جمال حلواني
مقدمة:
لدى التدقيق في بانوراما الحياة السياسية في العاصمة بيروت يتبين أنها صورة مكثفة عما هي عليه أوضاع البلاد بعموم محافظاتها، والأبرز فيها هو تذرر القوى تبعاً لتعدد وتنوع الولاءات والإنتماءات والمصادر التي تحاول أن تتوجه إليها بما هي طوائف ومذاهب وعائلات ومناطق، وما تعبر عنه من مناخات لدى هذه الفئات. والمؤكد هنا أن ما تفتقده البلاد راهناً ليس فقط الاحزاب الديمقراطية العابرة للانقسامات الموروثة بما يجعلها نقيض ما رست عليه صورة الوضع في غضون سنوات الحروب وما بعدها من انشطار عمودي وانشطارات أفقية. الأهم أيضاً هو غياب النبض الديمقراطي الاجتماعي النقابي الثقافي الجامع بعد أن باتت المؤسسات والاتحادات والنقابات مجرد ملاحق بهذه القوة الأهلية أو تلك الطائفية، علماً أن ما نحن عليه من شمول الفئات المتضررة، يجب أن يدفع إلى التوجه نحو إعادة بناء هذه المواقع، واستعادة دورها كمساحة مشتركة بين قطاعاتها، ولمواجهة ما هي عليه أوضاعها من تحلل وانهيار. بالطبع هناك محاولات مستميتة تُبذل لدى كل طرف من الاطراف السياسية أن يخرج بحصة من الاجتماع السياسي للمدينة، وبالتالي تسجيل حضوره في المركز، باعتبار أن المحافظات الباقية لكل منها حساباتها المحلية التي يدخل ضمنها الوضع الخاص الذي تتميز به عن سواها. مع ذلك فلبيروت ايقاعها الخاص بالنظر إلى كون استمرارها معقل النشاط والتأثير والحياة السياسية والاعلامية والتفاعل رغم الاعطاب الكثيرة والكبيرة . ولعل الملفت الآن أن العديد من هذه القوى تحاول أن تستعيد وضعيتها بما يشابه ما كانت عليه عشية الحرب الاهلية وقبل الانهيار العام، بينما يحاول البعض الآخر أن يحجز خانة حضور له، مستفيداً حيناً من الفراغ الحاصل، أو مما يعتقده بأهمية تأمين موقع له في صخبها. قد لا يكون هذا التحقيق المطول كافياً للدخول في تفاصيل أوضاع كل من القوى التي يتناولها وكل منها تحتاج إلى متابعة وتدقيق، كما قد يشوبه بعض النقص هنا أو هناك وهو محاولة نقدية تحليلية لواقع المدينة، لكنه يقدم لوحة إجمالية في تقويم الوضع بما هو عليه، ما يتيح في المقبل من الايام المزيد من التدقيق وبلورة اتجاهات عمل. لكن ما يمكن أن يخرج به أي متابع هو أن المدينة ما تزال محكومة إلى انقسامات الحرب من جهة، وما تركته من بصمات على حياتها السياسية ومما هو مستجد بعدها، لجهة ظهور قوى سياسية على السطح وزوالها أو تلاشيها إلى هذا الحد أو ذاك من جهة ثانية. على أي حال المؤكد أن هذا التذرر ينذر إلى الآن بحال من العجز عن صياغة تحالفات جبهوية وإئتلافات مطلبية سياسياً واجتماعياً في الشارع، تستطيع من خلاله الرد على التحديات المتعاظمة التي تواجهها البلاد في ظل هذا الانهيار العميم في مؤسسات الدولة وسائر القطاعات والمرافق ما ينعكس يأساً على أكثرية مختلف الفئات والشرائح من الطبقة العاملة إلى الموظفين وصولاً إلى أصحاب المهن الحرة والطلاب. وهو الوضع الذي يصيب أكثر ما يصيب فئة الشباب التي تندفع نحو مغادرة البلاد نظراً لتعذر الدخول إلى سوق العمل أمامها، والحصول على ضمانات فعلية، أو تأمين مستقبلها في ظل حكم مافيات السياسة والمال التي استفحلت سياساتها بعد إجهاض انتفاضة تشرين 2019 .
“بيروت الحرية”
بداية نشير إلى أن قرار تنحي الرئيس سعد الحريري الإختياري أو الإجباري من العمل السياسي وعن سُدة الحكم، وعن الزعامة السنية لتيار المستقبل الاكثر تمثيلاً ونفوذاً للطائفة، وإختياره المنفى، مثَّلَ خروجاً لتياره العريض من العمل السياسي، تاركاً خلفه فراغاً كبيراً إن على صعيد التمثيل السياسي العام أو الشعبي للطائفة السنية، أو من خلال الاحباط الذي تعبّر عنه يومياً القوى السنية البيروتية من جمعيات ومرجعيات ارتبطت بالحالة الحريرية التي حاكها الأب ثم انتقلت الى الإبن. لكن الخروج الذي أشرنا إليه أوقعها في حالة ضياع وتخبط أمام الأزمات التي تعصف بالبلد.
وايضاً لم تسلم مدينة بيروت نفسها من هذا الاحباط، إذ شهدت تفككاً في بيئة الطائفة السنية البيروتية ومن تحلَّق حولها، وكل الاطر التي شكلها تيار المستقبل وهو ما سنعرضه لاحقاً. ومع هذا الانهيار السريع شعر أبناء الطائفة في لبنان بشكل عام وفي بيروت بشكل خاص بـ “اليتم”، واصبحوا من دون غطاء سياسي في ظل عدم وجود من يملأ هذا الفراغ على صعيد التمثيل السياسي، وإعادة الطائفة إلى موقعها المقرر وتأمين حضورها وحماية مصالحها.
هذا الامر لم نشهده عند باقي المكونات البيروتية خارج الطائفة السنية، لأن تمثيلهم السياسي لم يتعرّض او يُصاب بحالة الانكسار التي تعرض لها هذا المكوّن الاساسي في تركيبة البلد، وعليه، ظلت مصالحهم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأحزابهم الطائفية المتجذرة في علاقتها مع جمهورها، ومن خلال استمرارها في التعبير عن مصالحهم وتحقيق حمايتهم مما يرون فيه خطراً على وجودهم، أو على الأقل نفوذهم ودورهم.
دور الثنائي الشيعي ونتائج هيمنته
الواضح أن المستفيد الاكبر والاكثر تماسكاً من بين تلك المكونات البيروتية هي الطائفة الشيعية، التي تحصر تمثيلها من خلال طرفي الثنائي الشيعي حركة أمل وحزب الله، في ظل فقدان منافس جدي لهما من داخل الطائفة او من خارجها. وهو أمر له تاريخه وعوامله التي تعود إلى حقبة الوصاية السورية من جهة، مترافقاً مع هزيمة الحركة الوطنية بأحزابها وقواها وخروجها من حلبة الصراع السياسي والاجتماعي في البلاد. وقد تغذى ذلك من حضور وثقل وزن الكتلة الاجتماعية الشيعية التي دخلت في نسيج حياة المدينة منذ مرحلة الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة على الجنوب، وحالة الإفقار التي عاشتها وتعيشها منطقة بعلبك – الهرمل، ما قاد إلى تضخم الكتلة السكانية النازحة، وتأسيس وتضخم أحياء كاملة تزنّر بيروت من جهتي الجنوب والغرب (الجناح وبئر حسن والاوزاعي ومن الشياح حتى صحرة الشويفات).
ومن خلال هذا التدفق البشري وضمن ظروف سياسية من الرعاية السورية والايرانية نجحت الثنائية الشيعية في أن تلعب دوراً مؤثراً على صعيد تركبية بيروت السياسية الى حد كبير، لجهة اختراقها للبنى السياسية السنية بعد ان ضمنت اختزالها تمثيل الطائفة الشيعية. من هنا شبكت صلات مع بعض الجمعيات الخيرية الاجتماعية السنية، وعقدت تحالفات انتخابية مع قوى اسلامية سنية. فعلاقة حزب الله والجماعة الاسلامية المُستعادة حديثاً تمت برعاية فلسطينية من حركة (حماس).
و يقوم حزب الله برعاية عدد من الشخصيات أو اطراف تفتش عن دور لم تجده عند تيار المستقبل، أو جرى استبعادها عن المشهد السياسي أو المالي. وارتبط هؤلاء وغيرهم بأدوار من خلال “سرايا المقاومة” التي انشأها حزب الله، والتي اخترق فيها المدينة باستقطابه عدداً من المجموعات خارج بيئته الأصلية، وينتمي هؤلاء إلى السنة والدروز والمسيحيين ممن يبحثون عن ادوار لهم في الميدان السياسي، أو من اصحاب المصالح الاقتصادية والمالية التي عقدت مع مركز القوة الاساسي في النظام كما صار عليه.
وقد سعى الحزب إلى تأمين عملية اختراق المدينة والجسم السني فيها من خلال ما يشبه مقرات سرية لـ”سرايا المقاومة” في مناطق ذات غلبة سنية، وعمل على تمويل وتسليح المنضوين فيها وتأمين التغطية لأنشطتهم إثباتاً لوجودهم مما تسبب بالكثير من الحوادث والاشكالات الأمنية مثل التي تحدث بين الشباب في الأحياء المختلطة. ومارس الحزب من خلالها التأثير على عدد من الشخصيات البيروتية التي تتعاطى الشأن العام، أو الخارجين عن بعض الاحزاب وغيرهم. ولعل اجتياح بيروت في 7 أيار سنة 2008 كان نقطة تحول رئيسية في مسار الهيمنة الميدانية على العاصمة، ومحاولة الامساك بقرارها السياسي. وهو ما مثل محطة مفصلية، معطوفاً على ازدياد وزن الثقل الديموغرافي الشيعي في العاصمة انطلاقاً من الأحياء التي كانت تعتبر مواقع ثقل للطائفة السنية في كل من رأس النبع والبسطة التحتا والفوقا وبربور ورمل الظريف وغيرها. وقد أفاد هذا التغير الديموغرافي من العامل الاقتصادي الذي تحقق بفعل الأموال الاغترابية من جهة، وأشكال الدعم المادي الايراني من جهة ثانية، مترافقاً مع بدء الهيمنة على المرافق الرسمية العامة في المطار والمرفأ والعديد من الدوائر الحكومية. في المقابل لم يستطع الحزب ايجاد ارضية فعلية لمثل هذا النشاط في مناطق سيطرة احزاب الطوائف المسيحية مثل الاشرفية أو عين الرمانة وفرن الشباك، وعلت الصرخة لمنع هذا التمدد عقارياً وأمنياً من جانب المرجعيات الدينية المسيحية والمؤسسات التابعة لها، إلى جانب البلديات التي تشرف عليها تلك الاحزاب، بما فيها تلك التي تتبع حليفه التيار الوطني الحر بعد اتفاق مار مخايل.
وهذا الاداء السياسي الذي مارسه الثنائي قد أجهض على كل ما تمثله مدينة بيروت من أدوارها الاقتصادية ـ السياسية – الثقافية لمصلحة الضاحية الجنوبية من بوابة نشوء الفروع المصرفية ومكاتب الصيرفة ومؤسسة القرض الحسن في الغبيري والمشرفية وحارة حريك. ومن خلال شراء والحصول على تراخيص لوكالات حصرية لتصنيع العديد من المنتوجات، أو وكالات تجارية لممارسة الاستيراد والتصدير وتمريرها من الجمارك بأقل ما يمكن من ضرائب. هذا عدا تأسيس العديد من المراكز السياحية والخدماتية من فنادق ومطاعم ومقاهي الأرصفة وغيرها، وعندما يتم التجاوز يتم اللجوء إلى شوارع ومناطق في الضواحي الشرقية كشارع بدارو ومونو والجميزة قبله. كل هذا قاد إلى الاستغناء عن مدينة بيروت وتهميش دورها، واستغلال ما اصابها من موات، خصوصاً بعد اقفال الوسط التجاري في أعقاب نصب خيام الاعتصام فيه، وترافق ذلك مع تراجع مناطق وشوارع الحمرا ومار الياس وكورنيش المزرعة وبربور وغيرها، فضلاً عما لحق بالمؤسسات والمرافق والفروع المصرفية بما فيه المصرف المركزي خلال أشهر الانتفاضة، مع ما شهدته من خراب على يد بعض المجموعات العبثية، أو هجمات الميليشيات الطائفية على ساحات الانتفاضة وبعض شوارع الموصلة لها في الحمرا وفردان على سبيل المثال، خلافاً لما كانت عليه احوال تلك المؤسسات في الضاحية التي حافظت على ديمومة عملها. الامر الذي انعكس سلباً على دور العاصمة الريادي على الصعد الاجتماعية والسياسية والثقافية والسياحية والتعليمية.
الزعامة الجنبلاطية
ويبقى الراسخ والثابت منذ عقود متمثلاً بالزعامة الجنبلاطية على المكوّن الدرزي في المدينة، حيث لم نشهد اي خروج وازن عليه، وظل ممسكاً بقرار الطائفة كمجتمع أهلي ضمن مجتمع العاصمة، حيث تحولت الى تجمعات طوائفية أهلية لا رابط بين مكوناتها.
وأما الوجود الدرزي في مدينة بيروت تموضع تاريخياً في مناطق وطى المصيطبة، فرن الحطب، كركول الدروز، عين المريسة، ساقية الجنزير وجل البحر. وفي مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي كان حضور الحزب التقدمي الاشتراكي كبيراً في بيروت، وتوسّع دوره بعد تصفية حركة الناصريين المستقلين – المرابطون بقرار سوري، حيث إلتجأ عدد من البيارتة السنة المتضررين من النفوذ السوري وحركه أمل كما الاكراد وعرب المسلخ الى الالتحاق بالحزب التقدمي على رافعة موقعه القيادي السابق في الحركة الوطنية اللبنانية من ناحية، وموقعه الطائفي الذي لا ينافس فيه سنة بيروت، عطفاً على خلافه مع الشيعية السياسية وتمايزه عنها، وهي التي كانت تعمل بدأب على احتكار وحدانية التمثيل الشيعي عبر تصفية ما تبقى من الوجود اليساري داخلها. ولكن احتدام المعارك العسكرية بين الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة امل (معركة العلمين) وغيرها أواخر ثمانينات القرن الماضي قاد الى خروج الحزب عسكرياً من بيروت، وتقلص دوره السياسي البيروتي السني والشعبي، ومع دخول الجيش السوري للعاصمة مجدداً فقد دوره الوازن في العاصمة، ما اضطره للعودة الى الجبل والتمركز فيه محاولاً تلافي تحجيمه، وبما فيه الاندراج في ما رُسم له من دور ضمن الاتفاق الثلاثي وغيره من ترسيمات تقرر الخروج بقراراتها من العاصمة دمشق للامساك بالبلاد من بواباتها الحزبية والاهلية. هذه التحولات جعلت قسم من سنة بيروت مكشوفين اكثر من ذي قبل، وخسروا حليفاً كانوا يعولون عليه ويحتمون تحت ظله .
رغم هذه التطورات بقي تمثيل الطائفة الدرزية محصوراً في اطار الحزب التقدمي الاشتراكي والزعامة الجنبلاطية، ولم يفلح حزب التوحيد حديث النشأة الذي أسسه وئام وهاب بعد مغادرته الحزب الاشتراكي، وكذلك طلال ارسلان وريث الزعامة الارسلانية، في أن يجدا لهم ارضية سياسية وشعبية درزية في بيروت، واقتصر وجودهما على بعض المجموعات الصغيرة التي لا تأثير لها على المناخ العام للطائفة الدرزية التي باتت منذ حرب الجبل، وما أعقبها قاعدة استقطاب جماهيرية بالنظر للدور الدفاعي الذي لعبته الجنبلاطية على امتداد عقود طويلة. ثم إنه ليس لارسلان ووهاب ما يقدمانه لها في العاصمة بعد أن غرقت سوريا في أوحال حربها الاهلية. وقد إنسحب هذا الامر على بعض مجموعات الانتفاضة، وخاصة البيروتية التي تشكلت، إذ لم تستطع أن تجذب المكوّن الدرزي البيروتي إلى ان يلعب دوراً مؤثراً وبارزاً في عملية التتغير، بل جانبوا هذا الدور وسلكوا مسلك الحفاظ والتمسك بمواقعهم التمثيلية الطائفية… يتبع حلقة ثانية.
Leave a Comment