طلال عبدو
البقاع 14 تشرين الثاني 2024 ـ بيروت الحرية
مشاعر الإحباط والألم واليأس والخوف من مستقبل يبدو أكثر قتامة مما نعيشه الآن، تدفعني إلى العودة بذاكرتي، لأروي لكم حدثاً إلى العام 2000 جمعني بأحد الإسرائيليين.
لقد كان عام 2000 من أكثر الاعوام رسوخاً في ذاكرة لبنان، حيث تحقق إنجاز التحرير من الاحتلال الإسرائيلي، انتصارٌ جاء بالقوة ودون أي اتفاق رسمي. حتى أثناء عملية الانسحاب، فشلت إسرائيل في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. وعند استرجاعي لتلك السنوات التي تركت أثراً عميقاً، أجد عام 1975، بداية الحرب الأهلية المشؤومة، وعام 1982 حين احتل الجيش الإسرائيلي عاصمتنا بيروت.
في كانون الثاني من ذلك العام، وقبل نحو أربعة أشهر من الانسحاب الإسرائيلي، حضرت مؤتمراً نظمته شركة دنماركية لوكلائها من مختلف أنحاء العالم. كان المشاركون متنوعين؛ إلى جانب الدنماركيين حضر ممثلون من إيرلندا، مصر، الأردن، وإسرائيل، ضمن حوالي 130 شخصاًمن مختلف دول العالم.
لتسهيل التعارف، زّود المنظمون كل شخص ببطاقة تعريف تُعلق على الرقبة، تحمل علم البلد واسم الشخص بشكل بارز على الصدر. كان علم لبنان فوق اسمي، وكنت أشعر بفخر كبير بجنسيتي، لم أشعر بمثله من قبل، خاصة وأنا واثق بأننا على أعتاب تحرير تاريخي. المصري والأردني تحدثا معي بمحبة ودفء، أما الإسرائيلي فقد تبادلنا نظرة حادة، نظرة “ند للند” بلا أي كلمة.
اختار المنظمون أن يجلس الحضور في العشاء بشكل عشوائي، فكانت الطاولات مرتبة بأرقام، وعلى باب الدخول، وزعت فتاة أوراقا كل منها تحمل رقماً للطاولة ورقماً للكرسي. جلست على طاولة إلى يميني فيها إيرلندي، وأمامي دنماركي، وبجانبه دنماركي آخر، ثم المشارك الإسرائيلي.
بدأ الإيرلندي حديثاً عن الأوضاع في لبنان، ودهشت لسعة اطلاعه. لم يستطع الإسرائيلي البقاء صامتاً، وقال للإيرلندي: “نحن نريد الانسحاب، لكنهم يرفضون” ، كان قوله صحيحاً إلى حد ما؛ فإعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك الانسحاب من لبنان قوبل بمعارضة شديدة من النظام السوري الذي كان يهيمن على القرار اللبناني. كان الانسحاب الإسرائيلي يعني انتهاء مبررات بقاء القوات السورية ويشكل تحديا سلاح حزب ً الله.
ورغم قناعتي بأن قوى لبنانية وسورية تعرقل الانسحاب، لم أرد أن أشارك الإسرائيلي هذا الموقف، فقلت للإيرلندي: “لم ندعُ الجيش الإسرائيلي لاحتلال أرضنا، بل استغلوا حادثة محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن لاجتياح عاصمتنا، متجاهلين أبسط مفاهيم الرد المتكافئ والتحقيق وإبراز الأدلة. والآن، يطلبون مساعدتنا للخروج من مأزقهم !
بعدها بأشهر قليلة، في 25 نيسان 2000 انسحب الجيش الإسرائيلي، وكانت تلك لحظة فرح لم أذق مثلها من قبل. أمام مشهد عودة المدنيين الجنوبيين الفورية، فاضت مشاعري، وخرجت أحمل العلم اللبناني، أجوب بسيارتي شوارع بيروت، أطلق البوق، وقلبي يفيض اعتزازاً.
للأسف، هدمنا بأيدينا هذا النصر بغبائنا وطائفيتنا، ولن يكون هناك انتصار طالما لم ننتصر بالعقل والإرادة والفعل على الطائفية ووليدها الفساد، هذا المرض الأساس الذي يجعل الوطن ينازع على حافة الزوال.
Leave a Comment