*لوسي بارسخيان
طغت الحرب الدائرة في جنوب لبنان وتداعياتها المنسحبة على مختلف الأراضي اللبنانية، على ملف النزوح السوري في لبنان. فتراجعت تردداته أمام خطر توسع العدوان الإسرائيلي على الأراضي اللبنانية، وسقط من الأولويات التي استدرجت إليها السلطة السياسية استجابة لحملات إعلامية وشعبية، بعد أن حل هذا الملف في أعلى قائمة الأولويات، حتى بظل جبهة “المشاغلة”.
صمت النظام
وعليه، تراجعت منذ أسابيع حملات المطالبة بمغادرة “المقيمين غير الشرعيين” على الأراضي اللبنانية. وكاد الحديث عن النازحين السوريين يسقط كلياً من التداول الإعلامي أو حتى الإفتراضي. وفيما برزت مؤخراً تغريدة للنائب ميشال ضاهر تناول فيها هذا الملف من باب دعوة الدول والمنظمات الدولية الخائفة على أمن النازحين كي تعيدهم إلى بلادهم، أو تستقبلهم لديها، انحصرت مقاربة الملف على المستوى الشعبي ببعض التهكم حيال صمت النظام السوري، الذي افترض عبر تدوينات على وسائل التواصل الاجتماعي، بضرورة إنضمام سوريا إلى سائر دول العالم في دعوتها لرعاياها كي يغادروا الأراضي اللبنانية فوراً، حفاظأ على أمنهم وسلامتهم.
هذا في وقت طوي آخر تحديث إعلامي حول تحرك السلطات الرسمية على صعيد هذا الملف، عند ما أثير عن توجه الأمن العام اللبناني لإعداد “داتا” خاصة بأعداد النازحين، وذلك بعد الجدل الذي خلفه عدم تجاوب مفوضية اللاجئين UNHCR حيال تقديم الداتا المتوفرة لديها.
إلا أن تزايد مخاطر العدوان الإسرائيلي على لبنان، أجّل متابعة نتائج الجهود التي قرر الأمن العام أن يبذلها عبر “إلزام كل سوري موجود على الأراضي اللبنانية بالتقدم إلى مراكزه لتحديد وضعيته وتاريخ دخوله لبنان”، حتى على الصعيد الإعلامي، ليرحّل الأمر على ما يبدو إلى ما بعد تطورات الأحداث الأخيرة، وبانتظار ما قد يطرأ على الملف من تطورات وردود الفعل المتكررة التي يستدرجها كلما تفاقمت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وحتى السياسية والأمنية التي يعيشها اللبنانيون.
عكس 2006
وفي الأثناء، كتب على النازحين السوريين أن يختبروا في لبنان ظروف “حرب” ارتفعت مؤخراً احتمالات وقوعها، بعدما راقبوها في تموز 2006 كمتلقين لأعداد النازحين اللبنانيين إلى الأراضي السورية. وتهيأ البعض لنزوح ثان من البلدات الأكثر عرضة لمثل هذا العدوان. ولكن من دون أن تكون العودة النهائية إلى بلدهم الأم، من ضمن خياراتهم الممكنة.
لا تبدو مقاربة هذا الملف بزمن الحرب مختلفة عن باقي الأزمنة، وخصوصاً على مستوى السلطات الرسمية، التي لطالما جاء تحركها كرد فعل على تداعيات إهماله المتعمد.
أحد هذه التداعيات المرتقبة في زمن الحرب تتعلق بما قد يحتاجه النازحون من عناية طبية في المستشفيات. وكان لافتاً في هذا الإطار البيان الصادر عن نقابة أصحاب المستشفيات قبل أيام، والذي أعلن عن إسقاط علاج المصابين من النازحين السوريين جراء أي عدوان يقع على لبنان من التغطية الصحية لوزارة الصحة، ومطالبتها الهيئات الدّوليّة الّتي تُعنى بهم، بتأمين تغطية هذه النفقات. هذا في وقت لم يتبين ما إذا كانت إحصاءات لجنة الطوارئ الوزارية لكميات احتياطي الغذاء والدواء والمحروقات المتوفرة، قد أخذت بالاعتبار الحاجات الإضافية المترتبة عن أعداد السوريين.
رد الفعل الغرائزي
طبقاً لمسار الأداء الرسمي طيلة فترة النزوح السوري في لبنان، يمكن الجزم بأن السلطات اللبنانية لا تملك خطة واضحة لإدارة أي أزمة يمكن أن يخلفها هذا الملف في زمن الحرب، تماماً كما عجزت عن تأمين الحلول الجذرية له في زمن السلم. فالتحرك الرسمي محكوم حتى الآن بردود الفعل، حتى لو قاد ذلك السلطة الرسمية للانجراف إلى إجراءات غرائزية لا تنفصل عن نزعة العنصرية التي ترجمها لبنانيون في أكثر من مناسبة.
هذا هو واقع الحال منذ ما قبل الأزمة الاقتصادية الأخيرة، حيث تذكر على سبيل المثال تحركات الضابطة العدلية لملاحقة انخراط النازحين بسوق العمل بشكل غير شرعي، وتسللهم إلى المهن الحرة خلافاً لما تنص عليه القوانين، والتي جاءت لتمتص نقمة مضاربة اليد العاملة الأجنبية. وعليه، تراجعت اندفاعتها مع هدوء الغاضبين، وكانت النتيجة إنفلاشاً أكبر للمؤسسات التجارية وتوسع اليد العاملة السورية في المهن الحرة.
في بداية الأزمة الاقتصادية التي ألمت بلبنان وبالتزامن مع شح الدولار في المصارف، ركبت الدولة بسلطاتها المعنية موجة التحريض على السوريين، على خلفية افتراض تلقيهم المساعدات بالعملة الأجنبية، وذهب بعضها إلى حد الطلب من المصارف تقريش هذه المساعدات باللبناني، وأيضاً استجابة لرد فعل غرائزي، حاول تحميل النازحين شماعة أزمة لبنان الكبرى، وأيضاً من دون أن تنجح في حل هذه الأزمة.
ضيق صدر اللبنانيين من شح الموارد التي اضطروا لتقاسمها مع “شعب ثان” على أرضهم في ذروة الأزمة الاقتصادية التي ألمت بلبنان منذ نهاية العام 2019، جعل بعض السلطة الرسمية في المقابل يستخدمها ورقة إبتزاز، تماماً كما لوحت وزارة التربية بمنع التعليم عن الأطفال السوريين ما لم تحصل على الدعم اللازم للمدارس الرسمية، التي يفترض بالدولة اللبنانية رعايتها وأساتذتها. فارتأت الدولة أو وزارة التربية حل مشكلتها التربوية عبر استعمال النزوح السوري كورقة ضغط.
سبات عميق
مع ارتفاع المخاطر الأمنية الناتجة عن هذا الملف، انجرّت حتى السلطات الأمنية والعسكرية لتشنجات شعبية، وخصوصا إثر جريمتي قتل باسكال سليمان وياسر عجاج الكوكاش التي نفذت بأيدي سوريين، فكان لا بد من عقاب يوازي حجم الجريمة لإمتصاص النقمة الشعبية، فسقط بعضه على مخيمات دهست وهدمت. ولكن طبعاً من دون أن تقود مثل هذه الحملات إلى خيارات العودة الدائمة للسوريين إلى بلادهم.
إلى أن انعقدت جلسة 15 أيار النيابية التي ناقشت الوجود السوري وقبول هبة المليار يورو الأوروبية، وما أثارته من جدل حول الأثمان المقابلة المطلوبة. كان يفترض بهذه الجلسة أن تعيد الملف إلى القالب المؤسساتي، لتجري مقاربته بناء للأنظمة والقوانين التي ترعى الوجود الأجنبي على الأراضي اللبنانية. إلا أن الأمر انتهى بنقاش طويل حول داتا النازحين، التي لم يتمكن لبنان من الحصول عليها. بمقابل إجراءات اتخذتها بعض البلديات لهدم مخيمات وإزالة أخرى، وأيضاً من دون أن يدفع ذلك النازحين للتخلي عن تمسكهم بعدم العودة إلى سوريا.
وهكذا إذا بقيت لجنة المتابعة الوزارية لهذا الملف، والتي كان من المفترض تفعيلها بعد جلسة 15 أيار، في حال سبات عميق، ولم يسجل لها تقدم ولو بخطوة، أقله لفتح قنوات التواصل مع السلطات السورية من أجل بحث استردادها لمواطنيها المهددين كسائر اللبنانيين بخطر الحرب المتربص على الأبواب.
لاذت معظم السلطة السياسية في لبنان، منذ ارتفاع وتيرة تهديدات إسرائيل للبنان، إلى الصمت حيال ملف النزوح السوري. وهي تتجنب حالياً مقاربته أقله من ناحية الإضاءة على العبء الإضافي الذي يلقيه وجود النازحين على خطة طوارئ تعجز ماليات لبنان المنهارة عن تغطيتها. وهذا ما يبقي هذا الملف كالجمر تحت الرماد، انفجاره حتمي، وإن أجلته حالياً ملامح حرب محتملة.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الثلاثاء 2024/08/13
Leave a Comment