* الاستاذ وليد نويهض
حتى نقارب ما يحصل في الحاضر لا بد من العودة الى الماضي القريب.
قراءة الحاضر، كما يقول ابن خلدون في مقد مته، هو المدخل الى الماضي.
الحاضر هو مفتاح الماضي.
ايضا يقول ابن خلدون في مقدمته، أن لكل حادث اسبابه القربية والبعيدة.
اذاً ما يحصل الآن هو نتاج تراكمات تداخلت فيها العوامل الدولية بالاقليمية بالمحلية.
العنوان الابرز الذي يطغى على مجموع التضاربات يمكن تلخيصه بإعادة هيكلة الشرق الاوسط. فكل المؤشرات تدل على ان السياسة الدولية المعطوفة على المتغيرات الاقليمية تتجه نحو هندسة جديدة للشرق الاوسط.
هذا الكلام ليس جديداً. البداية كانت في الثمانينات حين أخذت تصدر عن صناع السياسة الدولية وأصحاب القرار والمراجع المركزية في اميركا تصریحات و تسريبات بشأن -بشأن عدم إستقرار الشرق الاوسط وضرورة إعادة النظر بخريطته الجغرافية والديموغرافية.
الى ذلك بدأت تصدر المقالات والابحاث والدراسات التي تتوافق نسبياً في توجهاتها الرامية إلى إعادة ترتيب اوراق الشرق الا وسط بذرائع شتى منها:
– انتقاد سياسة ترسيم الحدود التي أتبعها سايكس وبيكو بشأن المشرق العربي والعراق بعد إنهيار السلطنة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الاولى.
– انتقاد توزيع الخريطة الديموغرافية للشرق الأوسط وعدم احترام حقوق الاقليات ودمجها عنوة في اطارات سياسية تتداخل فيها شبكة العلاقات الاهلية من دون تمييز بين غلبة الاكثرية وإنكسار حقوق الاقليات.
– المطالبة باعادة هندسة الخريطة السياسة بشكل يتناسب مع التوازنات الدقيقة التي تجمع الاكثرية بالاقلية في کيان واحد، من دون مسّ بخصوصية الاقليات.
آنذاك في مطلع الثمانينات كانت المسألة غريبة وغير واضحة المعالم. لكنها أشارت الى إحتمال حصول شيء ما حتى تصبح الافكار العامة حقائق ميدانية يمكن المراهنة عليها بقصد تحقيق التغيير المطلوب.
لم يكن بالامكان معرفة التصورات لأن الفكرة كانت في بداياتها ولم تنضج آلياتها الميدانية بعد.
طبعا حتى تتحقق مثل هذه الاهداف البعيدة لا بد من توافر عوامل اقليمية ومحلية تساعد أصحاب القرارات الدولية على التدخل المباشر وغير المباشرة.
العوامل المطلوبة والمساعدة كانت متوافرة وعي منها:
– انظمة ديكاتورية استبدادية ظالمة.
– اضطهاد الناس من دون تمييز او ملاحقة حرية الكلمة.
– الظلم الاجتماعي المعطوف على الاستبداد السياسي.
– انشطار المجتمعات إلى منظومات أهلية (ملل، نحل، طوائف، مذا هب) و مجموعات اقوامية مبعثرة في المناطق والنواحي وزوايا الشرق الأوسط.
– كانت التضاريس السكانية جاهزة للارتطام عموديا ضد الانظمة المخابراتية المحتكرة للسلطة، وايضا تمتلك كل ما يتوافر من إستعدادات أهلية وأحقاد متوارثة للتصادم الافقي بين المجموعات العضوية.
كان من الصعب ان تنجح فكرة الشرق الاوسط الجديد من دون خلط الاوراق، وان تتوافر لها كل مقومات الانفجار العضوي الاهلي . فالاقتتال يتطلب تداخل الاسباب البعيدة (الموروثات المللية والنحلية العريقة في تكوينها الاهلي العضوي) بالاسباب القريبة وهي تتمثل بصدور خرائط بديلة تعيد النظر بتلك الرسومات التي صاغها الثنائي البريطاني – الفرنسي مضافة الى ذاك الوعد الذي اطلقه بلفور بشأن فلسطين.
مصادر مراكز القرار كانت تطمح الى تقسيم التقسيم وإعادة ترميم الردميات و اعمار المنطقة وفق مواصفات وتصورات ذهنية مخالفة لتلك التي صنعها الثنائي سايكس وبيكو وصاغها بلفور في وعده.
حتى يتحقق الهدف كان لا بد من حصول الانفجار الكبير ودخول المنطقة في حروب دائمة وفوضى خلاقة، كما صرحت مراراً وزيرة الخارجية الاميركية السابقة كوندوليزا رايس.
ايضا حتى تنجح المهمة وتتحول الافكار الى وقائع ميدانية، كان لا بد من ان تتوافر تقاطعات اقليمية / اقليمية مع المظلة الاميركية.
المشروع حتى يتحول إلى تجاذبات تزعزع الاستقرار ، كان يحتاج الى مساندة محلية تعتمد على قوى سياسية تطالب عن حق بالحرية والمساواة وتداول السلطة ومنع احتكار عائلات مستبدة بالهياكل الادارية للدول.
كذلك كانت المشروعات الدولية تلبي حاجات مصالح اقليمية تمتلك امكانات وقدرات وطموحات لتوسيع دائرة النفوذ في المحيط الجغرافي الجواري.
ادى تشابك المصالح والمطامع والحقوق المحلية والاقليمية بالمشروع الكبير القاضي باعادة ترسيم هياكل الشرق الاوسط الجديدة، الى اتباع استراتيجية التفويض تمهيدا للبدء في جدول اعادة تركيب الاحجار على رقعة الشطرنج.
تحت سقف هذا التصور العام يتمكن فهم الخاص. ويمكن من تحت هذه المظلة الكبرى متابعة كل ما جرى في العراق (1991 وثم2003)، وما حصل في سورية (بدءا من العام 2011)، وما شاهدناه في لبنان في حروبه الدائمة كذلك ما شاهدناه في فلسطين من تحولات وانقسامات بعد توقيع إتفاق اوسلو.
مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي بدأ الحديث عنه منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي، تطلب خوض موجات من الحروب والاضطرابات على مدى خمسة عقود وصولاً الى يوم 7 اکتوبر 2023…الذي شكل زاوية انعطافية في مجرى حروب الدمار.
الان كما تبدو صورة المنطقة من الاعلى إلى الادنى هي رقعة شطرنج تتحكم الادارة الاميركية في مسارها العام.
ايضاً يبدو المشهد من الادنى الى الاعلى هو مجموعة احجار مبعثرة تحتاج الى خريطة طريق لاعادة ترتيب هياكل الشرق الاوسط في سياق مخالف لما ظهرت عليه في نهاية الحرب العالمية الاولى.
بعد التقويض (التفكيك) هناك ورحلة انتقالية رمادية غامضة تمهد المجال للبدء في ترسيم خطوات إعادة التركيب حتى تكون منسجمة مع ما اسفرت عنه الوقائع الميدانية.
الان وصلت الأمور إلى ذروتها بعد الحرب على غزة وثم لبنان واخيرا ایران. وقبل ایران حصل الانقلاب الكبير في سورية.
نحن الان على مشارف خطة عمل تتنافس علی تقاسم النفوذ وبدء الخروج من هاوية جرفت إلى أوديتها مختلف الاطراف بغض النظر عن اختلاف الالوان الايديولوجية والمساحيق التي تخفف احيانياً من التواءات المواد الصلبة واحيانا أخرى تجعل من القوة الصاعدة مجرد ادوات لزجة قابلة للتكيف مع المتغيرات.
ایران الان بعد 13 حزيران 2025 لم تعد كما عرفناها بعد تقويض العراق وانهيار سورية وتدمير وابادة سكانها بالتوازي مع تفريغ مخيمات الضفة.
كذلك تم تجويف المحيط الجواري لفلسطين، اضافة الى زعزعة الاطار الجغرافي الذي يحيط بايران. فالمجال الديمغرافي لم يعد كما كان عليه الامر خلال النصف القرن الاخير.
التفويض ، كما تبدو الصورة تحقق ميدانيا، اما خريطة التركيب فهي تحتاج الى وقت بعد اتضاح معالم المرحلة الانتقالية.
الحرب تم توقيفها بأوامر اميركية، الا أن عناصر انفجارها لا تزال كامنة.
المنطقة في المرحلة الرمادية الانتقالية جاهزة سياسيا وعضويا للدخول في احتمالات افتراضية، تتحكم بها ممرات وطرق يمكن اختصارها بثلاثة خطوط:
اولاً ، طرق الحرير التي يعاد صوغها من الصين إلى اوروربا مرورا باوراسیان.
ثانياً ، ممر البهار الذي طرحته ادارة واشطن في عهد بايدن وهو يمتد من بومباي وصولاً الى حيفا، ويتجنب المرور في باكتسان وايران وتركيا ويعزل مصر وقناة السويس.
ثالثاً، ممر داوود، الذي طرحه نتنياهو، ويبدأ من حيفا ويصعد الى الجولان ويتمدد من جنوب سورية ويصعد شمالاً الى المثلث الحدودي الفاصل مع الاردن، ثم يهبط من المثلث السوري الاردني العراقي الى الفاو/البصرة ليسلك مساره البحري الى مضيق هرمز وصولاً الى الهند.
الرابح في المعادلة هو القابض على موزين القوى، وهو القوة القادرة على تحديد المسار الذي تسير عليه خطوط التجارة الدولية في القرن الجاري.
ومن يراقب تأرجح الموازين يستطيع ان يتوقع الخط التجاري الذي يتجه اليه المسار السيالي الاقليمي / المحلي والاهيلي تحت سقف انتداب دولي يشرف على حياكة التحالفات والاختلافات.
أذن خلط اوراق الشرق الأوسط وإعادة هيكلة منظومته الاقليمية الجديدة له اسبابه البعيدة الضاربة جذورها في القديم، واسبابه القريبة المتصلة بالمتغيرات الدولية التي طرأت على المنطقة بعد انهيار معسكرات الحرب الباردة.
قراءة الحاضر تساعد على الماضي، وما حصل ويحصل وسيحصل الان وبعد الان يعطي فكرة معقولة عن خلفيات وأبعاد الانهيارات التي عمت منطقة المشرق العربي بعد تفكك السلطنة العثمانية وتدخل المنظومة الدولية بشؤون الاقاليم.
*ينشر موقع بيروت الحرية نص المداخلة التي ألقاها الاستاذ وليد نويهض في الندوة الحوارية التي نظمتها منظمة العمل اليساري تحت عنوان: المنطقة بعد الحرب الاميركية ـ الاسرائيلية على ايران وانعكاساتها على لبنان تاريخ 2 تموز 2025.