زكـي طـه
بيروت 26 حزيران 2025 ـ بيروت الحرية
سريعا بدد وقف اطلاق النار بين إسرائيل وإيران بـأمر رئاسي أميركي مساحات القلق العارم الذي عّم المنطقة بأسرها. أكد ذلك مسارعة سائر دول المنطقة للترحيب بالقرار، والاسراع إلى إلغاء الاجراءات الاحترازية التي بلغت ذروتها مع إقفال اجواء دول الخليج العربي امام حركة الطيران المدني. وهي الاجراءات التي أعقبت تهديدات الحرس الثوري الإيراني بالرد على الغارات التدميرية التي نفذها سلاح الجّو الأميركي على مواقع المفاعلات النووية في بلاده.
صحيح أن النظام الايراني نفذ تهديداته التي لم توقع خسائر، وقد استهدفت صواريخه “قاعدة العديد” الأميركية في قطر. والمؤكد أن الادارة الاميركية قد تبلّغت مسبقاً بتوقيته ولذلك استحقت شكر ترامب. لكن المؤكد أيضًا وهو الاهم، أن الاتصالات الاميركية الايرانية في اطار المفاوضات القائمة بينهما، لم تتوقف طوال مدة الحرب التي لم تتعد إثنا عشر يومًا. وهي الحرب التي بدأتها اسرائيل ضد ايران، بالتنسيق مع الإدارة الاميركية وبضوء أخضر منها، جراء تعثر مفاوضاتها معها، ورفضها وقف تخصيب اليورانيوم وتفكيك المفاعلات النووية. وهذا ما أكده الرئيس الاميركي مراراً بشأن منع امتلاك ايران أي سلاح نووي، وتوافق مع إسرائيل عليه كاملا.
وفي اللحظة التي أجاز لإسرائيل بدء حربها على ايران، كان الرئيس الاميركي يُدرك أن المفاوضات مع ايران محكومة بعدم الاتفاق إذا لم تدّمر مفاعلاتها النووية. وعليه لم يتردد أثناء المفاوضات وخلال أيام الحرب في استخدام اساليب الترهيب والترغيب ضدها، والسعي لحشرها في زاوية ضيقة جداً، متعمداً حشد أوسع جبهة دولية للضغط عليها. ولذلك دفع بفرنسا والمانيا وبريطانيا لتبني الشروط الاميركية في المفاوضات معها. كما تعّمد إقفال الطريق أمام عروض الوساطة الروسية والصينية. ونتج عن ذلك عزلة سياسية خانقة لايران التي تعّذر عليها ايجاد من تستند عليه أو تستعين به.
اختلال التوازن السياسي والعسكري
في الوقت عينه، ظهر جلياً مستوى الخلل الفادح في توازن القوى العسكري لغير مصلحة ايران، وتكشف عجزها عن مواجهة آلة الحرب الاسرائيلية المتطورة. وشكل حجم الاختراق الامني الاسرائيلي للداخل الايراني، فضيحة مدوية لنظام الاستبداد والقمع، وللمفاعيل التدميرية لسياساته وممارساته التي مكنت اسرائيل في المحصلة من استباحته، ومن استغلال الامرين معاً، لتوجيه كم هائل من الضربات والعمليات التدميرية لمواقع ومراكز الحرس الثوري والجيش والاستخبارات وأجهزة ومؤسسات الدولة، ومن اغتيال عشرات القادة العسكريين والعلماء والخبراء. والاهم الاستثمار في الخسائر غير المسبوقة التي وقعت على المدن والمواقع الاسرائيلية جرّاء صواريخ ومسيرات ايران، لشن أوسع حملة تحريض وتعبئة للراي العام الدولي ضدها ولتحميلها مسؤولية الحرب، في موازاة حشد التأييد لها والتعاطف معها في حربها.
في هذا السياق نفذ الرئيس الاميركي قرار ضرب وتدمير المفاعلات النووية الايرانية، محذرا قادتها من عواقب الرد، وداعيًا إياهم إلى استئناف المفاوضات والاستسلام من دون قيد أو شروط، استنادًا إلى تبدل المعطيات بشكل جذري وفق تعبيره. في المقابل تواصلت جهود النظام الايراني لوقف الحرب وكان شرطها الوحيد وقف الضربات الاسرائيلية. وتكاثرت النصائح الاوروبية التي تطالبها بالعودة إلى طاولة المفاوضات مع اميركا. وبدا الرئيس الروسي عاجزًا عن المساعدة حتى كوسيط. ولتأكيد حاجة ايران لوقف الحرب، أعلن وزير خارجيتها أن بلاده لم تغادر طاولة المفاوضات التي انقلبت عليها الإدارة الاميركية. ما يعني أن طرق البحث عن مخرج لائق كانت مفتوحة ولم تتوقف. وعليه كان تنظيم الرد الإيراني الصوري الذي قوبل بشكر وتقدير الرئيس الاميركي لقادة ايران، قبل إعلان قبول الطرفين الإيراني والاسرائيلي وقف اطلاق النار وتوقف العمليات الحربية.
وقف اطلاق النار المبدئي!
من الواضح أن وقف اطلاق النار هو اتفاق شفهي مبدئي، تمَّ بنتيجة قبول ايراني تبلغته قطر، وموافقة اسرائيلية طلبها الرئيس الاميركي، الذي سارع إلى إعلان الاتفاق عبر تغريدة الكترونية، فاجأت الجميع قبل ان يتبعها بسيل من تصريحات الاشادة بالطرفين، والتحذير من خرق الاتفاق والدعوة الى احلال السلام. وبنتيجة ذلك بدأ سيل لن ينتهي من التحليلات والابحاث حول نتائج الحرب، وكيف توقفت، وطبيعة الاتفاق وحول مضاعفاتها على اوضاع بلدان المنطقة وقضاياها، وأزماتها الموروثة والمستجدة مع الحروب المستدامة والمتناسلة، منذ أن تأسست كيانات ودول، ومنها دولة إسرائيل، في اعقاب انهيار السلطنة العثمانية بنتيجة الحرب العالمية الاولى. وآخرها الحرب المفتوحة التي بدأتها اسرائيل على قطاع غزة والقضية الفلسطينية في آن قبل أن تمتد لتشمل سائر ساحات المنطقة وبلدانها وصولا إلى ايران.
كثيرة بل أكثر من أن تحصى هي الأسئلة التي تبحث عن أجوبة لها فلا تجدها. هل انتهت الحرب، ووفق أية شروط وعلى أية أسس ومن يحدد طبيعتها وضمانات عدم تجددها. وهل يمكن الركون إلى وعود الاستقرار وأوهام الديمقراطية الزاحفة مع السيطرة الاميركية على المنطقة، وشروط اخضاعها وفق مصالحها بقوة العدوانية الاسرائيلية. أما أن بلداننا ومجتمعاتنا لا تزال محكومة إلى مسارات جديدة ومتجددة من النزاعات والحروب الاهلية بإدارة اميركية ـ اسرائيلية تقرر مصيرها. وفي هذا السياق ومع وقف اطلاق النار وفق الإرادة الاميركية، ما هو مصير النظام الايراني الذي تدفع بلاده اليوم اكلاف مغامراته في البحث عن دور إقليمي على حساب مكوناتها المجتمعية والقومية والأثنية والمذهبية المضطهدة. وهو الدور الذي بات من المستحيل راهنًا ممارسته بفعل ما آلت إليه أوضاع البلدان العربية وايران نفسها بعد أن ساهمت بايديولوجيتها وسياساتها في تفكيك دولها ومجتمعاتها منذ ما يزيد عن اربعة عقود.
مصير النظام الإيراني
صحيح أن الرئيس الاميركي لم يطرح تغيير النظام الايراني، لكنه فتح الباب على هذا الاحتمال. والأمثلة حول ما حل بأمثاله من نظم الاستبداد التي غامرت ببلدانها اكثر من ان تحصى، سواء من كان خصما لها كما مع النظام العراقي، أو الانظمة التي تحالف معها كما في سوريا واليمن والسودان وسواها. ولا يختلف الامر بالنسبة للتنظيمات الاصولية التي استقوت به، أو ارتهنت لسياساته ومغامراته في أكثر من بلد ومنها لبنان وفلسطين. وما يؤكد أن مصير تلك البلدان بلغ مستوى التحديات الوجودية، هو واقع حال شعوبها التي تتابع أخبار العربدة الاميركية الاسرائيلية في المنطقة دون أي ردة فعل. ولعل المثال الأكثر سطوعا يتمثل فيما يتعرض له الشعب الفلسطيني من وأد لحقوقه وتصفية لقضيته ووجوده إلى حد الإبادة بالجوع والعطش والإفناء المادي.
ولا يختلف الامر بالنسبة للبنان الذي يواجه العدوان الاسرائيلي، وخطر تكرار إضاعة الفرصة المتاحة لإنقاذه، وإعادة بناء الدولة فيه بعيدًا عن المحاصصة الطائفية والفئوية. والخطر يؤكده تعثر مسار الاصلاحات المطلوبة على أكثر من صعيد اداري ومالي وقضائي من جهة. والعجز من جهة أخرى عن تحديد المصلحة الوطنية المشتركة بين اللبنانيين، على النحو الذي يمكن الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية من تنفيذ ما التزمت به من تعهدات تتعلق بحصرية السلاح بيد الدولة وتنفيذ القرار 1701 والتوحد في مواجهة شروط إسرائيل، واجبارها على الانسحاب من الأراضي والمواقع اللبنانية المحتلة.
هل انتهت الحرب الاميركية ـ الاسرائيلية في المنطقة وعليها. كيف تُقرأ نتائجها على سائر جبهاتها التي لا تزال مفتوحة. سيل الانتصارات الوهمية والهزائم يوازي سيل التحليلات والقراءات والتوقعات. لقد جربت مجتمعاتنا وشعوبنا إعلانات نهايات الحروب والثورات، وعرفت نتائج المغامرات التي انخرطت فيها. فهل بات بإمكانها الآن مراجعة تجاربها وتحديد أخطاء قواها وترصيد حساباتها مدخلا لتوليد ردود فعل يمكن البناء عليها والاستناد لها، ونحن نراهن على المستقبل. أم إن المنطقة لم تخرج بعد كل ما في جوفها من عوامل الانقسام والاختلاف والتفكك، ما يعني أننا لا نزال وسط مرحلة مفتوحة على المجهول في ظل أحكام السيطرة الاميركية ـ الاسرائيلية.