كتب بول طبر
التراث الفكري والسياسي لليسار مطبوع بدرجة عالية من الوثوقية تقوم على اعتبار أن المتحدرين من النسخة الشيوعية-الماركسية، يملكون الحقيقة المطلقة عن المجتمعات التي يتواجدون فيها، وأن كل من يختلف معهم (“معهم” تشير في الواقع ليس لجميع المنضوين في العمل والمعسكر الشيوعي، وإنما إلى “الأمين العام” في نهاية التحليل، والتوجهات التي يتبناها إنطلاقاً من الموقع والنفوذ اللذين يمتلكهما)، فهو في عداد الخصوم والأعداء، وهذه من الصفات الممهِّدة لخيار تصفيتهم، أو زجهم في السجون إذا ما قيِّض لـ”الحزب” الحديدي أن يستلم السلطة. فما بالك بـ”الأعداء” من خارج الصف الحزبي؟
وليس جديداً على القاريء الإشارة إلى ما أوصل إليه هذا النمط من التفكير من مآسٍ وسقوط مدوٍ لـ”المعسكر الإشتراكي” أمام التفوق النسبي لتجارب البلدان الرأسمالية وقدرتها على الإستمرار رغم المشاكل العديدة والبنيوية التي تعاني منها. كذلك فإن تراجع الأحزاب الشيوعية في أنحاء العالم، لا بل ضمور شعبيتها، وغالباً تحللها بالكامل، والتحاق أعضائها بقوى لا تحمل الهوية الشيوعية بات شائعاً، ولا حاجة لنا للبرهنة عليه.
المصير الذي وصلت إليه الأحزاب والأنظمة “الشيوعية” في العالم لا ينبغي بالطبع أن يدفعنا لتقبل الأنظمة الرأسمالية القائمة، والدعوات المرافقة التي تدعو إلى تبني “نهاية التاريخ” عند أعتاب هذه الأنظمة. فكما أن مصير البلدان الشيوعية وأحزابها بات واضحاً لا يتقبل النقاش، فإن المشاكل والأعطاب العديدة للأنظمة “الرأسمالية” ولما تتضمنه من انتاج للتفاوت الإجتماعي والسيطرة المتنوعة المصادر والقهر والحروب، إلخ، لا يمكن التنكر لها ولنتائجها المشينة بحق الإنسان والطبيعة. بكلام آخر، أرى أن الدعوة لتغيير الصفات الاساسية للأنظمة الرأسمالية لا تزال ضرورية وملحة، لكن المطلوب أيضاً بالترافق مع تلك الدعوة، هو إعادة النظر النقدي بالتراث اليساري الشيوعي وبالتجارب الفاشلة التي أفرزها وصولاً إلى إعادة تعريف المشروع اليساري بما يضمن تجاوز النظام الرأسمالي، وعدم الوقوع في مطبات ومنزلقات “المعسكر الإشتراكي”.
أريد هنا أن أناقش مسألة أساسية في سياق تشخيص الأسباب السياسية-الفكرية في التراث الماركسي-الشيوعي التي لعبت دوراً حاسماً في سقوط التجارب “الشيوعية الحية” في عالمنا المعاصر. إنها مسألة الحرية والديموقراطية التي من دونها لا يستقيم الكلام عن الحرية. اليساريون “الشيوعيون” يدافعون عن الحرية، إلا أنهم يستهزئون بالديموقراطية بنسختها “البرجوازية” الغربية، ويتبنون “الديموقراطية الشعبية” بدلاً منها. وكما أشرنا سابقاً، فإن التطبيق العملي لـ “الديموقراطية الشعبية” أدى ليس فقط إلى نسف الديموقراطية كنظام سياسي عام، بل ايضاً إلى خنق الحرية الفردية والجماعية بالأساس. أما مفهوم الحزب الطليعي وبنيته التنظيمية-السياسية التي تعتمد على “المركزية الديموقراطية”، فقد أوصلت إلى إلغاء الديموقراطية داخل الحزب، واختزاله وقراراته بـ “امينه العام”، كما أوصلت الحزب بشخص “أمينه العام” إلى احتكار امتلاك “الحقيقة” واختزال “الشعب” والإدعاء بأنه الممثل الفعلي لمصالحهم والمعبر عن إرادتهم “الحقيقية”.
إذن هناك غياب مركب للحرية والديموقراطية في تجربة “الشيوعية” التي اختبرناها في عصرنا: غياب لهما في الثقافة السياسية التي شيَّعوها، وفي بنية الحزب الداخلية أي أداة التغيير المنشود، وأخيراً غياب للحرية والديموقراطية في الدولة والمجتمع بعد استلام الحزب للسلطة. من هنا يصبح السؤال المركزي بالنسبة للمعارض للنظام الرأسمالي “الديموقراطي” والناقد لأدائه والمتطلع لتجاوزه كالتالي: كيف يتم بناء مجتمع يسعى للإلغاء (ولا أقول بوثوقية إيمانية “لإلغاء”) مشكلة الفقر والتفاوت الطبقي وتجاوز أشكال السيطرة والتمييز كافة؟
وبجواب بسيط ومباشر، يتم ذلك باستعادة وترميم المكانة المركزية للحرية والنظام الديموقراطي: أولاً، في الثقافة السياسية لمن يسعى لتغيير النظام الرأسمالي، وثانياً، في بنية الأحزاب التي تسعى لتحقيق هذا المشروع، وبنية السلطة التي تدير عملية التغيير المنشود، وأخيراً، في تركيب المجتمع عموماً ومؤسساته التي لا تنتمي رسمياً إلى الدولة.
هذه المطالب الثلاثة تدفع بنا إلى كشف تداعياتها على مستوى هدف المشروع التغييري والطريق الأنسب إلى إنجازه، وكذلك تداعياتها بالنسبة إلى تناقضها مع النظام الرأسمالي الليبرالي، وعلى كيفية إدارة الصراع مع القوى الممثلة والداعمة لهذا النظام.
الحفاظ على الحرية والسيادة الفردية والتمسك بالنظام الديموقراطي إطاراً عاماً لهما (مبدأ تداول السلطة وبالتالي مراقبتها ومحاسبتها دورياً، فصل السلطات، المساواة أمام القانون، إلخ) وبناء مجتمع ينتفي فيه الإستغلال والتسلط على قاعدة التمييز بين أفراده، طائفياً أو إثنياً أو جندرياً أو غيرها، أقول أن هذه الشروط إما أن تتحقق بالتكافل والتعاون مع بعضها البعض، أو أن مصيرها سيكون الفشل والخضوع لمصالح تؤدي إلى نسفها وتحويرها إلى عكس الأهداف التي تتضمنها. وهذا هو بالضبط ما يفعله النظام الرأسمالي الليبرالي والفئات المتحكمة به رغم الإنجازات التاريخية الهامة التي حققها لغاية الآن. فكيف للحرية والسيادة الفردية أن تتحقق إذا كان “مالكو أدوات الإنتاج” (المال والشركات والعقارات إلخ.) يستغلون العمال الأجراء ويتحكمون بفرص عملهم بموجب مقتضيات الإستثمار والربحية؟ وماذا عن التمسك بهذا النظام الإقتصادي وتطبيقاته بدرجة أعلى من الإستغلال (كما حدده ماركس وبيَّن جوانبه العديدة) في البلدان النامية وعلى حساب تدمير الطبيعة وعدم الإكتراث بمستقبل حياة البشر في “بيئة نظيفة”؟ أكتفي بذلك لأقول أن النظام الإقتصادي الرأسمالي ليس فقط ينتهك الحرية والسيادة الفردية، وإنما أيضاً يدفع بأصحاب المال والثروة لإخضاع النظام الديموقراطي وتوظيفه لخدمة مصالحهم والحفاظ عليها. وبذلك تتعطل مبادىء تلك النظم وتُنْتَهك مبادىء التداول السلمي للسلطة والمراقبة والمحاسبة إلخ. واحياناً يتم استبداله بنُظُم ديكتاتورية وشعبيوية.
كذلك فإن السعي لإلغاء النظام الإقتصادي الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (الرأسمال وغيره) في ظل نظام سياسي لا ديموقراطي ونافٍ للحريات العامة والخاصة يكون مصيره شبيه بما حدث لـ “المعسكر الإشتراكي” ولا يزال يحدث في البلدان التي تنتمي إلى هذا المعسكر (رغم التقدم الهائل الذي تحققه الصين على المستوى الإقتصادي، فإن نظاميْها السياسي والإجتماعي يعانيان من درجة عالية من التسلط والتمييز العائدان أساساً إلى غياب الحريات والنظام الديموقراطي).
باختصار شديد، لا نهوض لليسار في مواجهة النظام الرأسمالي، إلا إذا أعاد تعريف هويته السياسية على قاعدة تبني النظام السياسي الديموقراطي الليبرالي، والحفاظ على الحرية الفردية والحريات العامة. وبدلاً من الإمساك عن التطبيق الفعلي لمبدأ المساواة في المجال الإقتصادي وأنشطته، كما يفعل النظام الرأسمالي المعاصر، أي حصر هذا المبدأ في المجال القانوني والسياسي، واعتباره مطبَّقاً كذلك في المجال الإقتصادي تحت مسمى حرية الأفراد عند دخولهم الطوعي إلى سوق العمل والإستثمار، بدلاً من كل ذلك، ينبغي الكشف أن المساواة وحرية الفرد والحريات العامة في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة تقف “عند عتبة المصنع” (ماركس) وفي أماكن الإنتاج الأخرى، ولا مجال لتطبيقها في المجال الإقتصادي طالما حافظت هذه المجتمعات على إستغلال اليد العاملة والعمل المأجور وعدم المساس بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. فمع منع الإستغلال وإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (بالطبع دون العودة إلى صيغة التأميم على طريقة “المعسكر الإشتراكي”، وهذه مسألة غير محسومة ومفتوحة للنقاش) نكون قد ألغينا القاعدة الإقتصادية للتفاوت الإجتماعي وتشويه النظام الديموقراطي والإجتماعي الحر عن طريق تجييره لصالح “الأغنياء”، كما هو الحال في المجتمع الرأسمالي المعاصر.
وأخيراً، السعي لتحقيق مجتمع المساواة والحرية والديموقراطية على الصعيد القانوني-السياسي وفي المجال الإقتصادي والإجتماعي، يعني خضوع هذا المجتمع وجميع أشكال السلطة التابعة له ليس فقط للمراقبة والمحاسبة الدورية، وإنما أيضاً تأمين الإطار السياسي الذي يسمح بالتعدد في التمثيل السياسي وبالمنافسة الحرة لتحقيق الأهداف المنشودة، وبالتالي عدم السماح لأحد من القوى السياسية بأن يدعي الحق الحصري لتحقيق تلك الأهداف.
Leave a Comment