باسم المنظمة حول هذا الموضوع يضيء جوانب من المسألة .. ويطرح اسساً عامة لمراجعة سياسية نقدية … تراودني فكرة الخضوع الى استجواب سياسي صريح في حديث شامل للسفير .. لم أبت بالفكرة بعد، وأريد التشاور معك حولها؛ فائدة وتوقيتاً وقدرة على الكلام الصريح من دون تلعثم..”
ملك الطلاقة على المنابر وفي المنتديات لم يتلعثم يوماً، إنما تلعثمت به الأقدار والتحولات واصطدمت برؤيته مشاريع الفتن التي حلت بلبنان، فطحنت الجبل في واحدة من أسوأ مراحل الحرب الأهلية، واشعلت الجنوب والضاحية في معارك الاخوة، واستنزفت بيروت في حروب الزواريب، وفتحت شهية النظام السوري لتدمير المخيمات، واسقطت جبهة المقاومة الوطنية بالضربة القاضية بقبضة المقاومة الاسلامية.
تلعثمت به الأيام فتأخر عن مكاشفة نفسه واللبنانين لأكثر من عقدين، إلى اللحظة التي وقف فيها راثياً رفيق عمره جورج حاوي.
كانت اطلالته الاولى بعد غياب متعمد عن الساحة السياسية استمر سنين طويلة، دون ان يتغيب سنة واحدة عن المشاركة بوضع وردة حمراء على ضريح كمال جنبلاط .
اختار محسن ابراهيم لاطلالته منبر جورج حاوي، وقد سبقه في إشهار النقد الذاتي. واطلق ابو خالد من على ذاك المنبر صرخته النقدية الجارحة : ” الحركة الوطنية ارتكبت خطأين: اولهما انها استسهلت الحرب الاهلية معْبَراً لتغيير بنية النظام الطائفي، تحت وهْم اختصار الطريق الى التغييرالديموقراطي. وثانيهما أنها اباحت لبنان للمقاومة الفلسطينية، مما حمَّله (أي لبنان) فوق طاقته؛ وأدى إلى انشطاره شطرين متقاتلين، في ظل تخلي الدول العربية، قاطبة، عن نصرة الشعب الفلسطيني “.
صعب هذا الكلام على محسن ابراهيم، يتحدى فيه نفسه وتاريخه وسيرته النضالية، لكنه كلام شجاع وصادق ونبيل يشبه صاحبه ويصفع كل الذين يتمترسون وراء مواقفهم وأفكارهم فيصيروا أسرى لها، وتصير الأفكار خشباً يلوذ به الاهتراء السياسي، وتتوقف عنده العقول عن الانجاب.
ليس عندي ابا خالد في ذكراك ، سوى العودة الى تصفح رسائلك الخاصة التي أقرأ فيها صدى خوفك على لبنان وعدم استسلامك لليأس، رغم المرارات والأهوال والمجازر ورياح الفتن التي عصفت بنا من كل الأنحاء.
لبنان اليوم يقف على خطوط اليأس والفقر والجوع والتوتر والضياع والانقسام والهذيان السياسي والطائفي … ينتظرعلى حدود جهنم. والعروبة قاب قوسين او أدنى من العودة إلى صفين وتصفية إرث سايكس بيكو، وفلسطين قضية تتلوى فوق صفيح الهزائم وولائم الحروب الأهلية العربية – الفارسية.
باختصار يا أبا خالد؛ الحاضر لعنة، والمستقبل رهينة الكآبة، لا تفك أسره سوى معجزة بعظمة الاحلام التي عاشها جيلك.
ومن الماضي القريب أقطف مجموعة مواقف من شجرة الذكريات، وردت في رسائلك أثناء اجتياح العام ١٩٨٢، أنثرها فوق ضريحك المعمم بوشاح فلسطين.
*اعلامي وصحافي ونائب ووزير لبناني سابق
Leave a Comment