سارة مطر*
أفرغت خمس عشرة سيدة من أهالي المفقودين والمخفيين قسراً في لبنان، آهاتهنّ وجراحهنّ النازفة على الورق بحثاً عن صدى. سردن حكايات تختزل أربعين سنة من القهر والوجع والمعاناة، بما فيها من محطات وذكريات عبر كتاب “طواحين الهوى”، وهو التجربة التوثيقية الأولى من نوعها للجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، بالتعاون مع “المركز الدولي للعدالة الانتقالية”.
من خلال 147 صفحة باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية، ينقل “طواحين الهوى” عذابات الأهالي، ومحاولتهم تدوين قصصهم، والتعبير عن مشاعر الألم والأمل، علّها تُحفظ في الذاكرة الجمعية للبنانيّين.
في تمهيد الكتاب، توضح “لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين” أن “المأساة طالت، وصار لزاماً أن نبوح بعد انقضاء أربعين عاماً على بدء تحركاتنا في الشارع. آن الأوان لخرق جدار الصمت، والإفصاح عن المشاعر والمعاناة”.
وتحت عنوان “هذه حكايتي”، تروي فاطمة جمال حسرتها على شقيقتها حلميّة، والتي اختُطفت مع أطفالها الستة في منطقة النبعة ببيروت في عام 1977. تسترسل: “كانت حلميّة شابّة جميلة وطيبة ومتسامحة. أتساءل: هل شاب شعرها وبدأت التجاعيد تظهر على ملامحها مثلي؟ أحياناً أحلم أنّها تطرق الباب لترتمي في حضني، وكم أحلم أن نذهب سوياً لزيارة قبر أمي وأبي لنطمئنهما على عودتها”.
بدورها، تختصر فردوس نزيه آغا، لوعة فقدان والدها في منطقة عبرا في عام 1982، قائلة: “اختفى أبي. لكنه لم يختف من عقولنا وقلوبنا”، وفي صفحاتها المعنونة “ويبقى الأمل”، تضيف: “لا أنسى أبداً ذاك العيد، حين جلسنا أمام صورته المعلّقة، ننظر إليه بتوسّل وضعف، ونرجوه أن يعود إلينا. ضاع أبي في غياهب الحياة”.
أربعون سنة مرت بينما سهاد كرم، تكرر سؤال واحد: “أين أنتَ؟”. فالسيدة التي فقدت زوجها سالم جرجس كرم في عام 1983، ارتأت توثيق معاناتها تحت عنوان “اسألني”، وكتبت: “كم أودّ أن أسمع صوتك تسألني هل حاولتم بكل الطرق لأعود إليكم؟ انده بأسمائنا، فقد اشتقنا لسماعها منك. امرأتك الصبية يا سالم أصبحت في أوائل السبعينيّات. خطوط وعلامات الشيخوخة على وجهها تُظهر معاناتها. ما زلت أراك مغادراً، ملوّحاً لصغيرنا، وواعداً إيّاه بالعودة سريعاً. ما زلنا ننتظر عودتك”.
ومن خلال “رحلة في ماض أليم”، تستذكر سعاد يوسف أبو نكد كلمات والدتها: “لن أترك الشباك، ماذا لو مرّ من دون أن أراه؟”. فقدت سعاد شقيقها جورج على طريق زحلة– ضهور الشوير في عام 1983، وتلفت إلى أن “جورج كان يملأ البيت حياة وفرحاً، وحياتنا توقفت مع اختفائه. عندما انتبهت أمي إلى شيخوختها، صارت تردّد: إذا رجع أخوكم وأنا لست هنا، روحوا اطرقوا على قبري وأخبروني أنّه رجع، قد أعود إلى الحياة وينبض قلبي من جديد”.
وتعبّر رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين، وداد حلواني، وهي إحدى مؤلّفات الكتاب، عن أملها أن “تساهم هذه الحكايات النابعة من القلوب في التخفيف من حرقتها وثقل ما فيها، وأن تشكّل الصفحات الممهورة بختم أهل القضية مرجعاً لكتابة تاريخ حرب الـ15 سنة (1975– 1990)، حتى تنذكر تما تنعاد”.
وفي محورها بعنوان “شاناي: من فسحة حبّ إلى ساحة حرب”، تروي حلواني حجم المأساة التي قاستها برفقة طفلَيها في بلدة شاناي (جبل لبنان)، مختصرة هول التحديات وبشاعة الحرب والاجتياح الإسرائيلي، قائلةً: “أتعبتني الحرب وهدّتني وشلّتني. لا أعرف كيف استطعتُ أن أبقى أمّاً في يوميّاتٍ من الجحيم التي تشبه فيلم رعب؟”.
تمكنت وداد من إنقاذ طفلَيها، والفرار باتجاه منزل أهلها في طرابلس (شمال) بعد رحلة محفوفة بالمخاطر، لكن لم تكتمل فرحتها. إذ إنها بعد إعلان إسرائيل انسحابها، قرّرت العودة إلى العاصمة للاجتماع بزوجها، عدنان حلواني، والذي اختُطف من داخل منزلهما في بيروت في عام 1982. وهنا بدأت الحكاية.
تربط حلواني في حديثها لـ”العربي الجديد”، عنوان الكتاب بكون الهوى يعني الحب والاشتياق، والطواحين تشكل دلالة على المعاناة الطويلة. “صادف أن أنجزنا الكتاب بالتزامن مع اليوم العالمي للوالدين (1 يونيو/حزيران). وكم من عائلة تعاني من حرقة فقدان أم أو أب من جراء الحرب، كما أنّنا اخترنا 15 قصة من بين مئات القصص الأليمة، وهي قصص قصيرة تمثل عيّنة متنوّعة لأهالي المفقودين. (طواحين الهوى) يُعدّ شكلاً جديداً من أشكال النضال، ويظهر حجم الفراغ والشوق الذي تركه كلّ مفقود”.
وفي مقدّمة الكتاب، تقول مديرة برنامج لبنان في “المركز الدولي للعدالة الانتقالية”، نور البجاني: “هنا صوت نساء يكتبنَ بأقلامهنّ مشاهد عَمت عنها أعيننا. في هذه الصفحات تأتمننا النساء على قضية حملنها حيثما دُرن وكيفما دار الزمن”.
وتحت عنوان “من خلف المرايا تأتي الحكايات”، تسرد ليلى الشباب حسرتها على فقدان شقيقها أنطوان في عام 1986، وتتذكر لعب الغمّيضة مع أخيها عندما كانت في السادسة من عمرها، وكيف يحملها مدندناً: “ليلى بالوادي، بتصرخ بتنادي، عسكر بغدادي يا ماما، يا ماما خطفوا ليلى”.
تعبّر مريم سعيدي عن لوعة فقدان ابنها ماهر قصير من الجامعة اللبنانية في الحدث (جبل لبنان) في عام 1982، وتكتب عن “عاصفة داخل جسد”، وهي التي لجأت إلى الفنون التشكيلية لتحاكي ملامح ماهر.
بدورها، تكتب نبال رضوان قصّة فقدان شقيقها غالب رضوان في عام 1978، تحت عنوان “واقع يفوق الخيال”، وتختار سعاد الهرباوي عنوان “أمّي المتسوّلة” لتحكي عن مأساة خطف شقيقها أحمد في عام 1975. أمّا مي أحمد، فتسرد حكاية خطف والدتها وأشقائها الثلاثة في عام 1976 تحت عنوان “من غير وداع”، وتتحدّث حياة ماضي عن “ماضٍ لا يُنسى” مع فقدان والدها في عام 1982، وتؤكّد أنجاد المعلم مواصلة النضال تحت شعار “سأستمرّ”، لمعرفة مصير والدها عبد الهادي الذي اختُطف في عام 1984، وتختزل يولّا فرحات حسرتها على فقدان والدها أديب في عام 1977، تحت عنوان “لم يعد بعد”.
وارتأت سوسن كعوش الحديث عن فقدان شقيقها محمد في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1980، تحت شعار “خطوات وأثر”. ويُختتم كتاب “طواحين الهوى” بقصة نهاد الجردي، والتي خُطف ابنها أيمن سليم في عام 1982، تحت عنوان “وراء كلّ باب حكاية”.
ويُعدّ الكتاب باكورة ورش عمل نظّمها المركز الدولي للعدالة الانتقالية حول الكتابة الإبداعية للسيدات الـ 15 المشاركات، تحت إشراف الكاتبة فاطمة شرف الدين، وأُنجز بدعم من وزارة الشؤون الخارجية الهولندية، وصمّمت الفنانة تانيا رضوان رسوماته بما يعكس قصص الأهالي ويحاكي أوجاعهن.
*نشرت في العربي الجديد في 1 حزيران / يونيو 2023
Leave a Comment