جورج الهاشم
الهجرة اللبنانية الموثَّقة الى استراليا تعود إلى أكثر من مئة وأربعين سنة. استمرَّت افرادية ومتباعدة حتى الحرب العالمية الثانية، وذاب معظمها في المحيط الانكلوسكسوني. برز الكثير من اللبنانيين الاوائل في الكثير من مجالات الحياة، ولكنهم ابتعدوا عن أصولهم اللبنانية. مع ازدياد أعداد المهاجرين، وخاصة خلال الحرب الأهلية اللبنانية، انتقلت بعض القرى اللبنانية، ولو بشكل مصغَّر، إلى ولاية نيو ساوث ويلز وخاصة إلى سدني وضواحيها: صرت تجد بنت جبيل مصغَّرة في أرنكليف وجوارها، كما تجد المنية والضنية في بانشبول ولاكمبا، وبحنين في اوبرن أو تنورين في غيلفورد وكفرصغاب في ثونلي وهكذا. وسيطر على هذه التجمعات كل ما هو لبناني من مطاعم فلافل وشاورما إلى أفران لبنانية إلى جميع أنواع المنتجات اللبنانية إلى محلات الاراكيل وطاولات الزهر. حتى أصبحت المأكولات اللبنانية من الأساسيات على لائحة طعام الاستراليين.
سنة 1972 وصل إلى حكم استراليا، رئيس حزب العمال، اليساري غوف ويتلم. إنتهج ويتلم سياسة مستقلة نسبياً عن السياسة الاميركية. اعتمد سياسة التعددية الثقافية بدل سياسة استراليا البيضاء والتي شجَّع المهاجرين، بموجبها، على الاحتفاظ بلغاتهم وتعليمها في مدارس بعد الوقت، من خلال منح تقدّمها الحكومة للمشرفين على هذه المدارس. كما أدخل تعديلات جوهرية على النظام الاسترالي كمجّانية التعليم حتى نهاية الجامعة، ونظام “ميدي كير” للعناية الصحية وغيرها من الضمانات. ورغم قصر ولاية ويتلم، انتهت سنة 1975، ورغم اقصائه بشبه انقلاب، الا أن الكثير من انجازات حكومته أصبحت من الضروريات المعاشة في الحياة الاسترالية العامة وحتى الآن. وبقي غوف ويتلم علامة فارقة في السياسة الاسترالية الحديثة.
استفادت الجمعيات والأحزاب والمراكز الدينية، وحتى الأفراد، من سياسة التعددية الثقافية فافتتحوا المدارس الاثنية، ومنها مدارس تعليم اللغة العربية في مناطق تجمّع اللبنانيين والعرب. وتشكّلت مجموعات ضغط من ناشطين من الجاليات الاثنية للمطالبة بتعليم لغات المهاجرين في المدارس الرسمية الاسترالية وخلال الدوام الرسمي. أو بمعنى آخر نقل مسؤولية تعليم لغات الجاليات إلى الدولة الاسترالية ووزارات التعليم فيها. وتحقَّق هذا المطلب سنة 1978 بإدخال اللغات الاثنية إلى المدارس الثانوية، وسنة 1980 بإدخالها إلى المدارس الابتدائية. وكان للغة العربية حصة وازنة. وكان لرفاق فرع منظمة العمل الشيوعي دور أساسي إن بتعليم اللغة العربية في مدرستين تابعتين للفرع، أو بالحركات المطلبية لادخال اللغات إلى المدارس الرسمية.
لعبت اللغة العربية، ولا زالت، دوراً أساسياً في الحفاظ على العلاقة بين الدول العربية ومغتربيها، وبين المغتربين أنفسهم. فالمناطق التي شهدت كثافة سكانية عربية، شهدت أيضاً حفاظاً مقبولاً على اللغة العربية بسبب التعامل اليومي من خلالها وترسيخها عند الاجيال اللاحقة من خلال التخاطب بها بالدرجة الأولى ثم بتدريسها. أما الذين انعزلوا بين أغلبية انكلوسكسونية، فلقد اضمحلت أو تلاشت علاقتهم مع أوطانهم الأصلية ومع بقية أفراد الجالية العربية في استراليا. وكم من متحدرٍ من اصول لبنانية مثلاً فقد كل صلة له بلبنان، أو بالجالية اللبنانية، عندما فقد لغته العربية. فهناك الكثيرون من عائلات عريقة في لبنانيتها مثل معلوف و خاطر و غزال أو منصور تفوَّقوا في مجالات عديدة في استراليا لكنهم قطعوا، أو كاد معظمهم، أية صلة لهم بلبنان أو بالجالية اللبنانية. وربما الأديب الاسترالي المشهور دايفد معلوف أوضح مثال على فقدان هذه العلاقة.
شكَّلت اللغة العربية في البداية عاملاً هاماً في حياة اللبنانيين اليومية، لأنهم لم يعرفوا لغة غيرها للتخاطب. فلغتهم الانكليزية شبه معدومة. وبقيت مكسَّرة معظم العمر، لأن غالبية المهاجرين الأوائل لم يكونوا من المتعلمين. فوجدوا صعوبات كثيرة في التكلم بالانكليزية وفي كتابتها. وكلما كبرت تجمعاتهم، كلما كبرت الحاجة إلى ضرورة تعليم أولادهم لهذه اللغة.
اللغة العربية اليوم موجودة على صعيد واسع في مجتمعنا الاسترالي. هي لغة التخاطب في بيوت كثيرة، فهي الثالثة في استراليا بعد الانكليزية والصينية (المندرين). إذاعات محليّة منها ما يبث على مدار الساعة. صحف عربية تصدر في استراليا، وخاصة في سدني، تُوَزَّع في جميع الولايات، رغم أن دورها يتراجع باستمرار لأسباب كثيرة. فضائيات عربية اقتحمت الكثير من المنازل. الانترنت والمواقع الالكترونية ابتدأت تتصدَّر المشهد مع وسائل التواصل الاجتماعي التي ألغت المسافات. المدارس الاثنية، أي مدارس بعد الوقت، منتشرة بكثرة. المدارس الرسمية والخاصة والدينية أدخلت العربية خلال الدوام الرسمي. العربية مادة رسمية في امتحانات الشهادة الثانوية العليا. معاهد وجامعات كثيرة تعلن عن برامجها العربية للمتكلمين ولغير المتكلمين بها. كتب متنوعة من شعر وقصة ورواية ودراسة تصدر بالعربية عن كتّاب محليين. نشاطات ثقافية وامسيات أدبية متتالية… فهل، بعد هذا المشهد، يمكننا اعتبار العربية بألف خير في استراليا؟ طبعاً لا. هناك صعوبات كثيرة تعترض تعليم اللغة العربية لا مجال لذكرها هنا. لكن يبقى المستقبل واعدأ. فمدارس تعليم العربي إلى ازدياد دائم. عدد الطلاب الذين يدرسون العربية يزداد أيضاً. ازدياد في عدد الناطقين بها. اضافة إلى عوامل ايجابية أخرى كثيرة.
Leave a Comment